“نعلن عن وقف استهداف أراضي المملكة العربية السعودية بالطيران المسيَّر والصواريخ الباليستية والمجنَّحة وكافة أشكال الاستهداف المعتادة، وننتظر رد التحية بمثلها أو أحسن منها في إعلان مماثل بوقف كل أشكال الاستهداف والقصف الجوي لأراضينا اليمينة”.
فجأة ودون مقدمات، أعلنت جماعة الحوثي بهذه الكلمات ما أشبه بـ”هدنة” مع الرياض، ليس دون مقابل كما يوضَّح الإعلان الحوثي، الذي أكَّد أيضًا على لسان رئيس المجلس السياسي الأعلى التابع للحوثيين مهدي المشاط، في كلمة متلفزة على قناة “المسيرة” التابعة للحوثيين “الاحتفاظ لنفسها بحق الرد في حال عدم الاستجابة لهذه المبادرة”.
المشاط، وفي كلمة متلفزة، أكَّد أيضًا “استمرار الحرب لن يكون في مصلحة أحد، بل قد يفضي إلى تطورات خطيرة لا نريدها أن تحدث، مع كوننا على يقين من أن ضررها الأكبر لن يكون علينا وإنما على دول العدوان بالدرجة الأولى وبشكل أساسي ومباشر”.
تلك في مضمونها خطوة حوثية تفتح الباب أمام تساؤلات تتعلق بالتوقيت والأسباب في مقابل حسابات الرد السعودي المرتقب، فما دلالات هذه التصريحات والمواقف؟ وما مغزى صدورها في الذكرى الخامسة لانقلاب الحوثيين؟ وما خيارات الرياض إزاءها؟
مبادرة الحوثيين “المشروطة”
ما أقدم عليه الحوثيون فجأة كان أشبه بوقف إطلاق نارٍ أحادي أو مبادرة مشروطة ومن جانب واحد حتى اللحظة، لكن أليست المبادرة الحوثية الأحادية والمفاجئة تجاه السعودية رسالة بالوكالة في حرب بالوكالة على أرض اليمن؟
أعلنها في البدء رئيس المكتب السياسي للجماعة، ولم تكد تمضي إلا سويعات بعد إعلان الوقف المشروط لاستهداف السعودية حتى عادت الجماعة بخطاب أشد لهجة، محذرةً مما سمته “رفض دول العدوان لمبادرة السلام، وإن أبوا الموافقة فإننا سنؤلمهم أكثر، التصعيد لا يمكن أن يُواجه إلا بالتصعيد”.
هذا التحذير الذي غلبت عليه نبرة التهديد جاء على لسان زعيم الجماعة شخصيًا عبدالملك الحوثي الذي أعلن في بيان أنه بوقف قصف وحصار التحالف الذي تقوده السعودية، فسيوقف الحوثيون ضرباتهم في عمق المملكة بالطائرات المسيَّرة والصاروخية.
يتناقض إعلان الحوثيين هذا تمامًا مع الموقف الذي كانوا يتخذونه حتى الآن، إذ إنهم كانوا في موقع التحدي وهددوا في الأيام الأخيرة بشن هجمات جديدة على السعودية والإمارات
الحوثي دعا التحالف إلى “وقف العدون وأخذ العبرة بما وصلوا إليه من الفشل” على حد تعبيره، ولم تخل الدعوة من التصعيد، إذ حذَّر الرياض من “ضربات أكثر إيلامًا وأشد فتكًا وأكبر تأثيرًا ستصل إلى عمق مناطقها، ولا خطوط حمراء في حال استمرت في القصف السعودي” على حد قوله.
يتناقض إعلان الحوثيين هذا تمامًا مع الموقف الذي كانوا يتخذونه حتى الآن، إذ إنهم كانوا في موقع التحدي وهددوا في الأيام الأخيرة بشن هجمات جديدة على السعودية والإمارات، فمن منطلق ضعف أم قوة قرر الحوثيون أخيرًا وقف هجماتهم ضد السعودية؟
والسؤال الأهم: أهو تهديد مبطن للرياض بأن لا خيار أمامها إلا الانسحاب من حرب اليمن وإلا فالقادم سيكون أكثر خطورة من الهجوم على مُنشأتيْ”خريص وبقيق” أم هي الخشية من رد قوي لن يكون سعوديًا صرفًا هذه المرة بعد تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي أبدى استعداد واشنطن للدفاع عن المملكة في حال دفعت المال اللازم؟
بين التهدئة والتصعيد.. لماذا الآن؟
هل المبادرة المكررة خلال يومين متتاليين حوثية أم بالنيابة عن إيران؟ في توقيتها، هناك أكثر من سؤال يفرض نفسه، فقد جاء إعلانها بمناسبة احتفال الحوثيين بالذكرى الخامسة لزحفهم على صنعاء التي دخلوها في 21من سبتمبر/أيلول 2014.
