في بداية عام 1994، كانت الأراضي الفلسطينية المحتلة على موعدٍ مع عودة الآلاف من أبناء حركة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية، بالتزامن مع توقيع اتفاقيات أوسلو وإنشاء سلطة حكم ذاتي فلسطيني، تتولى مهام الإدارة المدنية الإسرائيلية، وتشرف على تسيير شؤون الفلسطينيين في بعض مناطق الضفة الغربية وقطاع غزة.
في الوقت نفسه، أطلقت قوات الاحتلال سراح آلاف الفلسطينيين المعتقلين في سجونها، في إطار صفقات “حسن النوايا”، أو كمحاولةٍ لمنح مزيدٍ من الشرعية والتأييد للسلطة الجديدة وللاتفاق المبرم معها، وبينما كانت منظمة التحرير تستعد للتحول إلى نموذج حكومي مؤسسي، احتفظت بعددٍ من الوزارات القائمة، وأنشأت وزارات جديدة انبثقت عن دوائر سابقة ضمن هيكلها التنظيمي.
لم يقتصر التدوير الحكومي والانقلاب الوزاري الذي شهدته الحكومات الفلسطينية بين حقبتي ياسر عرفات ومحمود عباس على تبديل الوزراء فحسب، بل طال البنية المؤسساتية للوزارات والهيئات ذاتها، ومن بينها وزارة شؤون الأسرى والمحررين، التي لعبت دورًا محوريًا في دعم البنية الحكومية والأمنية للسلطة الفلسطينية، وتعزيز حضورها الشعبي والسياسي، ومؤخرًا في محاولاتها الحصول على مقعد متقدم في عروض ترامب المسرحية.
ما بين ماضيها وحاضرها، تسلط السطور التالية الضوء على مسار وزارة شؤون الأسرى والمحررين، منذ بداياتها الذهبية وأدوارها في خدمة الأسرى، مرورًا بالتحولات الهيكلية في عملها وتمويلها، وانعكاس ذلك على أكثر من ربع الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، كما تستعرض كيف ارتبطت هذه التحولات بتغيرات المزاج الدولي والإسرائيلي، وصولًا إلى قرار السلطة الأخير بتعديل دورها، وتأثير ذلك على بنية النضال الفلسطيني في المدى البعيد.
الماضي الذهبي لوزارة شؤون الأسرى والمحررين
على الرغم من عودة منظمة التحرير الفلسطينية إلى داخل الأراضي المحتلة، إلا أن الاستقرار السياسي والإداري لم يكن سهلًا ولا سريعًا، لا سيما وأن إرثها كان يتضمن دوائر تنظيمية متعددة داخل هيكل المنظمة، إلى جانب مديريات خدمية كانت تتبع الإدارة المدنية الإسرائيلية. وبين هذين النموذجين، كان على المنظمة أن تتحول من تنظيم/ حركة تحرر إلى حكومة، وأن تستوعب ميراث الإدارة المدنية دون أن تبتلع سياساته، مع المحافظة على شعبيتها بشكل متوازن.
شملت هذه التحولات دوائر أساسية في المنظمة، بعضها كان يمثل الروح والهوية الوطنية الفلسطينية، مقارنةً بالنمط الخدماتي البيروقراطي للإدارة المدنية، ومن بين هذه الدوائر، دائرة شؤون الأسرى والمحررين، التي شهدت تحولًا بارزًا، حيث كان يتولى مسؤوليتها آنذاك سليم الزعنون (أبو الأديب)، عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، وكان، مع فريقه، مسؤولًا عن متابعة قضايا الأسرى، ورعاية شؤون عائلاتهم، والتواصل مع المؤسسات الحقوقية والدولية، سعيًا لتحسين ظروفهم في سجون الاحتلال وضمان الاعتراف بمعاناتهم على المستوى العالمي.
وبعد تأسيس السلطة الفلسطينية بأربع سنوات، وفي ظل التجارب الحكومية الأولى من الحكومة الأولى والثانية وحتى الثالثة، كانت الدائرة قد وصلت إلى مرحلةٍ يُتحتم فيها انخراطها الكُلي في متابعة أسرى الشعب الفلسطيني بدلًا من أسرى المنظمة وحدهم، وفي حكومة فيصل الحسيني الذي ترأس الحكومة الفلسطينية عام 1998 بصفته عضوًا في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، أوعز ياسر عرفات بتحويل دائرة شؤون الأسرى والمحررين التي كان يقوم عليها هشام عبد الرازق إلى وزارة، وهو ما نجم عنه توسع في نطاق عملها ودعمها للأسرى المحررين وعائلاتهم.
