يهيمن اسمان على المشهد السياسي الحاليّ في مصر: الرئيس عبد الفتاح السيسي والمقاول محمد علي. يدير الأول الدولة المصرية بقبضة حديدية منذ انقلاب 2013، ويسيطر على جميع مراكز القوى من خلال استخدام الأجهزة الأمنية، وعدل مؤخرًا الدستور من أجل ضمان أنه سيظل في السيطرة الكاملة حتى عام 2030.
الأخير هو شاب ظهر فجأة على المسرح السياسي بعد أن فرَّ إلى إسبانيا، وكشف من هناك ما يدَّعي معرفته عن فساد النظام الذي نشأ وازدهر في حضنه، وخلال القيام بذلك، استخدم علي سلسلة من مقاطع الفيديو، وتولى دور “البطل القومي” الذي يملأ الفراغ المعرفي الذي تعاني منه السياسة المصرية.
محمد علي “الفنان”
حسب روايته الخاصة، ينتمي محمد علي المولود في 18 من يناير/كانون الثاني عام 1978، إلى عائلة من الطبقة المتوسطة تسكن حي العجوزة بمحافظة الجيزة، وكان والده يعمل أيضًا في بيع الذهب بالقاهرة لدعم أسرته.
لم تكن عائلته ثرية بما يكفي لمنحه تعليمًا عاليًا كما يقول، فقد حصل على دبلوم فني صناعي، ثم حاول استكمال دراسته في كلية التجارة بقسم التعليم المفتوح جامعة القاهرة، لكنه تخلى عن الدراسة بعد عامين وعمل في مهن مختلفة قبل الانتقال إلى مجال البناء والتشييد.
الدور الأبرز الذي سلط الضوء على الممثل الشاب كان في فيلم “البر التاني” الذي أنتجه ذاتيًا عام 2016، ولعب فيه دور البطولة
ووفقًا لما ذكره محمد علي في لقاء تليفزيوني على قناة “أون نت” المحسوبة على أجهزة المخابرات المصرية، تميز أيضًا في عدد من الألعاب الرياضية، ويقول إنه كان ذات يوم بطلاً للمصارعة ورمي القرص والجلة، فقد كان والده بطل مصر في لعبة كمال الأجسام في عدة بطولات عربية وإقليمية، ومدير فريق كمال الأجسام في مصر، وذلك وفقًا لصحف محلية مصرية.
في مجال الفن، لعب علي أدوارًا في عدد من الأفلام والمسلسلات التليفزيونية منذ عام 2103، بدأها من خلال دوره في فيلم “القشاش”، ثم شارك بالتمثيل في أفلام أخرى، مثل فيلم “المعدية” الذي شارك في إنتاجه، بالإضافة إلى عدد من المسلسلات الدرامية المصرية، مثل مسلسل “طايع” و”شارع عبد العزيز 2″ و”السيدة الأولى” و”صفحات شبابية”، وأغلبها من المسلسلات التي حققت نجاحًا في أثناء العرض في شهر رمضان.
الدور الأبرز الذي سلط الضوء على الممثل الشاب كان في فيلم “البر التاني“ الذي أنتجه ذاتيًا عام 2016، ولعب فيه دور البطولة، وشارك من خلاله في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي ضمن فعاليات الدورة الـ38 للمهرجان عام 2016.
في لقاء تليفزيوني على قناة “صدى البلد”، قال علي إنه استخدم أموال جمعها من أعمال البناء الخاصة به لتمويل الفيلم الذي بلغت تكلفته نحو 27 مليون جنيه مصري، ويروي قصة مأساوية عن شباب مصريين يقومون برحلة الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا عبر البحر المتوسط هربًا من الفقر رغم معرفتهم بالمخاطر التي تنتظرهم.
في يونيو/حزيران الماضي، منحت الهيئة الأوروبية للسلام والقيم الإنسانية الفيلم جائزة لوكسمبورغ العالمية للسلام، لتقديمه فنًا متميزًا من أجل السلام ومعالجة مشكلة الهجرة غير الشرعية، كما أعلن الصليب الأحمر عرض الفيلم في مدينة برشلونة الإسبانية.
بطل شعبي أم هارب؟
إلى جانب هوايته التمثيل، حصل الممثل الشاب على مدار الـ15 عامًا الماضية، بصفته صاحب لشركة “أملاك” العقارية – وهي من أهم عشر شركات مقاولات بمصر – التي تعاقدت مع الجيش المصري في مشاريع إنشاءات كبرى، على مقعد في الصف الأول في مجال المقاولات، حتى بات معروفًا الآن باسم “مقاول الجيش”.
