في تصعيد جديد يضرب عرض الحائط بالتفاهمات التي توصَّل إليها الوسطاء، أصدرت حكومة الاحتلال الإسرائيلي قرارًا بتعطيل الإفراج عن الدفعة الأخيرة من الأسرى الفلسطينيين ضمن المرحلة الأولى من صفقة التبادل، على الرغم من الاتفاق المسبق على دمج آخر دفعتين في جدول زمني واحد.
يأتي هذا القرار ضمن سلسلة من الخروقات المتتالية التي انتهجتها “إسرائيل” منذ بدء اتفاق التهدئة، إذ واصلت المماطلة في تنفيذ بنود الصفقة، وعدم الالتزام بالجداول الزمنية والبروتوكولات الإنسانية التي تم التوافق عليها.
يمثِّل هذا التعطيل ذروة مسار تصعيدي بدأ بتقييد تنفيذ الاتفاق وعرقلة خطواته تدريجيًّا، ليصل الآن إلى مرحلة إعادة تشكيل قواعد الصفقة وفق حسابات الاحتلال ومنظور بنيامين نتنياهو، وعلى الرغم من الجهود الحثيثة التي يبذلها الوسطاء للحفاظ على مسار الاتفاق وضمان استمرار الهدوء في قطاع غزة، فإن قرار الاحتلال يعكس توجهًا نحو فرض شروط تفاوضية جديدة، في خطوة تكتيكية تستهدف تحقيق مكاسب سياسية وأمنية، دون الالتزام بما تم الاتفاق عليه مسبقًا.
قرار سياسي على الرغم من المعارضة الأمنية
جاء قرار تجميد إطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين بعد مشاورات أمنية عقدها نتنياهو، إذ برر مكتبه هذا التأجيل بأنه يهدف إلى “ضمان الإفراج عن المختطفين المتبقين دون مراسم استفزازية”، في إشارة إلى المشاهد التي رافقت عمليات التبادل السابقة، والتي عكست سيطرة المقاومة على مجريات العملية.
ووفقًا لصحيفة “يديعوت أحرونوت” العبرية، شارك في هذه المشاورات كلٌّ من رئيسَي الشاباك والموساد، إضافة إلى رئيس الأركان المنتهية ولايته هيرتسي هاليفي، وخليفته إيال زامير، إلى جانب كلٍّ من نيتسان ألون وجال هيرش. كما حضر الاجتماع عدد من المسؤولين السياسيين البارزين، بينهم وزير الخارجية إسرائيل كاتس، ووزير القضاء جدعون ساعر، ووزير المالية بتسلئيل سموتريتش، إضافة إلى رئيس حزب شاس أرييه درعي.
وأوصى قادة الأجهزة الأمنية خلال الاجتماع بالمضي قدمًا في إطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين، لضمان تنفيذ المرحلة الأخيرة من الصفقة، والتي تتضمن إعادة جثث أربعة قتلى إسرائيليين يوم الخميس.
ومع ذلك، توقفت المناقشات الأمنية عند هذه النقطة، وجرى استكمالها لاحقًا على مستوى سياسي بحت، دون مشاركة ممثِّلي المؤسسة الأمنية. وفي ختام الاجتماع، قرر المستوى السياسي عدم تنفيذ الإفراج عن الأسرى وتأجيله، متذرعًا بما وصفه بـ”انتهاكات حماس”.
بدوره، أكد موقع “أكسيوس” الأميركي، نقلًا عن “مسؤول إسرائيلي كبير”، أن تأجيل الإفراج جاء بعد جلستين أمنيتين عقدهما نتنياهو مساء السبت.
وأضاف المصدر أن قادة الأجهزة الأمنية أوصوا بعدم تعطيل الصفقة، وأن نتنياهو كان في البداية يميل إلى هذا الموقف، لكنه غيَّر رأيه بعد اجتماعه مع الوزراء كاتس وساعر وسموتريتش، الذين مارسوا ضغوطًا سياسية لمنع تنفيذ المرحلة الأخيرة من الصفقة.