استمر هشام عبد الرازق في منصبه وزيرًا في الحكومات الفلسطينية الثالثة والخامسة والسادسة والثامنة، بالتزامن مع كونه عضوًا في المجلس التشريعي الفلسطيني، وخلال تلك الفترة، شهدت الوزارة تغيرات متكررة في مسماها، حيث انتقلت من وزارة شؤون الأسرى إلى وزارة هيئة شؤون الأسرى والمحررين، ثم وزارة شؤون الأسرى والمعتقلين، وأخيرًا وزارة السجناء وشؤون الأسرى السابقين.
حافظت الوزارة، في الوقت ذاته، على نمطٍ منهجي في تعاملها مع الأسرى الفلسطينيين، حيث أطلقت عملية إحصاء وتنظيم ومتابعة شاملة، ترافقت مع إقرار مخصصات شهرية للأسرى والمحررين، تُحدد وفقًا لسنوات الأسر والحالة الاجتماعية، وتتناسب مع الحد الأدنى للأجور المعتمد لدى السلطة الفلسطينية، حيث تتراوح بين 400 و600 دولار أمريكي.
إلى جانب هذه المخصصات، قدمت الوزارة حزمة واسعة من الخدمات الاجتماعية والاقتصادية والصحية والتعليمية، شملت دعم المشاريع الاقتصادية للأسرى المحررين، وتأمين فرص التعليم الجامعي، وبرامج التدريب المهني، إضافةً إلى إعطائهم أولوية في التوظيف الحكومي.
كما تم اعتماد تصنيف تلقائي للأسرى ضمن “سُلم النضال الفلسطيني”، حيث يُعتبرون مناضلين منذ لحظة اعتقالهم الأولى، ما فتح المجال أمام الألوف منهم للانخراط في الأجهزة الأمنية والعسكرية للسلطة بعد الإفراج عنهم، ليكونوا جزءًا من الهيكل الرسمي الفلسطيني.
أما فيما يتعلق بأدائها تجاه الأسرى أثناء احتجازهم في سجون الاحتلال، فقد لعبت الوزارة دورًا محوريًا في متابعة قضاياهم القانونية، ورصد جولات محاكمهم، وتنقلاتهم بين السجون، كما وفرت لهم محامين للدفاع عنهم ومتابعة ملفاتهم القضائية.
بالإضافة إلى ذلك، تولت الوزارة تنسيق الزيارات الدولية للأسرى بالتعاون مع منظمة الصليب الأحمر الدولي، حيث عملت على تزويد الأسرى باحتياجات أساسية، شملت ملابس جديدة مرتين سنويًا (صيفية وشتوية)، وكتبًا، ومواد تعليمية، وألعاب ذكاء.
كما اضطلعت الوزارة بمهمة التفاوض مع مصلحة السجون الإسرائيلية من أجل تحقيق مطالب الأسرى وفق القانون الإنساني الدولي، لا سيما خلال فترات الإضرابات الجماعية أو الأزمات داخل المعتقلات، وسّعت الوزارة أيضًا دائرة نشاطها، عبر التنسيق مع المؤسسات الحقوقية والدولية لتوثيق الانتهاكات التي يتعرض لها الأسرى، ورفع مستوى الضغط القانوني والدبلوماسي على الاحتلال، لضمان تحسين ظروف اعتقالهم والدفاع عن حقوقهم المشروعة.
حتى على الصعيد الأكاديمي، تمكنت الوزارة من انتزاع حق الأسرى في استكمال تعليمهم الجامعي، حيث تولت وزارة التربية والتعليم مسؤولية تنظيم امتحانات الثانوية العامة داخل السجون، بينما تكفلت وزارة شؤون الأسرى والمحررين بتمويل الدراسة الجامعية للأسرى.
في البداية، كان هذا الحق مقتصرًا على الجامعة العبرية المفتوحة، لكن مع مرور الوقت، أبرمت الوزارة اتفاقيات تفاهم مع جامعة القدس (أبو ديس) وجامعة القدس المفتوحة، لتوسيع نطاق التعليم وتوفير تخصصات جديدة للأسرى.