في أبريل/نيسان الماضي، أعلن علي افتتاح مكتب في برشلونة لشركته “أملاك” للاستثمار والتطوير. في مقابلة مع مجلة “فانيتي فير” بالإسبانية، قال إن أول مشروع لشركته سيكون جامعة دولية على ساحل برشلونة.
في يونيو/حزيران، أعلن أن مشروعه العقاري القادم في برشلونة، يتضمن بناء “هرم زجاجي” على غرار هرم اللوفر بفرنسا، وبجواره ثلاث مداخن للطاقة تعتبر أثرية بمنطقة سانت أندريا على ساحل مدينة برشلونة، على أن يتم عمل متحف برعاية الأمم المتحدة به، بجانب مركز أبحاث لحقوق الإنسان.
لكن بعد ما قال إنه “ظُلم” تعرَّض له على يد جنرالات نافذة في الجيش المصري، أصدر محمد علي البالغ من العمر 43 عامًا سلسلة من مقاطع الفيديو بشكل شبه يومي من إسبانيا بعد خروجه من مصر، يعرض خلالها بالتفصيل كيف اختلس المسؤولون الملايين من الأموال العامة لمشاريعهم الشخصية.
أثار عمل علي كـ”مقاول عسكري” انتقادات من أولئك الذين يقولون إنه “منافق” يهاجم النظام نفسه الذي استفاد منه ذات مرة
وقبل مغادرته مصر بثلاثة أشهر، أعلن محمد علي، عزمه إنتاج فيلم بعنوان “الفرعون المصري” واكتفى بوضع تصميم ملصق دعائي كُتب عليه: “إنتاج مصري إسباني مشترك”، بصفحته على فيسبوك، وعلى ذمة هذا الإعلان المحدود، سافر محمد علي إلى إسبانيا ليستقرَّ في مدينة برشلونة، وتنقطع أخبار مشروع الفيلم تمامًا.
شرع بعدها في تفجير ألغامه، ونشر أسباب خروجه على حسابه في “فيسبوك”، وووجِّه اتَّهامات لأسماء كبرى في الجيش المصري، واصفًا إياهم بـ”أهل الظلم والاستعباد”، وأنَّهم “حطموا أحلامي وجعلوني أتغرَّب وأترك بلدي، خوفًا من بطشهم على نفسي وأولادي”، مهددًا بإماطة الِّلثام عن مزيد من فضائح الفساد في مستويات السلطة العليا والجيش المصري.
بالفعل، بدأ محمد علي، منذ 2 من سبتمبر/أيلول الحاليّ، عبر مقاطع الفيديو المنشورة على مواقع التواصل الاجتماعي، باتهام كبار جنرالات الجيش بعدم منحه ملايين الدولارات مقابل عدد من المشاريع التي بنتها شركته بالتعاون مع الجيش، رغم علمه أنَّه لن يستردَّ أمواله.
محمد علي مع قيادات الجيش في أحد المشروعات التي تنفذها شركته “أملاك”
وفي الوقت الذي طالب فيه بدفع نحو 200 مليون جنيه مصري (12 مليون دولار)، كشف الميزانيات المزعومة للعديد من المشاريع التي يشرف عليها الجيش وتنفذها شركته، وقال إن المشاريع قد أُسندت مباشرة إلى شركته دون إجراء دراسات جدوى أو عملية مناقصة تنافسية.
وبين عشية وضحاها، أصبح “مقاول الجيش” أحد أكثر الشخصيات البارزة والمثيرة للجدل في مصر، فهو بطل شعبي كما يراه البعض، وعدو الدولة للبعض الآخر، وهو ما استحوذ على اهتمام المصريين في جميع أنحاء العالم.
أثار عمل علي كـ”مقاول عسكري” انتقادات من أولئك الذين يقولون إنه “منافق” يهاجم النظام نفسه الذي استفاد منه ذات مرة، فقد كان جزءًا من الفضائح التي تحدث عنها، وقرر التحدث إلى الجمهور، لأنه لم يحصل على باقي أمواله.
ولا يتعاطف هؤلاء مع “مقاول العسكر” كثيرًا، لكن البعض يرى أنه لا يجب استخدام عمل علي السابق مع الجيش المصري لتجريمه، فمن السذاجة انتقاده فقط لأنه كان يعمل في نفس النظام الذي يكشف فساده الآن، حتى في القوانين المصرية والدولية، يمكن تبرئة شاهد على جريمة بعد تقديم أدلة لفضحها، حتى لو كان جزءًا منها.
سياسيًا، يقول محمد علي إنه لم يكن قط عضوًا في أي حزب سياسي أو ديني، وينفي أنه ناشط في أي مجال، كما نفى مؤخرًا ما بثته بعض وسائل الإعلام المحلية التي اتهمته بأنه يعمل لصالح جماعة الإخوان المسلمين المحظورة قانونيًا في مصر، وفي أحد مقاطع الفيديو الخاصة به، قال إنه شارك في الاحتجاجات ضد الرئيس آنذاك محمد مرسي في نوفمبر 2012.
