مضطرب.. تارة يرتفع وتارة ينخفض، كضغط مريض يعاني الأرق والقلق.. هذا هو وصف الاقتصاد السوري عبر الحقبة الزمنية الماضية، كونه لصيق السياسة وتوجهاتها، فقد مر بالعديد من التقلبات وفق الاختلافات السياسية والاقتصادية والانقلابات العسكرية، حاله حال معظم اقتصادات دول العالم الثالث.
فمنذ استقلال سوريا عام 1946، مرورًا بالوحدة مع مصر وقرارات التأميم، وصولًا إلى عام 1963 عندما تسلم حزب البعث السلطة، إلى عهد حافظ الأسد الذي بدأت بتاريخه العقوبات، وصولًا إلى ابنه بشار الأسد الذي جعل من الاقتصاد سوطًا يضرب ظهور الفقراء، وحتى هروبه وتسلم الإدارة الجديدة البلاد.. وإعلانها توجهًا اقتصاديًا هو الأول في التاريخ السوري.
في هذا التقرير، نستعرض أهم المراحل التي مر بها الاقتصاد السوري خلال نحو نصف قرن من الزمن.
اقتصاد اشتراكي من 1963 وحتى 2000
(نمو ـ عقوبات ـ ثم أزمة الثمانينات ـ وكسر العزلة)
الاقتصاد السوري خلال الفترة الممتدة بين عام 1963 وحتى الحركة التصحيحية 1970 تبنى النهج الاشتراكي المركزي القائم على هيمنة الدولة على اقتصاد البلاد، بالإضافة إلى التخطيط المركزي، مع استمرار عمليات التأميم للشركات، ما دفع بالقطاع الخاص وأمواله إلى خارج سورية، وأضعف الاستثمار، وخلق نخبًا اقتصادية برجوازية.
في عام 1970 عندما استولى حافظ الأسد على السلطة، أُقر في الدستور المادة 13 والتي ذكرت أن الاقتصاد في سورية هو اقتصاد اشتراكي مخطط، فعمل على كسر عزلة الاقتصاد عبر شراكات مع القطاع الخاص، وظهر هنا ما يسمى (القطاع المشترك) وأعطى أريحية للمستثمرين، وكان إجمالي الناتج المحلي نحو 6.8 مليار ليرة سورية أي (136 مليون دولار)، وهذا التوجه دعم القطاعات الاستراتيجية في سورية، وانطلق الإصلاح الزراعي وتم دعم الإنتاج والتصنيع، فارتفع الناتج المحلي الإجمالي عام 1980 إلى 51.2 مليار ليرة سورية (1.024 مليار دولار)، (الدولار كان يساوي 5 ليرات سورية).
واتسمت هذه المرحلة بإحداث مشاريع كبيرة عبر استثمارات عربية، مثل إنشاء محطات الكهرباء وبدء استخراج النفط وإنشاء سد الفرات، ولكن هذه الفترة الذهبية لم تدم طويلًا، فبعد أن انكمشت العلاقات السورية المصرية، توجه حافظ الأسد في تحالفه إلى إيران وأعلن تأييده للثورة الخمينية، وتعمق التعاون لدرجة أن الأسد ساند إيران في حربها ضد جارته العراق، وذلك لقاء آلاف براميل النفط المجانية، بالإضافة إلى ميزات اقتصادية أخرى.
ولكن هذا العطاء والتحالف مع إيران عرّض سورية لحصار وعقوبات اقتصادية أمريكية جعلت الاستثمارات العربية في سورية تعيد حساباتها وتعود أدراجها، كون سورية أصبحت -وفق ما نصت عليه العقوبات الأمريكية- دولة راعية للإرهاب، وعندها خُلقت أزمة الثمانينات الاقتصادية، فتوقفت جميع المساعدات الخليجية المالية، والتي كانت تقدر بأكثر من مليار ونصف المليار دولار سنويًا، حيث لعبت هذه الأموال دورًا كبيرًا على مدى أكثر من عشر سنوات، في حماية الاقتصاد السوري من الانهيار في أعقاب حربين مدمرتين، في عام 1967 وعام 1973.
عندها رفع حافظ الأسد شعار الاكتفاء الذاتي، وذهب بالانفتاح على التهريب لكسر الحصار، ما أضعف القطاع الصناعي السوري، وبالتالي انتشار البطالة وزيادة معدلات الفقر، وكان هذا الشعار حلم لم يتحقق على أكمل وجه نتيجة الفساد وضعف الإمكانيات وتبديد الموارد المتوفرة.