منذ ذلك الحين، فشلت القوات الحكومية في هذه الأراضي بمساندة تحالف عسكري تقوده السعودية، في إخراج الحوثيين منها، ومن مناطق شاسعة في شمال ووسط وغرب اليمن، ثم انقلبت الآية، فصاروا يقصفون مواقع في عمق المملكة والإمارات، فيرد التحالف في نزاع قُتل فيه الآلاف وتسبب بأكبر أزمة إنسانية في العالم، بحسب الأمم المتحدة.
غارات عنيفة استهدفت مواقع متفرقة للحوثيين شمال الحديدة
المبادرة غير المتوقعة جاءت أيضًا بعد يوم واحد ووسط تصعيد غير مسبوق بين الحوثيين والمملكة، وعلى وقع غارات مكثفة للتحالف السعودي الإماراتي على الحديدة على الساحل الغربي لليمن، دفعت الحوثيين إلى التحذير بأن هذه العملية ستقضي على اتفاق الهدنة الذي أُبرم برعاية الأمم المتحدة في ستوكهولم.
العملية العسكرية شهدت – بحسب المتحدث باسم قوات التحالف العقيد الركن تركي المالكي – استهداف مواقع لتجميع وتفخيخ الزوارق المسيَّرة وزرع الألغام البحرية، وهي مواقع تنطلق منها الزوارق لتنفيذ أعمال تهدد خطوط الملاحة البحرية والتجارة العالمية في مضيق باب المندب وجنوب البحر الأحمر.
ردًا على الهجوم، حمَّل الحوثيون التحالف أي تبعات مستقبلية، في حين ما زالت المملكة ترمم الخسائر المادية وقبلها المعنوية لهجمات مُنشأتيْ خريص وبقيق الأسوأ على منشأة نفطية في منطقة الخليج منذ عام 1991، وهي الهجمات التي قلصتصادرات المملكة من النفط إلى النصف بسبب الأضرار، لكن السؤال بشأن أين انطلق الهجوم لم يلق جوابًا بعد.
القبول بشروط الحوثيين سيُقرأ باعتباره خضوعًا لإيران، ورفضها يترك أجواء المملكة مفتوحة لهجمات تُحدث خسائر، ويعيد الجدل بشأن المليارات التي أُنفقت على منظومة دفاعية أمريكية تنهرم أمام طائرات مسيَّرة وصاريخ باليستية
تبنت جماعة الحوثي استهدافها، لكن الرياض وواشنطن رفضتا هذه الرواية عن الهجمات، فالفاعل كان ويبقى بنظرهما إيران، رغم علم الرياض تحديدًا بأن هذه لم تكن المرة الأولى التي يضرب فيها الحوثيون مواقع في العمق السعودي في إطار ما سُمي بـ”بنك أهداف” حددتها الجماعة وأعلنتها رسميًا.
هذا ما كرره وزير الدولة للشؤون الخارجية عادل الجبير في مؤتمره الصحفي الذي عقده بعد أقل من يوم على إعلان الحوثيين، وحمَّل فيه إيران مسؤولية الهجوم، والأسلحة أسلحتها، لكن السعودية لا تعرف بالتحديد نقطة انطلاقه، ولم يفصح الجبير عن المدى الزمني للتحقيقات ونوع الخطوات التي ستُتخذ.
وباختلاف الروايات بين صنعاء والرياض، ألحقت الطائرة الحوثية المسيَّرة وصورايخها البالستية خسائر مادية وبشرية في السعودية وبدرجة أقل في الإمارات الشريكة في التحالف، التي منحها الحوثيون الأمان، وقرروا تجميد استهدافها حين تغير موقفها سياسيًا وعسكريًا، في هدنة فيما بدا اُستثنيت منها السعودية.
وبحسب محللين، فإن ما يحدث الآن هو محاولة من الحوثيين لتحقيق مكاسب سياسية بعد تحقيق المكاسب العسكرية، ويتمثل ذلك في وقف الحرب على اليمن، خاصة أن هذا ما تريده الولايات المتحدة، وأن هناك تحضير لمفاوضات كان من المفترض أن تكون سرية في عُمان بين الحوثيين والسعوديين كمرحلة أولى لوقف المعارك.
خيارات الرياض.. الحماية “الترامبية” أولاً
في أوج محاولات الرياض امتصاص صدمة الهجمات على منشآت “أرامكو” النفطية، والبحث عن رد يخفف عنها الضربة الموجعة، طرح الحوثيون خيار التهدئة، وإن كانت هذه ليست المرة الأولى، وفي كل مرة بالشروط نفسها.
