دارت الحياة في منطقة الخليج حول المياه باعتباره المقوِّم الأساسي للبقاء، وكان نفادُه أو العثورُ عليه في جوفِ الأرضِ مدعاةً لشدِ الرحال أو إقامتها، فوفقًا للمستكشف البريطاني ويلفريد ثيسجر أحد أوائل الأوروبيين الذين عبروا الربع الخالي: “تم تحديد طرق التجارة في الصحراء من خلال مواقع آبار المياه والمسافات الفاصلة بينها.” .
حتَّمَ المناخُ القاسي في صحراءٍ تبتلع المطَر والعثورعلى النفط -هذه المرة- في الآبار، ضرورة السعي لإدارة مختلفة للمياه خاصة بعد أن ارتفع معدل نمو السكان وشيدت المدن، كل ذلك يحتاج لمزيد من المياه فمن أين يأتي وهو شحيح، وما هو المصير الذي يواجهه؟
مصادر المياه في دول الخليج.. وتحديات إدارتها
تنقسم مصادر المياه في دول الخليج لمصادر تقليدية متجددة، وتشمل الأمطار وأحواض تجميع المياه، إضافة للمياه الجوفية المتجددة وغير المتجددة. في حين تعدّ مياه التحلية والمياه المعاد استعمالها مياهًا غير تقليدية. كل تلك المصادِر هي إجمالي المياه العذبة المتاحة للاستخدام.
التحدي المناخي
“حار وجاف صيفًا، بارد وممطِر شتاءً”. هكذا يوصف المناخ الصحراوي الحار الذي يغطّي أغلب مساحة دول الخليج الممتدة على 2.4 مليون كم مربع، إلا أن معدل الأمطار فيها يتراوح بين 50-125 مليمتر سنويًا، وتعد من المعدلات الأقل على مستوى العالم.
معدل ارتفاع درجة الحرارة سنويا
إنهاك المخزون
تعتمد المياه العذبة المتاحة للاستخدام بنسبة 80.2% على مصادر المياه التقليدية في أغلب دول الخليج، (32.6% منها مياه متجددة (الأمطار وأوعيتها) و67.4% مياه غير المتجددة (المياه الجوفية العميقة)، هذه المياه الجوفية التي تشكل نصف نسبة مصدر المياه العذبة تواجه خطر الاستمرار في الانخفاض في دول الخليج. فعلى مدار السنوات الثلاثين الماضية ينخفض مستوى المياه الجوفية في الإمارات حوالي متر واحد كل عام، الأمر الذي يضع الإمارات أمام تهديد فعلي بفقدان المياه العذبة الطبيعية خلال 50 عامًا، إذا ما استمر الوضع على حاله.
ومع هذه المعطيات فإن نصيب الفرد السنوي في الخليج من المياه يقل عن 1000 متر مكعب، نسبة أقل بـ 6 مرات من المتوسط العالمي للفرد البالغ 7000 متر مكعب، ناهيك عن إمدادات المياه العذبة المتجددة التي تعد دون 500 متر مكعب للفرد في السنة في كل دول الخليج، يتضح ذلك في الكويت التي تعتمد اعتمادًا كاملًا تقريبًا على الموارد المائية غير التقليدية.
الاستهلاك المرتفع
تضاعف سكان الخليج منذ مطلع الألفية من 29 مليون ليصل عددهم 57 مليون في 2018. هذه الزيادة السكانية رافقتها زيادة في الطلب على المياه من نحو 6 مليارات متر مكعب في عام 1980 إلى أكثر من 32 مليار متر مكعب في عام 2005. وبنظرة أقرب، تستخدم البحرين 132.3% من احتياطي المياه المتجددة لديها، مقابل 871.7% في السعودية و2075% في الكويت. نسب هائلة تضع الأمن المائي على المحك.
80% من المياه السطحية والجوفية تستخدم سنويًا تاركة مساحة ضئيلة جدًا لطوارئ مناخية وأمنية، هذا الاستهلاك المتنامي قد لا يستشعره ويواجهه الكثير من سكان ومواطني دول الخليج، إذ تعتبر أسعار المياه في دول مجلس التعاون بالرغم من ندرتها وتكلفة إنتاجها العالية من أرخص الأسعار في العالم، مما يفاقم قضية الإسراف خصوصًا عند عدم دفع القيمة الحقيقية للماء في دول تعاني إجهادًا مائيًا عاليًا. وبزيادة هذا الاستهلاك، وضرورة تلبية احتياجات التنمية زاد الطلب على المياه، الأمر الذي دفع دول المنطقة إلى اللجوء لخيار مصادر المياه غير التقليدية.
التحلية
تعتبر دول الخليج من أكبر المناطق التي تنتج مياهًا غير تقليدية إما بواسطة تحلية مياه البحر أو المياه الجوفية المالحة أو معالجة مياه الصرف الصحي، إذ أن أكثر من 75% من مياه البحر المحلاة في العالم موجودة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، 70% منها في بلدان مجلس التعاون الخليجي (السعودية والكويت وقطر والبحرين والإمارات).