مع حلول عام 1990 أطلق حافظ الأسد إصلاحات اقتصادية في محاولة منه لكسر العزلة، فأصدر العديد من القوانين والتسهيلات، منها إصدار قانون الاستثمار رقم 10 عام 1991، بهدف زج القطاع الخاص في الاقتصاد وجلب استثمارات خارجية، كما أصدر قانون المهاجرين والذي يسمح للسوريين المهاجرين بإدخال سيارات وأثاث منزلي وآلات وتجهيزات صناعية بهدف الاستثمار في المجال الصناعي أو الزراعي، ومنح تسهيلات مصرفية، حيث سمح للمواطنين السوريين بفتح حسابات مصرفية بالعملات الأجنبية، وبالفعل بدأت الاستثمارات تتدفق وشهد الاقتصاد السوري نموًا قويًا طوال التسعينات، (سعر صرف الدولار ارتفع ليتجاوز 35 ليرة).
اقتصاد السوق الاجتماعي مع بداية حكم بشار الأسد
(تحسن المؤشرات ـ الهجرة الداخلية ـ ظهور حيتان الاقتصاد ـ اقتصاد قليل المناعة)
عام 2000 وبعد وفاة حافظ الأسد، ورث ابنه بشار السلطة، حينها لم يعد الحفاظ على النظام الاقتصادي الاشتراكي القديم خيارًا ممكنًا، فقيود الاقتصاد الاشتراكي لا تناسب الألفية الجديدة، وفي الوقت نفسه، طالبت المؤسسات المالية الدولية، مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وكذلك حكومات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، بإعادة هيكلة النظام الاقتصادي السوري نحو اقتصاد السوق المفتوح إلى حد ما، كما عجّلت الألفية الجديدة من الانتقال نحو العولمة والأسواق الحرة، التي أتاحت الفرص للحكومة السورية للوصول إلى الأموال العالمية وتحسين علاقاتها – سياسيًا واقتصاديًا، وفعلا جرى الإعلان عن نهج اقتصادي جديد يسمى (اقتصاد السوق الاجتماعي)، ليبدأ بشار الأسد بتطبيق برنامج إصلاحي، ولكن وفق رؤيته وقواعده.
بلغ الناتج المحلي الصافي، 86.6 مليار ليرة سورية عام 2000، وسجل الناتج المحلي الإجمالي السوري نموًا إيجابيًا بمعدل 2 بالمئة خلال عام 2004، وبين عامي 2005 و2010، عندما بدأت الإصلاحات في إظهار آثارها الأولى، ارتفع معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي إلى حوالي 5 بالمئة في المتوسط.
في الوقت نفسه، ظل عجز الموازنة السورية تحت السيطرة، مع ارتفاع الاحتياطيات الأجنبية (أكثر من 60 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي)، ودين خارجي منخفض نسبيًا (17.2 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي)، وتحسّنت بيئة الاستثمار السورية بشكل كبير، بين عامي 2000 و2008، وارتفع معدله من 17 بالمئة إلى 25 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي.
ولكن رغم التحسّنات الكبيرة للاقتصاد، فإنه لا يمكن تجاهل الصورة الأكبر، وهي أن هذا التحسن كان بقيادة قطاع الخدمات، وتركزت الاستثمارات الأجنبية – الخليجية بالأخص – على المشاريع العقارية والسياحية المُترَفة، كما بقيت إنتاجية القطاع العام الضعيفة على حالها.
على المقلب الآخر، شهدت أسعار السلع والمواد ارتفاعات كبيرة خلال الفترة المذكورة، ولم تعد الأجور تغطي تكاليف المعيشة، وخاصة أن نحو 70 بالمئة من الشعب يعتمد على الراتب، وتركزت الثروة بيد نحو 10 بالمئة من الشعب، نتيجة ظهور طبقة المتنفذين اقتصاديًا، وهم نخب اقتصادية اعتمدت على نفوذ المال، استطاعت من خلاله التحالف مع السلطة، لتبدأ ولادة (الواجهات الاقتصادية للسلطة) (طلاس وخدّام وسليمان ودوبا وشاليش وشوكت وحمشو وسامر الفوز وغيرهم)، التي مُنحت تسهيلات كبيرة من احتكار في الأنشطة الاقتصادية، عبر شركات حقيقية وأخرى وهمية.
ومع تعاظم هذه الواجهات وتضخمها ماليًا، ظهر في سورية مصطلح (حيتان الاقتصاد)، الذين سيطروا على العديد من القطاعات الاقتصادية الهامة والأنشطة في سورية، في حين جرى إهمال القطاع العام، وهذا الإهمال جعل الترهل والفساد ينتشران به ما جعله ضعيفًا وخارج الحسابات الاقتصادية كمشارك فاعل في الناتج المحلي الإجمالي.
