“وعضم ولادنا نلمه نلمه.. نسنه نسنه.. ونعمل منه مدافع وندافع ونجيب النصر هدية لمصر”، بهذه الكلمات كان هتاف المتظاهرين يملأ سكون الليل كالرعد في أولى معارك ثورة يناير ضد الشرطة المصرية، ففي الشارع المطل على ميدان الأربعين بمدينة السويس سقط الشهيد الأول لثورة 25 يناير 2011 “مصطفى رجب محمود” على يد قوات الأمن، مما كان السبب في تأجج مشاعر الغضب لدى جموع أهل السويس ودفعهم إلى استكمال مظاهراتهم يومي 26 و27 من يناير وحتى جمعة الغضب 28 من يناير التي خرج بها ملايين المصريين من جميع المحافظات.
حين انطلقت المظاهرات المطالبة برحيل الرئيس عبد الفتاح السيسي في 20 من سبتمبر من عامنا الحاليّ خرج أهل السويس مرددين هتافات مناوئة للسيسي وعلى الفور امتلأ ميدان الأربعين مرة أخرى ليذكر الأهالي بأن هناك ثورة مرت من هنا وربما تعود مرة أخرى، وفي اليوم التالي على التوالي خرج أهالي السويس رغم تحول ميدان الأربعين لثكنة عسكرية مطالبين برحيل السيسي.
متداول| قبل فضها، متظاهرو ميدان الأربعين في #السويس قالوا كلمتهم:
"مش هنمشي هو يمشي، يسقط حكم السيسي"#ميدان_التحرير_الآن #ارحل_ياسيسي pic.twitter.com/Wh6cQVW7yC
— نون بوست (@NoonPost) September 21, 2019
السويس: تاريخ طويل من النضال ضد الاحتلال
خاض أهالي مدينة السويس معارك كثيرة ضد جنود الاحتلال الإنجليزي الذين كانوا يملكون حينها الدبابات والمدافع الرشاشة، ولأن القوى لم تكن وقتها متكافئة فقد اضطلع أهل السويس بعبء الكفاح الطويل ضد المستعمر، إذ كانوا يكونون فرقًا فدائية لمهاجمة قواعد القوات الإنجليزية والاستيلاء على أسلحتهم وذخائرهم، ومن أشهر المعارك التي نشبت بين الفدائيين والإنجليز معركة يومي 3 و4 من يناير 1952، إذ شن الإنجليز هجومًا على سكان المدينة من خلال اقتحام سيارة بريطانية عسكرية كانت تقل جنودًا وضباطًا وأطلقوا النار على عمال الورش، فرد حينها الحراس المصريون بإطلاق النار على سيارة الإنجليز.
وكرد فعل على مقاومة أهل السويس اتجهت 20 سيارة مصفحة إلى المدينة و30 سيارة محملة بالجنود إلى الشوارع وبدأت الطلقات النارية تنهال على السكان، فأسرع الفدائيون وبثوا أربعة ألغام بجهاز تكرير المياه التابع لسطات الاحتلال فانفجر، وهو الأمر الذي اعتبره الإنجليز تحديًا لسلطتهم في المدينة فانسحبوا حينها ولكنهم عادوا يوم 25 من يناير 1952 وارتكبوا مذبحة الإسماعيلية التي استشهد فيها 50 فدائيًا واعتقلت الشرطة حينها الكثير من سكان السويس وتوقف نشاط الفدائيين حتى اندلعت ثورة 23 من يوليو 1952.
مدينة السويس ونكسة يونيو 1967
في 5 من يونيو 1967 كان أهالي السويس يجلسون على المقاهي منتظرين بشرى الرئيس عبد الناصر بأن مصر انتصرت في حربها ضد “إسرائيل” فإذاعة صوت العرب كانت تصدح في المدينة لتذكر عدد الطائرات الإسرائيلية المتساقطة، ولكن فجأة علا الارتباك وجوه أهالي السويس وهم يستشعرون بدنو الخطر، وهو الأمر الذي لم يكن يشعر به سكان القاهرة حينها وبالفعل في صباح 9 من يونيو كان بإمكان السوايسة رؤية العدو على الجبهة المقابلة للقناة.
