ترجمة حفصة جودة
منذ أن قام الإنسان المنتصب (هومو إيريكتوس) بنحت أداة من قطعة حجارة، ازدادت رفاهية البشر، فهذه الطفرة التقنية أدت في البداية إلى الفأس اليدوي وانتهت بصنع الآيفون، كان من المناسب أن ننظم تلك الفترة الدراماتيكية للتغيير بين هذين الاختراعين – التي بدأت تقريبًا عام 1760 – ونقسمها إلى 4 ثورات صناعية.
ومع اندلاع كل ثورة من تلك الثورات تنتشر التنبؤات السلبية عن فقدان المزيد من الوظائف وتزداد تلك التنبؤات بمرور الوقت، وبانتهاء الثلاث ثورات الأولى اتضح أن تلك المخاوف ليست في محلها، فعدد الوظائف يزداد كل مرة وكذلك مستوى المعيشة والمؤشرات الاجتماعية الأخرى.
تنبأت شركة ماكنزي بنزوح نحو 800 مليون عامل من 24 دولة – أو ما يعادل ثلت القوة العاملة – بسبب الثورة الصناعية الرابعة، وعندما ذكرّنا الخبراء بأن هذا ما قالوه في الثورات السابقة قالوا إن هذه المرة مختلفة، ورغم أن هذا ما قالوه أيضًا في كل مرة سابقة، فهل هناك شيء مختلف هذه المرة؟
لقد غيرت التكنولوجيات المثيرة اليوم مثل الذكاء الاصطناعي والروبوتات والبلوكتشين والطابعات ثلاثية الأبعاد من النظام الاجتماعي والاقتصادي والسياسي بشكل غير متوقع، حتى إنه من الصعب رسم خريطة للتكنولوجيا نفسها لأن معدل نموها قد يكون سريعًا أو متضاعفًا أو أعلى من ذلك، هذه القدرة على عدم التنبؤ تجعل من الصعب تقييم تأثيرها، لكنه ليس مستحيلاً.
في البداية نحن نعلم أن العديد من الوظائف المتكررة منخفضة المهارة قد تعرضت للأتمتة وبدأ ذلك في الدول ذات الأجور المرتفعة ثم انتشر الأمر سريعًا في العالم النامي، لكن الوظائف ذات المهارة العالية ليست محصنة من ذلك.
فهل هناك حدود لهذا الأمر؟ لكي نجيب عن هذا السؤال نحتاج أولًا إلى أن نفهم كيف يتحول العمل، خاصة مع سلاسل القيمة العالمية، تتضمن الوظائف الآن مجموعة من المهام، والوضع كذلك في جميع المستويات المهارية، وطالما أن هناك مهمة من تلك المهام المتعددة التي لا يمكن فيها أتمتة دور العامل سواء من الناحية التقنية أم الاقتصادية، فإن تلك الوظيفة ستكون بأمان غالبًا، وهناك الكثير من الوظائف التي ينطبق عليها ذلك رغم أنها قد تكون غير مشهورة.
على سبيل المثال، رغم أن معظم المهام التي يقوم بها النادل يمكن أتمتتها، فإن التفاعل البشري مطلوب أيضًا، فالأيدي البشرية معقدة بشكل كبير وما زال العلماء يستخدمون مجسات اللمس الخاصة بالجلد الحيواني، فقد يستطيع الروبوت تقديم طبق الشوربة لك لكنه سيعاني ليضعه على الطاولة دون أن يسكبه، وبصرف النظر عما تقدمه آلات البيع فإن بعض المهام المرتبطة بخدمة الطاولات ما زالت تحتاج للعنصر البشري.
يميل النقاش أغلب الوقت إلى التركيز بشكل خاطئ على إجمالي الوظائف أكثر من صافي الوظائف دون قصد، لكن الرقم الصافي هو الأهم في هذا النقاش، فعلى سبيل المثال تتطلب أتمتة عمليات الإنتاج إشراف أعلى ومراقبة للجودة، وسوف يؤدي البشر تلك المهمة، لذا فالتركيز على الإجمالي يتجاهل الوظائف ذات المهارة العالية التي تنتج بشكل مباشر عن زيادة الأتمتة.
ولأن تكلفة استخدام المزيد من المشرفين لن تتجاوز التكلفة التي توفرها الأتمتة فإن ذلك سيؤدي إلى انخفاض سعر المنتج النهائي مما يعني زيادة الطلب، وإذا ازداد الطلب بشكل كافٍ فسيؤدي ذلك إلى زيادة الوظائف في المصانع التي تعتمد على الأتمتة بشكل جزئي في عملية الإنتاج، وفي تلك الحالة ستؤدي الأتمتة إلى زيادة صافي الوظائف.
رب ضارة نافعة
الأمر له تأثير أيضًا داخل الصناعات، فالإنتاج المكتسب من التكنولوجيا الجديدة في صناعة ما قد يؤدي إلى خفض تكلفة الإنتاج في صناعات أخرى من خلال روابط المدخلات والمخرجات، مما يساهم في زيادة الطلب والوظائف عبر مختلف الصناعات، فارتفاع الطلب وزيادة الإنتاج في صناعة واحدة سيرفع الطلب على بقية الصناعات ويتواصل الأمر، فلماذا يتنشر هذا التشاؤم عن الثورة الصناعية الرابعة والوظائف؟
قد يكون ذلك سببه أنه من الأسهل رؤية كيف اختفت وظائف موجودة بسبب الأتمتة عن تخيل انبثاق وظائف جديدة في المستقبل، فالعين لا تصدق إلا ما تراه، بمعنى أن الأمر يشبه الارتباك بين الإجمالي في مقابل الصافي، لكن ليس من الأكيد انفصالهم بشكل كبير في المستقبل.
كما أنه من الأكثر إثارة أن نسلط الضوء على إمكانية اختفاء وظائف أكثر من خلق وظائف جديدة، ونحن نسمع الكثير عن ذلك لأنه رغم فوائده المنتشرة بشكل واسع بين عامة الناس نتيجة انخفاض الأسعار، فإن التكلفة مركزة وتتسبب في إزاحة العمال ذوي المهارات المنخفضة مما يوفر حافزًا أكبر للتنظيم والضغط والشكوى من التكاليف.
الأكثر من ذلك، رغم وجود قدرٍ كافٍ من الشك، فإن المبالغة أكثر أمانًا من فهم التكلفة المحتملة لضحايا التغيير الأبرياء، كل هذا العوامل قد تجتمع لتشرح التشاؤم غير المبرر تجاه الوظائف.
لكن قد يكون هناك نفع نابع من كل هذا التشاؤم، فإذا أدى ذلك إلى بذل مجهود أكبر لإعادة تشكيل مهارات القوة العاملة لتتكيف بشكل أفضل مع التغيير، فسيكون هذا هو المطلوب تمامًا بلا أي مبالغة، وللمفارقة سينتج عن هذا التشاؤم الاستعداد الجيد الذي يأتي في غير محله – إن لم يكن في البداية فسيكون في النهاية -.
المصدر: المنتدى الاقتصادي العالمي