ولا غرابة إذ تضم دول الخليج 167 محطة تحلية بسعة تصميمية تبلغ 7,824.8 مليون متر مكعب في اليوم، وتعتمد الدول العربية المطلة على الخليج اعتمادًا شديدًا على تحلية المياه للشرب. فالسعودية والإمارات والكويت لديهما أعلى طاقة إنتاجية للمياه المحلاة في العالم، ومن المتوقع أن يزداد الطلب على المياه في هذه الدول بنسبة 50% بحلول عام 2025، كما أن قطر التي تمتلك ٣ محطات رئيسية لتحلية المياه تحصل على أكثر من 90% من مياهها الصالحة للشرب.
وعوضًا عن التكلفة العالية لمياه التحلية التي تستنزف الكثير من الطاقة، فإن سعة تخزينها لا يمكنها الصمود سوى لأيام معدودة أمام تداعيات الأزمات في الخليج، فعلى سبيل المثال في يوليو عام 1997، تسرَّب وقود الديزل من بارجةٍ اصطدمت بقاع المياه في إمارة الشارقة، ودخل مأخذ إحدى محطات تحلية المياه، وأدى إلى تلوث كبير في إمدادات المياه لحوالي نصف مليون شخص. وأسفرت تلك الحادثة عن عدم توافر مياه الشرب في إمارة الشارقة يوماً كاملاً.
تواجه هذه الدول تحديات من داخلها عوضًا عن تحديات الواقع ومناخه، إذ تتعدد المؤسسات المسؤولة عن المياه فتضيع المحاسبة والرقابة، فهناك وزارة مياه وهيئات عامة للإشراف على المياه بل إن القطاع العسكري يتولى أحياناً مسؤولية إنشاء محطات تحلية المياه في بعض الدول، كما تفتقر هذه المؤسسات إلى مقومات البحث والدراسات الإقليمية ويصعب العثور على المعلومات والإحصائيات الخاصة بواقع المياه لضعف قواعد البيانات المشتركة، إلا لو أعلنت عنها مراكز بحث خارجية.
وبالرغم من زيادة عدد الخريجين واستضافة جامعات نخبوية حول العالم، إلا أن نصيب تخصصات المياه لا يزال قليلًا. إلى جوار ذلك فإن غياب الترشيد في الاستهلاك يعد أحد أكبر التحديات التي يجب تخطيها، فالمظاهر الواضحة لاستنزاف المياه على مستوى القطاعين السكني والزراعي تتطلب توعية اجتماعية مكثفة لتغيير السلوك البشري تجاه هذا المورد المهدّد.
المستقبل المجهول
تتربع 3 دول خليجية من أصل 6 في المراكز العشرة الأولى لأعلى دول في الناتج المحلي الإجمالي للفرد الواحد. تأتي قطر في المركز الأول والإمارات في السابع وتليها الكويت في الثامن، ولا تبعد عنها البقية بكثير فالسعودية 18 والبحرين 27 وعمان 36. وبالرغم من شحّ الموارد التقليدية في هذه المنطقة، إلا أن موارد النفط ينبغي أن تكون فرصة لإعادة الحسابات في منطقة تواجه خطر عالي للإجهاد المائي، في آخر تقرير نشرته بلومبرغ حسب دراسة قام بها معهد الموارد العالمي فإن دول الخليج تتربع على القائمة مجددًا مواجهة (إجهادًا مائيًا خطيرًا للغاية) تأتي قطر في المرتبة الأولى عالميًا تليها الكويت في المرتبة السابعة والسعودية في الثامنة والإمارات في المرتبة العاشرة ثم البحرين في الثانية عشر وعمان في السادسة عشر.
خاتمة الإنقاذ
تغرف دول مجلس التعاون من الخليج ذاته لتحلّي مياهها، وتتشارك الطبيعة الصحراوية القاسية في أغلب أراضيها حيث تندر الموارد الطبيعية وتتناقص بسرعة، عوضًا عن التحديات الداخلية التي تواجهها من استهلاك مفرط وغياب للسياسات الإدارية الشاملة، يحتم ذلك جعل مسألة المياه في أولى اهتماماتها لتتبع خططها الجوانب الأساسية التالية: أولاً، بناء وتحديث خطط طويلة الأجل على أساس أولوية المياه والتحديات المحيطة بها لمواجهة مهددات الأمن المائي. ثانيًا، دعم مؤسسات الدولة لتطبيق هذه الخطط وتنفيذها ومنع صلاحيات للمنظمات غير الحكومية للمراقبة والرصد. ثالثًا، تطويع التكنولوجيا الحديثة في المياه لرفع المخزون وتقليل الهدر. وأخيرًا، تفعيل التشريعات والقوانين المحافظة على المياه.