في مقطع فيديو نشرته على قناتها بموقع اليوتيوب بمناسبة انطلاق العام الدراسي الجديد، تفخر وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “الأونروا”، بتقديم خدمات التعليم لنحو نصف مليون فلسطيني مُسجلين في 708 مدارس منتشرة في الضفة الغربية وقطاع غزة والأردن ولبنان وسوريا، يوجه في جزء الفيديو الأول أحد الطلبة رسالة حماسية، وللمصادفة فإن هذا الطالب من مخيم البداوي وهو المخيم الذي تشهد مدارسه إغلاقًا واحتجاجات منذ أيام مع انطلاق العام الدراسي الجديد، فبماذا تفخر الأونروا؟
دمج المدارس: عودة المشروع إلى الواجهة من جديد
تأتي الاحتجاجات والإضرابات التي تشهدها المخيمات الفلسطينية في لبنان لتمثل رفضًا قاطعًا لمحاولات الأونروا تمرير مشروع دمج المدارس، حيث تسعى الأونروا هذه المرة إلى إغلاق ودمج مدارس في مخيمي الجليل والبداوي، الواقعين شرق لبنان وشماله، هادفةً من وراء تمريره تقليص ميزانيتها المخصصة لبرنامج التعليم، إذ تقتضي قرارات الدمج تخفيض عدد الصفوف من جانب، وإغلاق مدارس من جانبٍ آخر، بما يعنيه ذلك للأونروا من توفير على صعيد المصاريف التشغيلية ورواتب الموظفين.
لكن، وعلى صعيد الطلبة والمعلمين، فإن قرارات الدمج لا تشكل إلا إمعانًا في الوضع الكارثي الذي تحياه مدارسهم، إذ ستنتج عملية الدمج – إن مرت – زيادةً غير معقولة في عدد طلاب الفصل الواحد، أي أن الاونروا ستحشر 50 طالبًا في فصل هو أشبه بخم دجاج، لا يتسع لأن يضع المعلم طاولةً فيه، وهو وضع يعرقل سير العملية التعليمية داخل المدارس ويستحث ضغوط وأعباء إضافية على كل من الطالب والمعلم الذي أصبح مهددًا بوظيفته بفعل قرارات الدمج التي سيقضي سريانها التخلي عن معلمين وفصلهم من وظائفهم في مرحلة لاحقة، وهو ما دفعهم لتنظيم احتجاجات منذ اللحظة التي بدأ يتواتر فيها الحديث عن نية الأونروا إعادة طرح مشروع الدمج.
دمج المدارس إلى جانب تخفيض عدد الصفوف ورفع نسبة الطلاب داخلها وتجميد عملية التوظيف خلال السنوات الماضية وتقليص برنامج الدعم النفسي للطلاب وتحويل عقود الموظفين العاملين فيه من عقود دائمة إلى عقود يومية، تأتي جميعها كحزمة إجراءات تقليصية باشرت الأونروا تنفيذها عام 2015 محاولةً سد عجزها المالي، فسعت على سبيل المثال، منذ بداية العام الدراسي الماضي، إلى المضي في مشاريع إغلاق ودمج مدارس في صور وعدلون وصيدا وطرابلس في لبنان.
إلا أن الأمر جوبه حينها بالاحتجاجات والإضرابات وإغلاق المدارس من الطلاب والمعلمين وبتنظيم من اللجان الشعبية وأهالي المخيمات والفصائل الفلسطينية، وأُجبرت الأونروا على إلغاء مشروع الدمج في نهاية المطاف، ولكن عودة المشروع إلى الواجهة يعني أن الأونروا لم ترم أوراق مشروعها في سلة المهملات كما أوهمت الجميع، بل وضعته في درج مكتبها القريب، ولم تكن ترمي آنذاك إلا تمرير رياح الرفض التي هبت في وجهها.
تُناقض سياسات الأونروا التقليصية بحق برنامج التعليم ما طرحته في الإستراتيجيتين متوسطتي الأجل (2010-2015) و(2016-2021)، اللتين ترتب عليهما خطة إستراتيجية إصلاحية تستهدف خدمات الأونروا التعليمية، تشمل معالجة نظام الفترتين وإعادة تأهيل المباني المدرسية غير الملائمة وتقريب نسبة المعلمين إلى الطلاب، عبر بناء فصول دراسية أو الحصول على فصول دراسية إضافية أو زيادة عدد المعلمين.