ورغم الطابع الحكومي والرسمي للوزارة، فإن وجودها لم يتعارض مع الهيئات والمؤسسات الأهلية التي تعمل في الإطار نفسه، منها جمعية نادي الأسير الفلسطيني، التي تُعنى بشؤون الأسرى الفلسطينيين والعرب في سجون الاحتلال، وتملك فروعًا ومكاتب في جميع المحافظات الفلسطينية، كما أنها حاصلة على ترخيص رسمي من وزارة الداخلية الفلسطينية منذ عام 1996.
إلى جانب ذلك، نشطت مؤسسات أخرى مثل جمعية شؤون الأسرى والمحررين الفلسطينيين، ومؤسسة الضمير، وغيرها من الهيئات الحقوقية التي عززت الجهود المبذولة للدفاع عن الأسرى ومتابعة قضاياهم.
الانحدار المتسلسل: من وزارة إلى تكية
رغم أن أداء الوزارة تطوّر وانسجم مع حاجات الأسرى الفلسطينيين وعائلاتهم، إلا أن ذلك لم يمنع التدوير الوزاري المتكرر الذي شهدته منذ عام 1998 وحتى 2014، فقد تعاقب على قيادتها، إلى جانب هشام عبد الرازق، كل من سفيان أبو زايدة، ووصفي قبها (خلال حكومة حماس الأولى)، وسليمان أبو سنينة (في حكومة حماس الثانية “التوافق الوطني”)، وأشرف العجرمي، وأخيرًا عيسى قراقع، الذي شغل المنصب خلال حكومتي سلام فياض وحكومتي رامي الحمد الله.
مع ذلك، لم يكن جميع الوزراء على قدر المسؤولية الوطنية التي تتطلبها الوزارة ذات الطابع النضالي، إذ لا يمكن نسيان الأدوار الملتبسة التي لعبها بعضهم، وعلى رأسهم أشرف العجرمي، الذي شارك في مؤتمر تطبيعي في القدس المحتلة بحضور ضباط إسرائيليين، وألقى خلاله خطابًا أثار جدلًا واسعًا، حيث اعتبر أن “دفع رواتب للأسرى الفلسطينيين يشجع على العنف”، وأبدى “تفهمه” لمخاوف الاحتلال بشأن الأسرى ومخصصاتهم المالية.
كما أكد أنه خلال فترة توليه الوزارة “لم يكن ملتزمًا بدفع رواتب الأسرى لأنه لم يكن يرغب في تشجيع العنف”، وهو ما اعتُبر تنازلًا خطيرًا عن أحد أهم الملفات الوطنية التي شكلت ركيزة أساسية في النضال الفلسطيني ضد الاحتلال.
تصريحات العجرمي لم تكن مجرد موقف فردي معزول، بل كانت كاشفة لما يجري خلف الكواليس في دهاليز السياسة الفلسطينية، حيث تزامنت مع ضغوط إسرائيلية وغربية متصاعدة على السلطة الفلسطينية، خاصة خلال عام 2014، الذي شهد إضراب الأسرى الإداريين، الذي استمر 63 يومًا (من نهاية إبريل حتى منتصف يونيو).
شارك في هذا الإضراب أكثر من 550 أسيرًا فلسطينيًا، احتجاجًا على سياسة الاعتقال الإداري، والعزل الانفرادي، واعتقال زوجات الأسرى خلال الزيارات، فيما لعبت وزارة شؤون الأسرى، في عهد الوزير عيسى قراقع، دورًا محوريًا في الضغط القانوني على مصلحة السجون، وحشد الدعم الشعبي الفلسطيني لإسناد الأسرى.
في تلك الأثناء، وبينما كان الأسرى يخوضون معركة الأمعاء الخاوية، كانت أعين السلطة الفلسطينية موجهة نحو تحقيق أكبر قدر من الرضى الدولي والإسرائيلي عن أدائها، فأصدر محمود عباس مرسومًا رئاسيًا بتاريخ 29/5/2014، أي قبل فك الإضراب بأسبوعين، يقضي بتفكيك وإلغاء وزارة الأسرى كإحدى مؤسسات مجلس الوزراء الفلسطيني، في خطوة أثارت غضبًا واسعًا في الشارع الفلسطيني.