وعلى اعتبار اقتصاد السوق الاجتماعي يقوم في جزء من مفهومه على تقديم الدعم للسكان، فقد توجهت الحكومة السورية لدعم السلع التي تمس حياة المواطنين، كالخبز والمازوت والبنزين، والسماد والكهرباء والمياه، ولكن هذا الدعم لم يستمر على حاله، ففي عام 2008 بدأت برفع الدعم عن المازوت والسماد، وتزامن ذلك مع تعرض سورية لجفاف وقحط أثر على الزراعات بشكل بالغ، ما دفع بمئات آلاف المزارعين وأبناء المنطقة الشرقية لترك أراضيهم والهجرة إلى أطراف المدن، وهو ما أطلق عليه (الهجرة الداخلية لأبناء المنطقة الشرقية) فحدث تغير ديموغرافي وتعززت مستويات الفقر، وضعفت البنى التحتية وبدأت ظهور العشوائيات في أطراف دمشق.
كان لقطاع الخدمات (الريعي) حصة كبيرة في الاقتصاد السوري عهد بشار الأسد، وهو اقتصاد قليل المناعة، حيث يتعرض للمرض بسرعة، كقطاعات السياحة والعقارات والمولات والإنترنت والاتصالات، وهذه القطاعات رفعت من معدلات التضخم بشكل متواتر كونها ضعيفة القيمة المضافة ولا تساهم في رفع معدلات النمو.
اقتصاد سورية خلال الثورة
(هبوط مدوي للمؤشرات ـ ابتكار اقتصاد الكبتاغون)
يمكن القول إن المرحلة الممتدة من 2011 ولغاية 2024، فقدت هوية الاقتصاد السوري، وعندما يتم فقدان الهوية، تصبح الأهداف غير معلومة، وبالتالي التخبط الاقتصادي كان سيد الموقف خلال 14 عامًا.
في عام 2011 ومع اندلاع الثورة السورية، ونتيجة تعكر المزاج السياسي العالمي اتجاه سورية، وكون الاقتصاد هو مرآة للسياسة، فقد انكمش الاقتصاد نتيجة العقوبات العربية والأوروبية والأمريكية بنحو 20 بالمئة، وارتفع معدل التضخم إلى 40 بالمئة وهبط سعر الصرف الرسمي لليرة السورية أمام الدولار 51 بالمئة، أيضا فقد الناتج السوري قرابة 60 بالمئة من قيمته الفعلية في عام 2011 وأصبح الناتج في عام 2016 أقل من 40% من ناتج ما قبل الثورة، وفقد الناتج السوري قرابة 80 بالمئة من قيمته المسجلة بسعر صرف الدولار بين عامي 2011- 2016، حيث أصبح الناتج 11,9 مليار دولار وأقل من 20 بالمئة من مقدار 60,2 مليار دولار المسجل في 2011.
وبلغت خسائر الاقتصاد السوري 103 مليارات دولار حتى يونيو/حزيران 2013، وقدرت خسائر العام 2011 بنحو 12.5 مليار دولار، ثم قرابة الخمسين مليار دولار في العام 2012، وأكثر من 23 مليار دولار في الربع الأول من العام 2013، وأكثر من 17 مليار دولار في الربع الثاني منه، ووصل سعر الصرف الليرة إلى أكثر من 300 ليرة للدولار الواحد، وتراجعت السياحة بأكثر من 95 بالمئة.
ولجأ بشار الأسد إلى حلفائه في دعم الاقتصاد فأبرمت الحكومة السورية اتفاقيات مقايضة سلع بأخرى مع دول كروسيا والصين وفنزويلا، كما اتجه إلى إيران في الحصول على النفط بعد أن خرجت الآبار عن السيطرة.
هذ الوضع الاقتصادي المعقد وكثرة اللاعبين في الداخل والخارج، عمق من الأزمة الاقتصادية السورية، ودفع بمعدلات التضخم إلى مستويات قياسية بلغت أكثر من 260 بالمئة، وانخفضت الليرة السورية لنحو 14.800 ليرة للدولار الواحد، وزاد من معدلات الفقر والبطالة والهجرة، مع تزايد الضغوط الاقتصادية وغياب الخدمات المعيشية الأساسية.
وبعد أن هدأت الجبهات على مختلف النواحي، عام 2018، بدأت الأزمة الاقتصادية في سورية تشتد، فالاقتصاد السوري مغلق داخليًا وخارجيًا، وهنا ظهر ما يسمى اقتصاد الكبتاغون، والذي جعل من سورية دولة منتجة ومصدرة لهذه المادة المخدرة، بهدف الحصول على القطع الأجنبي الذي يستخدم في دفع مستحقات الديون الخارجية المتراكمة للحلفاء الإيرانيين والروس، وأيضا لتغطية المرتبات للميلشيات الداعمة، كما استخدم الأذرع الأمنية في فرض إتاوات على الصناعيين والتجار وكبار رجال الأعمال، كفرع الخطيب، التابع لأسماء الأسد.
