“أخذوه داعش.. كانوا يصفونه بالشرطي المرتد، واتهموه بمحاولة تهريب عائلته إلى خارج الموصل”، تقول شيماء أحمد بعد أن سألناها عن زوجها الذي كان يعمل مع الشرطة المحلية قبل دخول تنظيم داعش إلى مدينة الموصل (400 كيلومتر شمال بغداد).
في صباح يوم الإثنين، 13 من فبراير 2017، كان تحسين همام (اسم المستعار) قد أحكم خطته لإخراج عائلته من مدينة الموصل التي تشتد فيها المعارك ضد التنظيم، وخلال محاولة الفرار وقع في قبضة التنظيم بعد ما تمكن من إيصال عائلته إلى بر الأمان.
تحسين واحد من 5 آلاف معتقل لدى التنظيم فُقِدَ أثره في أعقاب العمليات العسكرية التي خاضتها القوات العراقية بالتعاون مع التحالف الدولي وفصائل الحشد الشعبي، لطرد التنظيم، وفقًا لتقديرات مجلس المحافظة، إذ دأب التنظيم على شن حملات اعتقال لمواطنين في الموصل بتهم مختلفة، ويؤكد أعضاء في المجلس المحلي لمحافظة نينوى (التي تتبعها مدينة الموصل) أن بعض المعتقلين أطلق سراحهم، في حين بقي آخرون طي الكتمان.
كيفَ فُقِدوا؟
خرج إبراهيم طه حاملًا راية بيضاء بيمينه وهو يركض مع عائلته خشية الموت جراء الاشتباكات الضارية التي جرت في منطقته بين القوات العراقية وعناصر تنظيم داعش، متوجهًا إلى مناطق خاضعة لسيطرة القوات العراقية بشكل كامل، في أثناء ذلك، أصيب طه برصاص لا يُعرف مصدره.
تمكنت كمائن المليشيات من خطف آلاف الأطفال والمراهقين والرجال وكبار السن، بعد اعتقالهم أمام ذويهم واقتيادهم إلى جهات مجهولة
“قوات أمريكية تسلمت أخي من أجل إسعافه، بوجود قيادات من الفرقة الذهبية وفرقة الرد السريع التابعتين لجهاز مكافحة الإرهاب”، تقول أشواق، شقيقة إبراهيم، وهي تروي لنا قصة فقدها لأخيها: “عسكريون (لم تحدد الجهة المنتسبين لها) أخذوا هويته، ومن ثم طلبوا من عائلته المغادرة، ومن حينها لم يُعرَف عنه خبر”، وذكرت أن منتسبًا أمنيًا جاء لها قبل 6 أشهر أخبرها بوجود أخيها في قاعدة القيارة جنوب مدينة الموصل، حيث تتمركز القوات الأمريكية.
الصقلاوية.. أيقونة “المفقودين”
في وسط البلاد، وتحديدًا على أبواب بغداد، كانت عمليات الخطف أكثر التباسًا، فقد تشابه السيناريو الذي حدث لإبراهيم مع آلاف آخرين، لكن مسارًا مشابهًا أخذهم إلى المجهول.
قبل العمليات العسكرية ضد التنظيم ومع انطلاقها هرب آلاف الأنباريين من مناطقهم التي كانت تحت سيطرة داعش، يحملون على ظهورهم أبناءهم، وفي أثناء ذلك، أخذت مليشيات غير معلومة الانتماء تستوقفهم في سيطرات (حواجز أمنية) وهمية على طول الطريق المتجه من الأنبار إلى بغداد وكربلاء.
تمكنت كمائن المليشيات من خطف آلاف الأطفال والمراهقين والرجال وكبار السن، بعد اعتقالهم أمام ذويهم واقتيادهم إلى جهات مجهولة.
أكثر ما لاقاه هؤلاء هو الضرب بقضبان حديدية وبأطراف البنادق والركل والجلد بالأحزمة، ما تسبب بوفاة بعض الأشخاص المرضى الذين عُذِّبوا لما يزيد على 5 ساعات
ناحية الصقلاوية (65 كيلومترًا غرب بغداد) فقدت أكثر من 750 شخصًا دفعة واحدة على يد قوة عسكرية ترتدي زيًا رسميًا وترفع أعلامًا على عرباتها تدعي فيها انتماءها للحشد الشعبي.