في محاولة لتدارك الغضب الشعبي، أصدر عباس مرسومًا رئاسيًا آخر في أغسطس 2014، يقضي بإنشاء هيئة شؤون الأسرى، على أن تكون تابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية بدلًا من الحكومة الفلسطينية، ووفقًا لهذا القرار، أصبحت الهيئة إحدى مكونات المنظمة.
ورغم أن عيسى قراقع انتقل فعليًا من وزير إلى مدير هيئة، إلا أن المرسوم الرئاسي حفظ له رتبة الوزير، وهو ما عكس رغبة السلطة في تجنب صدام أكبر مع الشارع الفلسطيني، ومع ذلك لم يكن هذا التغيير مجرد إجراء إداري، فقد أدى إلى تقليص صلاحيات الوزارة بعد تحويلها إلى هيئة، ما انعكس بشكل مباشر على تراجع المستويات الخدماتية والمالية المقدمة للأسرى.
كما أدى القرار إلى تحويل تمويل الهيئة من الموازنة العامة للسلطة الفلسطينية إلى منظمة التحرير، ما فتح الباب أمام تقليصات متتالية في الدعم، وصلت ذروتها خلال عامي 2017 و2019، عندما تم سحب الدعم المالي والقانوني عن العديد من الأسرى وعائلاتهم، دون أن تكون هناك مساءلة واضحة، باعتبار الهيئة كيانًا غير حكومي، لا يخضع لرقابة الحكومة الفلسطينية أو لمعايير المحاسبة الرسمية.
في حين حاولت الجهات الرسمية الفلسطينية، مثل وكيل وزارة الأسرى زياد أبو عين، تبرير خطوة السلطة باعتبارها دليلًا على اهتمام القيادة الفلسطينية بالأسرى، وسعيها إلى رفع مكانة قضيتهم عبر إلحاقهم بمنظمة التحرير، زاعمًا أن ذلك سيمنح الهيئة استقلالية أكبر عن إملاءات الدول المانحة، فإن جهات أخرى اعترفت بأن الخطوة جاءت استجابة لضغوط خارجية، فقد فرضت لجان تحقيق دولية رقابة صارمة على عملية تسليم المخصصات المالية للأسرى، متهمة السلطة الفلسطينية بتمويل ما تعتبره “إسرائيل” ودول غربية “إرهابًا”.
بعد أربع سنوات من هذا القرار، وخلال المرحلة الأولى من “صفقة القرن” التي طرحها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، نشرت صحيفة معاريف الإسرائيلية تسريبات تؤكد أن محمود عباس كان بصدد إصدار قرار بإلغاء هيئة شؤون الأسرى بالكامل، وذلك ضمن تفاهماته مع الإدارة الأمريكية، في خطوة اعتُبرت تمهيدًا للدخول في مفاوضات جديدة مع “إسرائيل”.
آنذاك، كشفت الصحيفة أن مخطط عباس كان دمج هيئة شؤون الأسرى ضمن إحدى وزارات حكومة التوافق الوطني التي يرأسها رامي الحمد الله، وتحديدًا ضمن وزارة الداخلية، ووفق الصحيفة، فإن السلطة كانت تسوق المبررات لهذا القرار بين الأزمة المالية والضغوط الدولية، ما يجعل إلغاء الهيئة مسألة حتمية وفق المسار السياسي الذي تتبناه السلطة.
في ذلك الوقت، جاء رد مدير هيئة شؤون الأسرى، عيسى قراقع، ليؤكد حجم الضغوط الخارجية المفروضة على الملف، حيث قال: “قضية الأسرى تتعرض لضغوط خارجية لا تستطيع السلطة الفلسطينية ولا هيئة شؤون الأسرى الوقوف في وجهها”، وهو ما أثار غضبًا فلسطينيًا واسعًا، باعتبار أن إضعاف الهيئة أو تصفيتها سيمثل انتكاسة خطيرة للقضية الفلسطينية.
في العام التالي، أقدمت السلطة الفلسطينية على قطع رواتب ومخصصات 277 عائلة أسير محرر من قطاع غزة، دون تقديم أي تبريرات رسمية واضحة، ورغم أن بعض هؤلاء الأسرى ينتمون إلى حركة فتح، إلا أن قرار السلطة لم يستثنِهم، حتى العشرات منهم ممن قضوا أكثر من عشر سنوات في سجون الاحتلال.