في 14 و15 من يوليو 1967 حاول الإسرائيليون إنزال الزوارق إلى مياه القناة ولكن المقاومة الشعبية تصدت لهم وأحبطت المحاولة، كما تمكن الفدائيون من أسر ضابط إسرائيلي وجنديين ولما فشلت المحاولة قصف الطيران الإسرائيلي المدينة بالطائرات والصواريخ بشكل عشوائي وتمسك أهالي السويس بصمودهم دفاعًا عن المدينة، ولكن صدر القرار من القاهرة ببدء هجرة أهالي السويس وذلك تحت شعار “التجهير جزء من المعركة ولمصلحة الوطن”.
المقاومة الشعبية ومساندة الجنود المصريين العائدين من الجبهة
“الفاتحة لكل فدائي، فلسطيني أو عراقي، سوري، لبناني، بيلاقي حتفه في قدسه وسيناء الفاتحة”!
مرت سنوات على الهزيمة، صمم فيها الفدائيون على عدم ترك السويس في حين هاجرت الأسر حفاظًا على أرواح الأطفال، وخلال هذه الفترة العصيبة كان عمل الفدائيين ينصب على استقبال العساكر المصريين وهم عائدون من الجبهة، حينها كان رجال السويس يستقبلون الجنود ويمدونهم بالأكل والشرب والملابس والمبيت وكانوا يعملون بجانب ذلك على تهدئتهم وإعادة تأهيلهم حتى يكملوا رحلتهم إلى بلدانهم.
من أول الأغاني التي كتبها السوايسة للجنود العائدين أغنية “الفاتحة للعسكري” التي يقول مطلعها: ” الفاتحة للعسكري، سبع السباع الفللي، واقف وحاضن مدفعه بطل وحارس موقعه”
وهنا تأتي المرحلة الفنية من المقاومة، ففي الوقت الذي كانت فيه مشاهد النكسة تطل كشبح على كل من عاش الهزيمة وتجرع مراراتها من الجنود، كان أهالى السويس يألفون الأغاني التي تمجد كل عسكري عاد من الجبهة، ولم تكن هذه المهمة سهلة في أي حال من الأحوال، فهؤلاء الجنود تجرعوا الهزيمة مرتين: مرة في ساحة المعركة الفعلية في 5 من يونيو والمرة الأخرى حين عادوا مهزومين، فكان الجنود وقتها يعلمون ما ينتظرهم في بلادهم، سوف يتم وصمهم بالهزيمة في ساحة الذاكرة الجماعية ولهذا بذلت الفرق الغنائية في السويس مجهودًا عظيمًا حتى تخفف عبء الخسارة على الجنود الذين اعتبرتهم أبطالاً، والحقيقة أن تلك الأغاني ما زالت موجودة بفضل أهالي السويس وتؤرخ لمرحلة مهمة في تاريخ مصر.
ومن أول الأغاني التي كتبها السوايسة للجنود العائدين أغنية “الفاتحة للعسكري” التي يقول مطلعها: “الفاتحة للعسكري، سبع السباع الفللي، واقف وحاضن مدفعه بطل وحارس موقعه.. والفاتحة! الفاتحة للباكشاويش حاضن سلاحه تقول عريس، بيقول ألفين ميكفينيش، أضحي بعمري، وسينا تعيش.. والفاتحة”!
فيما بعد بدأ الجنود يغنون تلك الأغاني على الجبهة كما تحولت بعد ذلك لتكون وسيلة لنقل أخبار الحرب بين القرى والمدن المجاورة خاصة أن أهالي السويس فقدوا الثقة في منظومة الأخبار القادمة من القاهرة عبر أثير الإذاعة، كما استخدمت الأغاني أيضًا لتذكر الأهالي والفدائيين أن الحرب ما زالت مستمرة حتى لا ينسوا.
مقاومة الفدائيين بعد حرب أكتوبر 1973
بعد رحيل الرئيس جمال عبد الناصر ومجيء السادات تأجلت الحرب إلى ميعاد غير مسمى، وبالنسبة لأهالي السويس كان هذا القرار بمثابة الفاجعة خاصة أنهم كانوا يتطلعون إلى العودة لبيوتهم وحياتهم الطبيعية ومرت هذه الفترة ثقيلة على أهالي السويس وذلك حتى جاء موعد حرب أكتوبر 1973.