إعلان اقتصاد السوق الحر 2024 ـ 2025
(التحديات في الحالة السورية ـ خامل ومزاياه مجمدة)
استمر الاقتصاد السوري في الانحدار بشكل متسارع، حتى نهاية حكم بشار الأسد وعائلته، وهروبه إلى روسيا، وبعد التحرير وتسلم الإدارة الجديدة البلاد بتاريخ 8 كانون الأول 2024، أعلنت تغيير النهج الاقتصادي إلى اقتصاد السوق الحر على لسان وزير الاقتصاد والموارد في حكومة المؤقتة باسل عبد الحنان.
يقوم مفهوم اقتصاد السوق الحر على حرية العرض والطلب في تحديد أسعار السلع والخدمات، ويرتكز على حرية التبادل والملكية الخاصة والمنافسة بين الشركات.
في الحالة السورية، هناك تحديات عديدة تواجه إلباس الاقتصاد السوري ثوب الاقتصاد السوري الحر، فالإنتاج الصناعي والزراعي شبه متوقف، والبنية التحتية مدمرة، مع وجود بطالة مرتفعة، إضافة لتصدّر سوريا قائمة الدول التي يعيش معظم سكانها تحت خط الفقر، وفقًا لتقارير الأمم المتحدة.
أيضا تأثير العقوبات الأمريكية والأوروبية لا تزال تعرقل أي انتعاش للاقتصاد السوري، وتفعيل مزايا اقتصاد السوق الحر، فحاليًا مزاياه مجمدة بانتظار رفع العقوبات حتى يستطيع الاقتصاد إنعاش القطاع الصناعي والبنى التحتية وإعادة الإعمار وجذب الاستثمارات الخارجية وضخ الأموال.
أيضا عقبة ضعف الدخل لدى معظم السوريين، والذي لا يتجاوز 20 دولار شهريًا، مع ارتفاع معدلات الفقر والبطالة، تجعل من هذا النمط الاقتصادي خامل، وغير فاعل.
الاقتصاد السوري وبعد 14 عامًا، أصبح مستهلكًا، وأصبحت إنتاجيته بحدودها الدنيا، وهذا النموذج الاقتصادي القائم على المنافسة، يعد تحد كبير أمام القطاع الصناعي والزراعي في سورية، وخاصة أن يعاني من صعوبة الإنتاج وتكاليفه المرتفعة وضعف الصادرات، والتصريف الداخلي، ما يجعل المنافسة مع البضائع المستوردة، غير عادلة، وتم إطلاق تحذير من تكرار السيناريو الذي حدث خلال إبرام اتفاقية التجارة الحرة مع تركيا عام 2007 والتي دفعت العديد من الصناعات والورش والمهن السورية للإغلاق، كون المنافسة لم تكن عادلة.
النهوض بالاقتصاد السوري، ليس مهمة سهلة أمام الحكومة الحالية أو المزمع تشكيلها، فالليرة السورية خسرت 140 بالمئة من قيمتها خلال 10 سنوات، كما لا يوجد أي احتياطي أجنبي في المصرف المركزي، مع وجود ديون بعشرات المليارات من الدولارات، ومعدلات بطالة تزيد عن 60 بالمئة.
في ظل ذلك، هل تستطيع البضاعة السورية، منافسة المستوردات الأجنبية، بالأسعار والجودة؟ وهل حقًا يحتاج الاقتصاد السوري إلى 55 عامًا للتعافي. وهل سيعود للحياة من تحت الأنقاض؟
على الحكومة الجديدة تهيئة الظروف، لتحقيق التنافسية العادلة وحماية المنتج المحلي، ومنع إغراق الأسواق، والتشدد في مراقبة المواصفات على السلع المستوردة.
نعم انخفضت الأسعار وتحسن سعر صرف الليرة، ولكن المواطن السوري بعد سنوات طويلة من التهجير والبرد والجوع والفقر، يعنيه أن يحصل على مقدرات معيشته بكرامة، ودون عوز، وأصبح من حقه أن يتذوق شيئًا من الرفاهية بعد السنوات السوداء التي مرت عليه، وهذه القضايا، ليست إلا جزءًا من سلة واحدة، تحمل داخلها، شكل الاقتصاد، ورفع العقوبات، وجذب المستثمرين الخارجيين، وإعادة الإعمار.