جاء رد رئيس هيئة شؤون الأسرى، قدري أبو بكر، على مطالبات أسرى غزة بإعادة رواتبهم، بقوله: “هناك عوامل ومُسببات لقطع الرواتب وعدم صرف أي مستحقات، تتمثل في أن يتضمن ملف لائحة الاتهام تهمة الانتماء لتنظيم إرهابي مثل داعش، أو أن يمتلك تجارة مثل تجارة السلاح، كما أن هناك من يُقطع راتبه بتعليمات أمنية لا علاقة لنا بها”.
وأوضح أن قرار قطع الرواتب يتم وفق تعليمات أمنية، وهو خارج عن إرادة هيئة شؤون الأسرى، حيث لا تتم مراسلتها أو استشارتها بشأن هذه القرارات، وإنما يتم التواصل مباشرة مع وزارة المالية، التي تتولى تنفيذ القرار دون الرجوع إلى الهيئة.
في عام 2019، وافق المجلس الوزاري الإسرائيلي لشؤون الأمن والسياسة على تنفيذ قانون تجميد رواتب عوائل الأسرى والشهداء من أموال عائدات الضرائب الفلسطينية، الذي أقره الكنيست الإسرائيلي في يوليو 2018 تحت مسمى “قانون مكافحة الإرهاب”، وبموجب هذا القرار، اقتطعت “إسرائيل” نحو 600 مليون شيكل، مدعيةً أنها تعادل رواتب أسر الشهداء والأسرى الفلسطينيين.
ردًا على ذلك، قطعت السلطة الفلسطينية رواتب 450 أسيرًا محررًا من مختلف الفصائل والقوى الوطنية. وفي المقابل، أعلن الرئيس الفلسطيني عن تشكيل لجنة حكومية لدراسة قضية رواتب الأسرى وعائلاتهم.
ومع إصدار الاحتلال أمرًا عسكريًا يمنع البنوك الفلسطينية من التعامل مع رواتب الأسرى والشهداء نهاية عام 2020، قررت الحكومة الفلسطينية صرف مخصصات الأسرى عبر مكاتب البريد الفلسطيني، وهو القرار الذي شمل أيضًا الجرحى وذوي الشهداء.
مع بداية 2021، أوقفت السلطة صرف مخصصات 120 من الأسرى المحررين في الضفة الغربية، بناءً على توصية من الجهات الأمنية الفلسطينية إلى وزارة المالية، وهو ما شكل خرقًا آخر لقانون الأسرى والمحررين 2004 الذي يُلزم السلطة الفلسطينية بالتكفل بخدمات التعليم والتأمين الصحي والاجتماعي للأسرى المحررين، و دفع مخصصات شهرية لهم.
ترافق ذلك مع مرسوم رئاسي بتاريخ 19 يناير 2021، يقضي بدمج كل أسير محرر له قيد مالي ساري المفعول في هيئة شؤون الأسرى والمحررين، وفقًا لشروط الوظيفة العمومية، ليتم توظيفهم في المؤسسات المدنية أو الأمنية، بينما يُحال من لا تنطبق عليهم الشروط إلى التقاعد.
في ذلك الوقت، كشف مدير هيئة شؤون الأسرى عن وجود مباحثات بين السلطة الفلسطينية والجانبين الأمريكي والأوروبي، تتضمن الموافقة على صرف رواتب الأسرى عبر وزارة التنمية الاجتماعية، باعتبارهم حالات اجتماعية، في خطوة تهدف إلى نزع الصفة النضالية عن الأسرى، وتحويل حقوقهم من إطار وطني إلى سياق إغاثي اجتماعي.
وقبل نهاية عام 2021، كان وزير التعاون الإقليمي في حكومة الاحتلال، عيساوي فريج، قد أكد في مقابلة صحفية أن السلطة الفلسطينية تعتزم وقف تحويل رواتب الأسرى الفلسطينيين في السجون، لأنها تعلم بأن الأزمة المالية التي تمر بها سببها انخفاض مواردها المالية، والمساعدات الأميركية لها والأموال التي تخصم من الضرائب نتيجةً لمخصصات الأسرى.