كعادة السلطة السياسية في مصر تم تهميش المقاومة الشعبية في أثناء عملية رسم الحدود وذلك على عكس تعامل السلطة مع نفس المقاومة في أثناء حرب الاستنزاف
بعد قرابة الأسبوعين من عبور القوات المسلحة المصرية لقناة السويس تمكنت القوات الإسرائيلية من ضرب حصار حول الجيش الثالث الميداني في صحراء سيناء واتجهت القوات الإسرائيلية وقتها إلى السويس فيما عُرف حينها بالثغرة، وكرد فعل على مهاجمة مدينهم تسلح الفدائيون بأسلحة مخازن مشارح المدينة وهي الأسلحة التي كانت بحوزة الجنود المصريين الذين دفنوا في السويس، بعدها خاض الفدائيون كعادتهم معركة غير متكافئة مع العدو الإسرائيلي عن قسم الأربعين يومي 24 و25 من أكتوبر، وأدت هذه المواجهة إلى حصار القوات الإسرائيلية للمدينة بمدرعات الجيش وبأكثر من 200 دبابة فيما عُرف بحرب المئة يوم ويوم، ففي 1 من فبراير 1974 وبعد الكثير من المفاوضات والتدخلات الدولية توقفت الحرب وعمليات المقاومة وحان وقت ترسيم الحدود.
وكعادة السلطة السياسية في مصر تم تهميش المقاومة الشعبية في أثناء عملية رسم الحدود وذلك على عكس تعامل السلطة مع نفس المقاومة في أثناء حرب الاستنزاف، فرغم نجاح الفدائيين في إبقاء العدو الإسرائيلي خارج حدود مدينتهم طوال المئة يوم، فإن الحكومة المصرية لم تفكر في إشراك أهالي السويس في عملية ترسيم الحدود، إذ كان الفدائيون يرغبون في المشاركة حتى يتأكدوا بأن حدود المدينة رُسمت كما عرفوها دومًا وعاشوا عليها وليس وفقًا للاعتبارات السياسية للجيشين.
في الوقت الذي اختزلت فيه السلطة الرسمية ومقرها القاهرة حقبة الحرب بداية من النكسة وحتى الانتصار في العبور العظيم ومعركة نصر أكتوبر المجيدة، خلد أهالي السويس لحظات النكسة والانكسار كما خلدوا مرحلة إعادة المقاومة وكيفية الوقوف مرة أخرى بعد الوقوع
ولذلك حين جاءت قوات الأمم المتحدة في آخر يناير 1974 لترسيم الحدود قرب ترعة المغربي تجمع الفدائيون وحين انتقلت قوات الأمم المتحدة لنقطة أخرى على بعد مئة متر من الحدود سارع الفدائيون للوصول قبل القوات وذلك ليثبتوا وجودهم في تلك البقعة من المدينة، وكلما تحركت القوات الدولية سبقهم الفدائيون إذ كانوا يصرون على الظهور وكأنهم أهالي وحاولوا ألا يظهروا بأنهم نفس الفدائيون وأخذوا يتنقلون طوال اليوم بين نقطة وأخرى حاولت الأمم المتحدة أن تستقطعها من مدينتهم ولكنهم لم يتراجعوا وذلك حتى اكتشفت القوات الدولية للأمم المتحدة بأنهم ليسوا أهالي يسكنون تلك المناطق ولكنهم أفراد من المقاومة الشعبية فطلبت منهم الانصراف.
بقي فقط أن نذكر أنه وفي الوقت الذي اختزلت فيه السلطة الرسمية ومقرها القاهرة حقبة الحرب بداية من النكسة وحتى الانتصار في العبور العظيم ومعركة نصر أكتوبر المجيدة، خلد أهالي السويس لحظات النكسة والانكسار كما خلدوا مرحلة إعادة المقاومة وكيفية الوقوف مرة أخرى بعد الوقوع، حفظوا ذلك عن ظهر قلب في صدورهم وذاكرتهم وأغانيهم، ولذلك أهالي السويس هم الأكثر معرفة دومًا بأن النصر يأتي بعد الهزيمة والقهر، وأن المقاومة هي الطريق الأوحد نحو الحرية.