لماذا كل هذا الاهتمام؟
لم يكن الوقت الذي أمضاه محمد علي أمام الشاشة كممثل ملحوظًا إلى أن بدأ نشر مقاطع الفيديو الخاصة به، التي أكسبته الكثير من المتابعة والاهتمام على الإنترنت.
يمكنك الآن رؤية العائلات والأصدقاء الذين نادرًا ما ناقشوا السياسة أو الذين كان لديهم آراء مختلفة للغاية يتفقون على تصريحاته، وآخرون يتصفحون كل ساعات حساباتهم على يوتيوب وفيسبوك لمعرفة ما إذا كان علي قد نشر أي شيء جديد بين عشية وضحاها.
لا تنبع جاذبية محمد علي من عرضه لحجم المشاريع التي يشرف عليها الجيش فحسب، لكن أيضًا اللغة المهينة التي استخدمها للإشارة إلى السيسي
في أول فيديو له، قال علي إنه يعيش حاليًّا مع أطفاله الخمس في المنفى الذاتي في برشلونة، إسبانيا، خوفًا على سلامة عائلته بعد أن قرر التحدث علنًا عن المشاريع التي كلف الجيش شركته للقيام لها.
وفي مقطع فيديو له بعد ظهر يوم الجمعة، قال علي إنه ظل هاربًا منذ ظهور مقاطع الفيديو الخاصة به، وأنه يسافر باستمرار بين المدن لتفادي القبض من عملاء الحكومة المصرية، وقال أيضًا إنه يخفي أطفاله في مكان مجهول لحمايتهم.
بالإضافة إلى ذلك، أثارت مقاطع الفيديو الخاصة بالمقاول محمد علي نقاشًا علنيًا عن التناقض بين السيسي الذي يحث المصريين على خفض إنفاقهم، واستخدامه المزعوم لميزانية الجيش لتمويل مساكنه الفخمة.
جعلت الطريقة المعبرة عن قول ما يريد الناس يشعرون بأنهم مرتبطون بأحاديثه عن الفساد داخل الجيش، فهو ليس ضابطًا يصرخ، ولا هو سياسي يرتدي بذلة خيالية، إنه رجل من الأثرياء ولكنه لا يخجل من جذوره أو خلفيته.
لدى محمد علي أيضًا “كاريزما” خاصة بحكم كونه ممثلاً، وله لغة جسد مرتبطة بعامة الناس من المصريين، وقد أدى ذلك إلى نشر مقاطع الفيديو الخاصة به بين أولئك الذين يتابعون السياسة الذين لا يهتمون بتفاصيلها.
ولا تنبع جاذبيته من عرضه لحجم المشاريع التي يشرف عليها الجيش فحسب، لكن أيضًا اللغة المهينة التي استخدمها للإشارة إلى السيسي، واصفًا إياه بأنه “رجل فاشل” و”عار” و”قزم”، بالإضافة إلى اتهامه بالفساد والنفاق.
ورغم أن السياسيين والصحفيين ينتقدون السيسي منذ فترة طويلة، ويوجهون الاتهامات نفسها ضده، إلا أن شهادة محمد علي كان لها صداها أكثر لدى الجمهور، لأنه شاهد عيان، وليس محللًا أو مراقبًا أو ناشطًا معارضًا.
ولا شك أن هذا التأثير الذي أحدثته مقاطع الفيديو الخاصة بالمقاول انعكس على تصريحات السيسي الأسبوع الماضي، عندما اعترف بأن “مزاعم” علي قد “تهز” ثقة الضباط المبتدئين في قادتهم.
محمد علي في منزله بإسبانيا بعد خروجه من مصر
في آخر تصريحاته العلنية التي أدلى بها خلال مؤتمر الشباب بالعاصمة القاهرة، يؤكد السيسي مزاعم محمد علي، قائلاً: “أنا عامل قصور رئاسية وهعمل، أنا بعمل دولة جديدة، بس مش بعمل لنفسي ولا باسمي، دا باسم مصر”.
ليس فقط الجمهور هو الذي أثاره اهتمام علي، لكن مسؤولي المخابرات حول السيسي اهتزوا أيضًا، فبحسب ما نقل موقع “ميدل إيست آي” عن مصدر تابع لجهاز المخابرات العامة المصري، فإن مسؤولي المخابرات نصحوا السيسي بتجاهل مقاطع فيديو محمد علي والامتناع عن الإدلاء بتعليقات علنية عنها.