بعض من نجا في حالات نادرة جدًا، أكدوا تعرضهم للتعذيب وفقًا لما نقلته وسائل إعلام عربية ومحلية آنذاك، أكثر ما لاقاه هؤلاء هو الضرب بقضبان حديدية وبأطراف البنادق والركل والجلد بالأحزمة، ما تسبب بوفاة بعض الأشخاص المرضى الذين عُذِّبوا لما يزيد على 5 ساعات.
ابتزاز لمعرفة المصير
بالعودة إلى شيماء، لم تترك مكانًا إلا وذهبت إليه، قابلت مسؤولين كبارًا مثل قائد عمليات نينوى السابق نجم الجبوري، والنواب نايف الشمري وعبد الرحمن الشمري وبسمة بسيم، لكنهم لم ينبسوا ببنت شفة، وطلبوا منها أن تمضي بإكمال معاملة الوفاة من أجل الحصول على الحقوق المادية الممنوحة لعائلة المنتسب في القوات الأمنية، إلا أن مؤسسة الشهداء في بغداد عرقلت الأمر بحجة “فترة القيمومة”، وفقًا لما قالته لـ”نون بوست”.
تعرضت شيماء خلال الفترة هذه لمحاولات ابتزاز مقابل مكالمة تجريها مع زوجها المُغيّب، تروي لنا أن شابًا أُرِسلَ إلى منزلها من جهة غير معروفة، وطلب منها مبلغًا ماليًا قدره 300 دولار أمريكي من أجل أن يسمحوا لزوجها بالاتصال بها، لم تتردد أبدًا ودفعت المبلغ لكن دون جدوى.
طلب منها مرة أخرى متصلون مجهولون مبلغًا قدره 100 دولار أمريكي، من أجل إيصالها لمحل اعتقاله في محافظة أربيل، بإقليم كردستان العراق، على حد زعمهم، لكنهم نقضوا مجددًا، واضطرت شيماء لبيع أثاث منزلها، واقترضت من آخرين، لتتمكن من دفع المال.
الحرب لم تنته عند ذوي المفقودين، فمرارة الفقد أشد وأقسى من ساعات الخوف التي عاشوها حينما جرى اعتقال آبائهم وأبنائهم وأزواجهم، ومعظم من فُجِعَ أصيبَ بصدمة نفسية شديدة، غيرت مجرى حياته
بالنسبة لأشواق، فقد ذكرت لـ”نون بوست”، أن منتسبًا أمنيًا جاءها قبل 6 شهور أخبرها بوجود أخيها في قاعدة القيارة جنوب مدينة الموصل، حاولت أشواق الوصول إلى القاعدة لكن محاولاتها باءت بالفشل.
“إحدى النساء فقدت ابنها أوصلتني إلى أشخاص تواصلت معهم وقالوا لها إنهم يعلمون بمكان أخي”، هؤلاء الأشخاص ساوموا أشواق على أخيها، طالبين منها مبلغًا قدره 20 ألف دولار أمريكي، وفقًا لما تقوله أشواق فإن المتصلين أخبروها بالمجيء إلى مطار بغداد في العاصمة.
لم تستسلم أشواق لمساومتهم، رغم أن المتصل أظهر براعة “استخباراتية” في ذلك، ساردًا لها معلومات تخص عائلتها بتفصيل دقيق، كما هددها بتعذيب أخيها أكثر إن لم تدفع لهم.
الحياة بعدما فقدوا ذويهم
الحرب لم تنته عند ذوي المفقودين، فمرارة الفقد أشد وأقسى من ساعات الخوف التي عاشوها حينما جرى اعتقال آبائهم وأبنائهم وأزواجهم، ومعظم من فُجِعَ أصيبَ بصدمة نفسية شديدة، غيرت مجرى حياته ومسارها الطبيعي.
على تلةٍ أخرى من المصاعب، تحط الحالة المادية رحالها في منتصف الطريق بعد تدهور شديد لأوضاع ذوي المفقودين الذين كانوا يُعالون من الذين فُقِدوا
لا وجود لإحصاءات رسمية أو موثوقة بشأن الصحة النفسية لذوي المفقودين، فمجرد إجراء التشخيص يُعدُّ رفاهية قياسًا بالمأساة التي تلفهم من كل جانب، فضلًا عن الإهمال الحكومي الشديد لهم ولمناطقهم المدمرة والمحرومة من أبسط أدوات الإسعافات الأولية.