لكن الأونروا أقرت إستراتيجيتها وباشرت في ذات الوقت سياسات إدارية وتربوية ساهمت في تراجع معدلات النجاح في الشهادة المتوسطة الرسمية، وفي انخفاض أعداد الطلبة الملتحقين بمدارسها البالغ عددها في لبنان 66 مدرسة للمراحل الثلاثة (الابتدائية والإعدادية والثانوية) موزعة على المخيمات والتجمعات الفلسطينية، ويتعلم فيها نحو 37 ألف طالب، بكادر وظيفي يصل 2134 موظفًا، وتمثل هذه المدارس الخيار الوحيد للاجئين في ظل الظروف الاقتصادية المانعة من أخذ خيار المدارس الخاصة، إضافةً إلى عدم استيعاب المدارس الحكومية اللبنانية لطلبة جدد.
سياسات الأونروا التقليصية تجاه برنامجها التعليمي لا تقتصر على المخيمات الفلسطينية في لبنان، بل تطال مثيلاتها في سوريا، إذ لا يزال طلاب مخيم (جرمانا) الفلسطيني الواقع بريف دمشق، يداومون في مدارس خارج مخيمهم، رغم وجود مدرسة داخل المخيم يتوافر فيها فصول فارغة، إلا أن الأونروا ترفض حتى الآن إعادة فتحها، ساعيةً لإبقاء الوضع الحاليّ، المتمثل بتعلم جزء من أبناء المخيم في صفوف مكتظة ومزدحمة في مدرسة المخيم، واضطرار الباقين للذهاب إلى مدارس تفصلها مسافات طويلة عن بيوتهم.
على إثر القرار الأمريكي حينها، رفعت الأونروا وتيرة إجراءاتها التقليصية بشكلٍ غير مسبوق، اُبتدأت بقرار جائر بفصل ما يقارب من 1000 موظف يعملون في مراكز خدماتها المختلفة في قطاع غزة
السياسة في قلب الإغاثة
أُسست الأونروا وفق قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 302 كوكالة مؤقتة بهدف توفير الإغاثة المباشرة والتشغيل للاجئين الفلسطينيين بعد النكبة، وتركز خدماتها في برامج التعليم والغذاء والتشغيل والصحة، وهي لم تأتِ – بالنسبة لكثير من الفلسطينيين – إلا بهدف تثبيت أوضاعهم آنذاك، وضبط رحى أقدامهم بين الخيمة ومراكز المؤن.
فلا عجب أن يروا اليوم سياستها المُنتهجة تمس مستقبلهم السياسي والقانوني والاقتصادي كلاجئين، فالعلاقة التي تجمعهم بها ليست إغاثية بحتة، ففي خلفية كل ما يجري اليوم، لا تَعمى الأعين عن رؤية الرغبة الأمريكية – الإسرائيلية – العربية الواضحة في إزاحة ملفات قضايا الوضع النهائي عن أي “تسويات” قادمة، التي تشمل إلى جانب عودة اللاجئين، القدس وتفكيك المستوطنات.
صورة نشرتها الأونروا لأطفال تلاميذ في مخيم البداوي بلبنان
ظهرت بوادر تلك الرغبة مع قرار الإدارة الأمريكية تخفيض دعمها السنوي المُقدم للأونروا – البالغ نحو ثُلث ميزانية الأخيرة – من 365 مليون دولار إلى 125 مليونًا، مع قطعه بشكلٍ نهائي لاحقًا، وهو القرار الذي اتخذه ترامب ليشكل كذلك ورقة ضغط على السلطة الفلسطينية تُجبرها على العودة إلى المفاوضات والعدول عن موقفها من مشاورات ما يسمى (صفقة القرن).
وعلى إثر القرار الأمريكي حينها، رفعت الأونروا وتيرة إجراءاتها التقليصية بشكلٍ غير مسبوق، اُبتدأت بقرار جائر بفصل ما يقارب من 1000 موظف يعملون في مراكز خدماتها المختلفة في قطاع غزة، ولن يكون منتهاها ما يجري اليوم في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين بلبنان وسوريا.