لكن السيسي مضى قدمًا، وأدلى بتعليقات في مؤتمر الشباب على أي حال – في اعترافه الأول باتهامات علي – قائلاً إن أجهزة المخابرات توسلت إليه ألا يتحدث عن هذه المزاعم، لكنه فعل، وهو ما جعل تدخله غير مقبول بشكل جيد بين أوساط المخابرات، وبحسب المصدر، تسبب هذا بالفعل في بعض الغضب، خاصة أن الطريقة غير الرسمية التي استخدمها الرئيس لمعالجة الادعاءات وسعت النقاش بشأنها.
ومنذ الخطاب، كانت هناك عدة تقارير عن المعارضة بين المسؤولين العسكريين، لكن وزير الدفاع الفريق أول محمد زكي، سعى لإظهار عدم وجود انقسامات في صفوف الجيش، وقال، خلال لقائه عددًا من القادة والضباط والصف والجنود من مقاتلي قوات الصاعقة والمظلات: “الجيش على قلب رجل واحد”.
من أحضان الجيش إلى صفوف المعارضة
قليل من المصريين سمعوا عن المقاول والممثل المصري قبل 3 أسابيع، لكن حتى الساعات المتأخرة من مساء أمس الجمعة، كانت أجهزة الأمن تنتشر في الميادين وعلى الطرقات بعد دعوته المصريين إلى النزول للشوارع يوم الجمعة، للمطالبة بتنحي السيسي.
بالفعل، أثارت مقاطع الفيديو الخاصة به عن قصور السيسي الفخمة أثارت الغضب، وأبرزت التناقض الصارخ بين مزاعم الرئيس بأن المصريين “فقراء للغاية” وإنفاقه على القصور، كما أثارت شهادة محمد علي التي تنتقد السيسي حركة عبر الإنترنت تدعو إلى رحيل الجنرال العسكري الذي أصبح رئيسًا.
لأكثر من 6 سنوات منذ الانقلاب العسكري على الرئيس المدني محمد مرسي، لم تنجح المعارضة بمختلف تياراتها في خلق حالة الزخم التي أحدثها المقاول محمد علي
بالفعل، تُرجمت هذه الدعوات بالأمس إلى احتجاجات نادرة، حيث شهدت نزول آلاف المتظاهرين إلى الشوارع، مطالبين برحيل السيسي، وتمكن المحتجون من الوصول إلى عدد من أبرز ميادين مصر، خصوصًا ميدان التحرير الذي ظل مغلقًا أمام المظاهرات والتجمعات الشعبية في السنوات الماضية، في خطوة أعادت إلى الأذهان بدايات الحراك الشعبي في ثورة 25 يناير 2011.
ويرى مراقبون أن مظاهرات الأمس حتى إن لم تصل بعد في زخمها وقوتها إلى ثورة شعبية، إلا أنها كسرت حاجز الخوف وجدار الصمت الذي بناه نظام السيسي خلال السنوات الماضية ومنع المصريين من الخروج إلى الشارع وحتى من التعبير العلني عن مواقف مناهضة للنظام.
هكذا إذًا دخل قطب البناء ونجم السينما الذي كان ذات يوم داخل دائرة النظام إلى ساحة المعارضة ضد السيسي، فلأكثر من 6 سنوات منذ الانقلاب العسكري على الرئيس المدني محمد مرسي، لم تنجح المعارضة بمختلف تياراتها في خلق حالة الزخم التي أحدثها المقاول محمد علي.
المظاهرات استمرت الليلة الماضية حتى ساعات الفجر في عدد من ميادين وشوارع مصر
هنا يمكن القول إنه بغض النظر عن الانتماء السياسي أو الحزبي للمقاول المصري، ورغم اختلاف الكثيرين بشأن أسباب صمته ومشاركته الجيش طوال هذه السنوات، فقد زاد محمد علي الوعي بين المصريين في الوقت الذي تسيطر فيه الدولة على الكثير من وسائل الإعلام وتقمع المعارضة.
وثمة اتفاق بشأن قدرة محمد علي على جعل ملايين الناس يتحدثون عن موضوع كان من المحرمات، وهو الفساد في الجيش، لا سيما في بلد يصعب فيه المعارضة العلنية، ما جعل مقاطع الفيديو التي يبثها تستحوذ على اهتمام المصريين.
على أرض الواقع، بدأت الأجهزة الأمنية تشعر بالقلق من أن دعوة محمد علي قد تحث المصريين على الاحتجاج فيما بعد على قضايا أخرى، مثل نقص الخدمات، وردًا على ذلك، شنت حملة اعتقالات عشوائية أعلنت حالة التأهب القصوى والاستنفار في نيابات القاهرة وعدد من المحافظات.