يشعر المتابع للانتخابات الرئاسية في الجزائر أنه بحق أمام مسرحية انتخابية وسينما السياسية، فالكلّ يعلم نتيجة الانتخابات قبل بدايتها، ومع ذلك يبدو أنّ الناخب الجزائري أراد المحافظة على النظام الذي جعل من الجزائر عصيّة على حمى الثورات العربيّة، فالمواطن الجزائري يرى أنّ الثورات لم تجلب سوى الدمار والخراب للشعوب والدول على حدّ سواء.
لكنّ فشل الربيع العربي في عدة دول كسوريا ومصر واليمن وليبيا وتعثره في تونس التي تعتبر الأنجح على الإطلاق، لا يبرر بأي حال أن يحكم وطنًا في حجم الجزائر رئيسًا مقعدًا وعاجزًا وقد بلغ من الكبر عتيّا، فالجزائر تمرّ بلحظة فارقة في تاريخها في ظلّ متغيرات إقليميّة تميّزت بالتأزم من انقلابات وارتفاع حدّة التطرّف والإرهاب إضافة إلى اسشراء الأزمات الاقتصاديّة.
في ظلّ كلّ هذه التطورات اختار الشعب الجزائري المتميّز بارتفاع نسبة الشباب التصويت للرئيس “عبد العزيز بوتفليقة” لولاية رابعة، ربما توّجس من إعادة العشريّة السوداء التي شهدت صراعًا دمويًا بين السلطة والمتطرفين بعد الانقلاب على جبهة الإنقاذ (الحزب الإسلامي الذي فاز في الانتخابات).
قد لا تكون هناك غرابة في أن يكون للوطن رئيسًا مقعدًا وإن كانت سابقة من نوعها في تاريخ العالم العربي فإنّ أعتى دولة في العالم وهي الولايات المتحدة الأمريكية قد ترأسها المقعد “فرانكلين روزفلت” لأربع ولايات متتالية إلاّ أنه توفي بعد سنة من تجديد العهدة الرابعة.
لا ينسى المتابع للشأن السياسي أنّ من أسوأ الفترات التي عاشتها الولايات المتحدة الأمريكيّة هي فترة “فرانكلين روزفلت| والذي رغم كونه رجل أعمال ناجح ومالكًا لمناجم فحم في الولايات المتحده، إلاّ أنّ البلاد شهدت ركودًا اقتصاديًا تسبب في أزمة سنة 1929 حيث انهارت البورصة وأفلست مئات الألوف من الشركات لعل أهمها انهيار شركة “جنرال موتورز”، إلاّ أنّ اندلاع الحرب العالمية الثانية كان طوق النجاة الذي انتشل “أمريكا روزفلت” من هاوية الانهيار والركود، وذلك نظرًا لتزايد الطلب على الأسلحة الأمريكية من معسكر الحلفاء، وقد لعب روزفلت دورًا مهمًا في إنقاذ الولايات المتحدة من سيطرة الشيوعية.
ولعلّ ظروف الجزائر اليوم لا تختلف كثيرًا، حيث يرى البعض أنّ العالم مهدد بأزمة ماليّة عالميّة، وأنّ الإرهاب مستعد في كلّ حين للفتك بالبلاد، إلى جانب ما سماه أركان نظام حكم الرئيس بوتفليقة بتربص الإسلاميين للانقضاض على السلطة وتغيير طبيعة البلاد، إضافة إلى حمى الثورات العربية التي انتقلت من بلدٍ إلى آخر وانتكست في كلّ من سوريا واليمن ومصر وليبيا مع أنّها مازالت تعيش صعوبات في تونس المهد الأصلي للربيع العربي.
ليست سابقة أن يرأس وطنًا رئيسًا مقعدًا، ولكن السابقة أن يكون لشعب فتي رئيس عاجز ومقعد لا يكاد يردد القسم أمام المحكمة الدستورية ويتحدّث عن قيادة البلاد وحماية الأرض والأعراض والعباد وسلامة التراب ومناعة الوطن. فاز بوتفليقة لأنّ أركان حكمه يريدون الاستمرار في السلطة والاستمرار في نهب خيرات البلاد في ظل رئيس عاجز على أن يكون العين الساهرة على حماية مقدرات البلاد من النهب والسرقات.
فاز بوتفليقة بانتخابات لم يشارك فيها سوى حوالي خمسين بالمائة من عدد الناخبيين الجزائريين ومنذ يوم أداء القسم غاب الرئيس، غاب عن شعبه وعن الأحداث العالمية. ليس غريبا أنّ يحاول أي نظام الاستمرار في السلطة بأي ثمن كان، خاصةً في الدول العربية، ولكن الغريب ألا يكون لرأس نظام مسك زمام السلطة لثلاث ولايات متتاليّة خليفة يأخذ عنه المشعل ويواصل السير على نهجه، يبدو أنّ الإبقاء على بوتفليقة رغم مرضه وعجزه، هو إصرار على عدم ضخ دماء جديدة في النظام السياسي الجزائري، وبالتالي سيطرة القوى الراديكالية المتكلسة.