على تلةٍ أخرى من المصاعب، تحط الحالة المادية رحالها في منتصف الطريق بعد تدهور شديد لأوضاع ذوي المفقودين الذين كانوا يُعالون من الذين فُقِدوا، فتعتاش بعض الأسر على 100 دولار أمريكي في الشهر كحدٍ أعلى، وأسر أخرى على المساعدات المجتمعية، في حين لا تقدم الحكومة لهم إلا مزيدًا من العرقلة لمعاملاتهم التي يمضون بها من أجل الحصول على رواتب إعانة.
ما الدليل الملموس على فقدانهم؟
لم يسلم هذا الملف الشائك والمعقد من التشكيك واللمز، فظهرت أطراف مختلفة على شاشات التلفاز تكذب قصص ذوي المفقودين، إلا أن المفوضية العليا لحقوق الإنسان في العراق (رسمية)، أكدت مصداقية القصص والروايات والبلاغات التي قدمت للجهات الحكومية الأمنية بشأن المفقودين.
وفي تصريح لـ”نون بوست”، قال عضو المفوضية فاضل الغراوي: “المفوضية تلقت آلاف البلاغات من أشخاص فقدوا ذويهم، وبعد التحقيق المستمر، عثر حتى الآن على 200 مفقود كلهم في السجون والمعتقلات”.
يقول الباحث في شؤون الجماعات الإرهابية والمتطرفة هشام الهاشمي: “عمليات الاعتقال والإخفاء القسري في الغالب كانت لأسباب طائفية، مذهبية، ومن ثم سياسية”
وأضاف الغراوي “المفوضية خصصت ملفًا كاملًا للاختفاء القسري، وهي تحقق في كل الادعاءات والشكاوى التي تردها من المواطنين، وتعمل كذلك بالتنسيق مع أغلب دوائر الدولة مثل وزارة العدل ومؤسسة الشهداء”، مع ذلك، يؤكد الغراوي أن ما تمكنت المفوضية من تحقيقه إلى الآن هو جمع البلاغات والإخباريات.
القضاء يتدخل بعد 5 سنوات.. ما الحل؟
في خطوة عدها الجميع جريئة ولافتة، أعلن مجلس القضاء الأعلى في العراق، يوم الإثنين 9 من سبتمبر/أيلول 2019، البدء بالتحقيق في قضايا المفقودين، وذكر رئيس مجلس القضاء القاضي فائق زيدان في بيان أنه “تلقّى في وقت سابق قائمة بالأسماء من عضو مجلس النواب أسامة النجيفي بخصوص المفقودين.
وأوعز زيدان إلى “محاكم التحقيق بحسب الاختصاص المكاني بتلقي الشكاوى بخصوصهم واتخاذ جميع الإجراءات القانونية لمعرفة مصيرهم”، وأمر القضاة وأعضاء الادعاء العام بالانتقال إلى “المواقع التي يُدّعى أنهم محجوزون فيها” للتأكد من مصيرهم بالتنسيق والتعاون مع الجهات الأمنية المتخصصة.
لاقت هذه الخطوة تشكيكًا بما يمكن أن تحققه، لا سيما بشأن دخول بعض المناطق التي قد تضم المعتقلات حيثُ يبقون على المفقودين، مثل منطقة جرف الصخر التي تعجز القوات الحكومية عن دخولها رغم تحريرها منذ 5 سنوات، وإعادة النازحين إليها.
يقول الباحث في شؤون الجماعات الإرهابية والمتطرفة هشام الهاشمي: “عمليات الاعتقال والإخفاء القسري في الغالب كانت لأسباب طائفية، مذهبية، ومن ثم سياسية”، ويضيف في حواره مع “نون بوست” قائلًا: “لا يمكن لحكومة عبد المهدي أن تحل هذا الموضوع.. ولا أن تفتح هكذا ملف، حتى حكومة العبادي عجزت عن فتحه، هذا الملف لن يحل إلا بالتدويل وبتدخل الأمم المتحدة ودول ذات نفوذ، عبر الضغط على دول أخرى ضالعة في هذه العمليات”.
ما تزال المصائب تتربص بأهالي العراق من كل حدب وصوب، فلا يكاد يصحو من مأساة حتى تلمّ به أخرى، وليت النكبة التي تأتي وتنتهي، إذ يبقى أثرها ويدوم، منذ الحرب العراقية الإيرانية، وغزو الكويت، والحصار الدولي، واستبداد صدام حسين، والغزو الأمريكي، والفتنة الطائفية الدامية، وفترة فرق الموت والتفجيرات اليومية، إلى داعش ومن ثم حكم المليشيات.. كل فترة من هذه ما تزال تخنق الشعب الملتاع بالمآسي، ولعل عودة المفقودين، هو آخر ما قد يضمّد الجراح.