وفي خطوة جماعة الحوثي المعلنة حسابات داخلية وإقليمية طي الكتمان، وتطرح أسئلة عن الرد الذي تنتظره الجماعة، وهل تملك الرياض في هذا السياق المعقَّد داخل اليمن وعلى أراضيها خيارات كثيرة؟ وما ثمن استمرار الحرب في اليمن أو إنهائها يومًا ما؟
الخروج من حرب اليمن تحت الضغط بهذا الشكل وفي هذا التوقيت تحديدًا يجعل السعودية في وضع أسوأ مما هي عليه الآن
في أول رد فعل سعودي على المبادرة الحوثية، علق الجبيرقائلاً إن الرياض ستراقب مدى جدية الحوثيين في تطبيق مبادرة السلام التي طرحوها، وأضاف “إننا ننتظر الأفعال لنحكم على الأقوال، ولذا فإننا سنرى إن كانوا سيطبقون فعلاً (المبادرة) أم لا، وبالنسبة للسبب الذي دفعهم لذلك، علينا أن نتفحص المسألة بتعمق”.
لم يعلن الجبير موقف الرياض بالقبول أو الرفض، فالقبول بشروط الحوثيين سيُقرأ باعتباره خضوعًا لإيران، ورفضها يترك أجواء المملكة مفتوحة لهجمات تُحدث خسائر، ويعيد الجدل بشأن المليارات التي أُنفقت على منظومة دفاعية أمريكية تنهرم أمام طائرات مسيَّرة وصاريخ باليستية.
كما أن الخروج من حرب اليمن تحت الضغط بهذا الشكل وفي هذا التوقيت تحديدًا يجعل السعودية في وضع أسوأ مما هي عليه الآن، فالرفض يعني استمرار طلب المساعدة الأمريكية ودفع الفاتورة مسبقًا دون ضمانات تشير إلى أن واشنطن ستُقدم فعلاً على خطوة عسكرية ضد إيران.
وفي شأن “الحماية الترامبية”، هرعت كل من السعودية والإمارات، سريعًا وقبل انتهاء التحقيقات بشأن هجمات “أرامكو”، إلى طلبحماية بنيتهما التحتية، فاستجاب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب كما أكد وزير دفاعه مارك إسبر، ووافق على بيع تعزيزات ذات طبيعة دفاعية من المستوى المتوسط يرافقها جنود يُعدون بالمئات لا بالآلاف وفق ما كشف إسبر.
لكن لا يُعرف إن كان الأمر سيُهدئ مخاوف كل من الإمارات والسعودية، التي لم يبددها سابقًا إنفاقهما على التسلّح، فإحداهما تبدو أكثر تعويلاً من الأخرى على “الغوث الأمريكي”، فالإمارات سارت أقل إلحاحًا في حثها واشنطن على الذهاب نحو الحرب، إذ بتأخر الرد الأمريكي كما قيل فتحت خط اتصال مع الحوثيين وإيران على حد سواء، بينما تجد السعودية نفسها أكثر انكشافًا أمام الهجمات العابرة للحدود، وأكثر حاجةً لحماية لواشنطن.
إيهام الأمريكيين لحلفاء الخليج بتوفير الردع المرجو لهم لم يخل من رسائل مختلفة باتجاه الإيرانيين ومن ورائهم الحوثيين، فكأنما تقول واشنطن إن أي تحرك ضدهم إذا تقرر وتم فسيكون محدودًا ومدروسًا.
وفي حين يتحدث البعض عن استشعار إيران الخطر بعد إعلان الحوثيين وقف استهداف السعودية، تواصل إيران التعامل بإستراتيجية خير وسيلة للدفاع الهجوم، وتهدد بالرد بقوة على أي اعتداء، فبحسب قائد الحرس الثوري حسين سلامي: “إذا أقدمت أي دولة على الهجوم على إيران، سنحوِّل أراضيهم إلى ساحة حرب، وأي هجوم محدود لن يبقى محدودًا وسنطاردهم حتى نهزمهم”.
يبدو حديث قائد الحرس الثوري عن هجوم محدود كتحذيرٍ للولايات المتحدة من التفكير في هذا النوع من الضربات الذي يُنفَّذ بإظهار القوة دون الحاجة إلى الدخول في حرب شاملة، ويشير كلامه أيضًا إلى أن إيران سترد على أي هجوم كيفما كان حجمه وهدفه.
وبين المُر والأمر، يبدو أن السعودية مطالبة بالاختيار في الذكرى الخامسة لانقلاب في دولة جارة قلب المنطقة رأسًا على عقب، وكلما زادت حدة التوتر، زادت الحاجة للمساعدة، وأحيانًا للحماية العسكرية الأجنبية التي لا تكون دائمًا مجانية، فالأمريكيون لن يتخلوا عن الحلفاء ولا عن أموالهم.