في إبريل 2024، كشفت مصادر إعلامية أن السلطة الفلسطينية تدرس تشكيل هيئة جديدة تتولى تقديم مخصصات مالية للأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، وذلك بعد إلغاء قانون الأسرى الحالي، الذي يضمن رواتب مالية متصاعدة للأسرى، تتزايد مع طول فترة الاعتقال.
وأوضحت المصادر أن المقترح ذو منشأ أمريكي، ويتضمن تقديم مخصصات مالية للأسرى وفقًا للحالة المالية لعائلاتهم، على أن يتم الصرف عبر وزارة التنمية الاجتماعية. لكن السلطة، وفقًا للمصدر، تدرس خيار إنشاء هيئة خاصة لهذا الغرض.
يأتي ذلك بعد اقتراح آخر قُدِّم في منتصف 2023 من إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، عبر مقربين من الرئيس محمود عباس، يتضمن وقف دفع رواتب الأسرى والمحررين خلال ثلاث سنوات، وتحويلها إلى مخصصات رفاه اجتماعي، في محاولة لتجاوز الأزمة المالية والضغوط السياسية المفروضة على السلطة.
جاءت الاقتراحات الأخيرة مصحوبةً بوعودٍ وتعهدات بتقديم مساعدات مالية من الاتحاد الأوروبي إلى السلطة الفلسطينية بقيمة 400 مليون يورو، حيث دخل الاتحاد الأوروبي على الخط مؤكدًا أن صرف هذه المساعدات مرهون بإصلاحات مسبقة تتطلب تنفيذها من قبل السلطة الفلسطينية قبل الإيفاء بتعهداته المالية.
وهو ما حدث فعليًا، إذ أصدر الرئيس الفلسطيني في مطلع فبراير الحالي مرسومًا يقضي بإلغاء القوانين والقرارات الحكومية واللوائح الإدارية التي تنظم صرف المخصصات المالية للأسرى في سجون الاحتلال من موازنة السلطة الوطنية، كما نص المرسوم على تحويل بيانات الأسرى والشهداء والجرحى ومخصصاتهم المالية، سواء المحلية أو الدولية، من وزارة التنمية الاجتماعية إلى المؤسسة الوطنية الفلسطينية للتمكين الاقتصادي.
التخلي عن الأسرى: الأبعاد والتبعات
بالنسبة للسلطة الفلسطينية، فإن القرار يحظى بتبعات مالية مهمة، ربما أبرزها تراجع الحكومة الإسرائيلية عن خصم 60 مليونًا من أموال المقاصة -ارتفع خلال 2022 إلى 120 مليون بدون سبب واضح-، واستعادة التدفق المالي الأوروبي والأمريكي، لكن المطالب لا تُتاح بأمنيات السلطة ولا تخيلاتها.
كان رد الفعل الإسرائيلي، ولا يزال، متشككًا، منذ الخطوة الأولى التي اتخذتها السلطة الفلسطينية عام 2014، وعلى مدى السنوات اللاحقة التي شهدت تقليصات متتالية، وإعادة هيكلة، وإجراءات متخاذلة بحق الأسرى، على حساب الحقوق الوطنية الفلسطينية.
أما الرد الأمريكي، فجاء مرحّبًا بجلافةٍ غربية، تعكس استعلاءً واضحًا، حيث شددت الإدارة الأمريكية على “المراقبة اللصيقة لمدفوعات السلطة خلال الأشهر القادمة”، لضمان التأكد من تنفيذ القرار، في خطوة اعتبرها مراقبون تكريسًا للضغوط الدولية المفروضة على السلطة الفلسطينية، وإمعانًا في إخضاع الملف الفلسطيني للمعايير الأمريكية والإسرائيلية.
فلسطينيًا، لن تكون هذه المرة الأولى التي تضرب بها السلطة ظهر شعبها بمنجل، فمسلسل التنسيق الأمني أطول من أن ينتهي، والمسرحيات الخاصة بإعمار القطاع والضفة الغربية تتجاوز حدود الخيال، فيما لم تعد سياسات التخوين والهروب التي تمارسها السلطة ضد الوحدة الوطنية ولجنة الإسناد المجتمعي لقطاع غزة خافية حتى على أكثر العقول سذاجة.