كما أنّ الإبقاء على رئيس منتهي جسديًا قد يخفي صراعًا بين من سيخلف الشيخ المقعد في أعلى هرم للسلطة، صراع قد يكون بين الجنرالات العسكريين والقادة السياسيين، لكنّ السؤال المطروح ما مكان شباب الجزائر وشاباتها في هذا الصراع؟
يبدو أنّ محاولة الإبقاء على نظام بوتفليقة الغاية منها سياسية فحسب دون النظر إلى المشاكل الاجتماعيّة التي سببها الأساسي هو وجود فئة من الانتهازيين تعودت على الاستثراء بالسرقات التي تنخر شعبًا يملك من المدخرات النفطية ومن الغاز الطبيعي الشيء الكثير، كما أنّ البلاد اليوم أصبحت تتطلب دستورًا جديدًا في ظل كتابة المجلس التأسيسي الذي أنتجته انتخابات 23 أكتوبر 2011 بتونس دستورًا عدّ من أهم النصوص الدستورية في العالم، إلى جانب ما قام به ملك المغرب من حدث غير مسبوق تمثل في كتابة دستور جديد للملكة يؤكّد على أنّ نظام المغرب يصنف ضمن الملكية الدستوريّة.
بين جارتين جددتا دساتيرهما بما يتوافق مع روح العصر والمتغييرات التقنيّة والتكنولوجيّة، يبدو أنّ شعب الجزائر الفتي والمواكب للتطورات التقنيّة لن يرضى بأقلّ من دستور جديد يفتح البلاد على الانتقال نحو الديمقراطية بطريقة سلسة لا دماء فيها ولا ضحايا.
كما يطالب الشباب الجزائري بإصلاحات مهمة خاصة في مجالات الصحة والسكن، وليس على الرئيس “الجديد القديم” سوى الاستجابة إن كان يقدر بصورته في حالته الصحية المتعبة التي تناقلتها وسائل الإعلام على الاستجابة، وتتلخص مشاكل الشباب الجزائري في انتشار تعاطي المخدرات والهجرة غير الشرعية وارتفاع حالات الانتحار إلى جانب قلة فرص العمل والتكوين، كما أنّ الحرمان والفوارق بين مختلف فئات الشعب هما اللذان ولدا العنف والاحتجاجات في وقت سابق وكان هدفها المطالبة بتحسين الظروف الاجتماعية.
هذا وتبقى معضلة الجماعات الدينية المتطرفة المسلحة التي قد تهدد استقرار البلاد بين الفينة والأخرى، خاصة بعد الاغتيالين اللذين استهدفا معارضين يساريين في تونس واستهداف عناصر في الجيش التونسي بمشاركة جزائريين، بالإضافة إلى ارتفاع حدة التوتر على الحدود مع ليبيا والتي منذ العمليّة العسكريّة التي قادها الجنرال المتقاعد خليفة حفتر ضدّ ما أسماه بالجماعات الإرهابيّة المتمثلة في التيارات السلفيّة وجماعة الإخوان المسلمين، أصبحت الجزائر مهددة في كلّ آن وحين بالدخول في حرب استباقية ضد هذه الجماعات بقصد المحافظة على استقرار الداخل وتجنب أي انفلات قد يؤدي إلى ثورة.
يبدو أنّ تجديد العهدة الرابعة للرئيس عبد العزيز بوتفليقة يؤكّد مقولة أنّ الجزائر هي الاستثناء في العالم العربي وأنّها لم تنتظر ثورات الربيع العربي لإرساء التعدديّة، فجزائريون يؤكدون بأنّ “انتفاضة سنة 1988” كانت بداية القطيعة مع نظام الحزب الواحد، ويتأكّد هذا من خلال تصريح وزير الخارجية الجزائري “رمضان عمامرة” الذي شدد بأنّ “المناعة الجزائرية تعود إلى ثورة التحرير وإرثها”.
إنّ رهان الجزائر على أن تقدّم الرئيس بوتفليقة على أنّه روزفلت العرب لم يأت من فراغ فالكلّ يعلم أنّ رزفلت المقعد استطاع أن يقود أمريكا المنهكة اقتصاديًا إلى أن تصبح الدولة المسيطرة التي تقود العالم اليوم، إنّ الرئيس المقعد منذ 11 سنة سبقت توليه رئاسة الولايات المتحدة لعهدة أولى استطاع تحقيق النصر للولايات المتحدة في حرب عالميّة جعلت البلاد تقفز من حالة الركود الاقتصادي إلى أول قوة اقتصاديّة في العالم .. فهل يستطيع بوتفليقة القيام بحدث غير مسبوق ويجعل الجزائر أشبه بأمريكا العرب؟؟