يأتي ذلك في مقابل سياسة سحب الذرائع التي تمارسها السلطة إكرامًا للمحتل، حيث تتنازل عن شعبها وأسراها وشهدائها، وعن هويتها الوطنية وبوصلة النضال، كل ذلك حفاظًا على وعود جوفاء بالعودة إلى طاولة المفاوضات، التي لم تكن يومًا إلا وسيلة لترسيخ الاحتلال لا لإنهائه.
وأمام موجة الغضب التي صاحبت القرار، وبرز على رأسها رئيس هيئة شؤون الأسرى والمحررين الحالي، قدورة فارس، الذي سارع لعقد مؤتمر صحفي، أكد فيه عدم تسلم إشعارٍ مسبق بخطوة الرئيس، ورفضه له، مطالبًا بسحبه ومشددًا على أن “موضوعا بهذا الحجم كان يستدعي انعقاد المجلس الوطني الفلسطيني لاتخاذ قرار بشأنه، لا سيما وأنه يمس شريحة واسعة من الشعب الفلسطيني ولا يمكن القبول به”.
نتيجة لذلك، سارع الرئيس الفلسطيني بإصدار مرسومين آخرين، أولهما ينص على إحالة قدورة إلى التقاعد، والثاني تعيين رائد عرفات أبو الحمص بديلًا عنه لرئاسة الهيئة، وهو ما قابله قدورة بعدم الاكتراث مؤكدًا أنه “سيبقى في الميدان وبكل المحافل للوقوف بجانب الأسرى” وأنه “سيواصل خدمتهم بمنصبٍ أو بدونه”.
بالمحصلة، قد يرى البعض أن خطوات السلطة ستُضعف المقاومة الفلسطينية، وتكبح جماح الشباب الفلسطيني عن مواجهة الاحتلال، بل وسترفع كلفة هذه المواجهة عبر إلغاء المكافآت وقطع المخصصات عن الأسرى، لكن ما ينساه هؤلاء هو أن من قدَّم عمره طويلًا في سجون الاحتلال لن تكسره تخاذلات سلطة التنسيق الأمني، كما أن المخصصات التي تقدمها السلطة حُجبت منذ سنوات عن أسرى فصائل المقاومة، دون أن يكون لذلك أي تأثير فعلي على استمرار المقاومة.
بل يتجاهلون حقيقة أخرى، وهي أن معظم هذه المخصصات تُصرف لمنتسبي الأجهزة الأمنية من الأسرى المحررين، ممن يؤدون اليوم فروض الولاء للسلطة عبر ملاحقة المقاومين في الضفة الغربية، بل وعرض خدماتهم لملاحقة المقاومة في غزة أيضًا.
على الجانب الآخر، يرى البعض أن رئيس السلطة يسعى لإقناع الولايات المتحدة بإلغاء قانون “تايلور فورس”، الذي يحجب المعونات الأمريكية عن السلطة بحجة تمويلها للإرهاب، لكن ما فاتهم إدراكه هو أن المعونات قد حُجبت بالفعل بعد قرار رئيس السلطة، دون أن يلقى ذلك أدنى اهتمام أو اعتراف به.
نعم، هناك أبعاد اقتصادية واضحة، أبرزها دفع الأسرى إلى تحقيق اكتفائهم بعيدًا عن مخصصات السلطة، وقطع أي علاقة مالية تربطهم بها في المستقبل.،وهناك أيضًا أبعاد اجتماعية تعيد تقسيم المجتمع الفلسطيني إلى “طبقة أوسلو” و”طبقة الثوار”.
نعم، هناك تبعات واضحة، أبرزها التهاوي المتسارع للسلطة الفلسطينية على المستوى الشعبي والاقتصادي والسياسي وحتى الحكومي، وهناك أيضًا حقائق صارخة، أهمها أن السلطة الفلسطينية ترسخت في نفس الخندق مع “إسرائيل” والولايات المتحدة والغرب ضد شعبها.
وفي المشهد، هناك صورتان متناقضتان: الأولى، لدمار هائل، لكنه يُخرج من بين أنقاضه ألوف الأسرى، الذين يولدون من جديد في سجل المقاومة وعزمها. والثانية، لعجوز هرم يتلكأ باحثًا عن الفتات، لاهثًا خلف سراب الرضا والقبول، متشبثًا بأوهام سياسية تجاوزها الزمن.