الدفعة الأكبر في المرحلة الأولى
وفقًا لمكتب “إعلام الأسرى”، كانت الدفعة السابعة ضمن صفقة التبادل تشمل الإفراج عن 50 أسيرًا محكومًا بالمؤبد، و60 أسيرًا يقضون أحكامًا عالية، و47 من الأسرى المحررين في صفقة “وفاء الأحرار” الذين أعيد اعتقالهم، إلى جانب 445 أسيرًا من قطاع غزة، الذين جرى اعتقالهم بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023.
وعاشت آلاف العائلات الفلسطينية، في الضفة الغربية وقطاع غزة، حالة من الترقب والانتظار مع اقتراب موعد تنفيذ عملية الإفراج. وعلى الرغم من تدنِّي درجات الحرارة والطقس البارد، تجمعت العائلات في الضفة الغربية منذ ساعات المساء الأولى في قاعة قصر رام الله الثقافي، بينما توافد أهالي الأسرى في قطاع غزة إلى المستشفى الأوروبي لمتابعة التطورات، وسط أجواء من القلق والخوف، ترقبًا للحظة اللقاء بأبنائهم.
إلا أن مشاعر الأمل سرعان ما تحولت إلى خيبة، إذ أعلنت كل من هيئة شؤون الأسرى والمحررين ونادي الأسير الفلسطيني أن سلطات الاحتلال قررت تأجيل الإفراج عن الأسرى الفلسطينيين حتى إشعار آخر، في خطوة اعتبرت انتهاكًا للاتفاقات المبرمة ضمن صفقة التبادل.
جاء ذلك بعد أن سلَّمت المقاومة الفلسطينية، صباح السبت، خمسة أسرى إسرائيليين، إضافة إلى الأسير هشام السيد من منطقة النقب، ضمن الدفعة السابعة من عملية التبادل في إطار اتفاق وقف إطلاق النار في غزة.
يُذكر أن المرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى بدأت في 19 يناير/كانون الثاني الماضي، وتتألف من ثلاث مراحل، يمتد كل منها 42 يومًا، مع اشتراط التفاوض على المرحلة التالية قبل استكمال المرحلة الجارية. ومع ذلك، ما تزال “إسرائيل” تماطل في بدء مفاوضات المرحلة الثانية، والتي كان من المفترض أن تنطلق في 3 فبراير/شباط الجاري.
استراتيجية مناورة
يمثِّل هذا القرار جزءًا من استراتيجية أوسع يتبناها رئيس وزراء الاحتلال منذ بداية الحرب، إذ إنه يسعى إلى الحفاظ على زمام المبادرة سياسيًّا وعسكريًا، دون التورط في التزامات قد تهدِّد تماسُك ائتلافه الحاكم أو تحجِّم خياراته المستقبلية. يمكن تحليل هذه الخطوة من عدة زوايا:
-
تعزيز موقعه الداخلي واحتواء التوترات داخل الائتلاف
- يواجِه نتنياهو ضغوطًا متزايدة داخل ائتلافه اليميني المتطرف، خاصة من تيارات الصهيونية الدينية التي ترى أن أي اتفاق ينطوي على تقديم “تنازلات” للمقاومة بمثابة إضعاف للموقف الإسرائيلي. هذا التيار، الذي يمثِّله في هذا الوقت بدرجة رئيسية وزير مالية الاحتلال والوزير في وزارة الحرب بتسلئيل سموتريتش، يعارض المضي قدمًا في أي مسار تفاوضي دون تحقيق أهداف الحرب كاملة، وعلى رأسها “تفكيك حكم حماس” و”القضاء على البنية التحتية العسكرية للمقاومة”.
- يأتي تعطيل الصفقة كرسالة داخلية بأن الحكومة لا تتصرف تحت الضغط، وأن نتنياهو ما يزال يمتلك القرار النهائي، ما يعزِّز موقعه في مواجهة أية محاولات لابتزازه سياسيًّا من داخل معسكره.
-
احتواء تداعيات مَشاهد الإفراج عن الأسرى الفلسطينيين
- شكَّلت مَشاهد تبادل الأسرى، لا سيما لحظات استقبالهم الجماهيري، ضربةً قويةً لسردية الاحتلال الرسمية التي تروِّج “لانتصاراتها” العسكرية في قطاع غزة.
- عزَّزت هذه المَشاهدُ في الداخل الإسرائيلي الشعورَ بأن المقاومة الفلسطينية ما تزال تملك زمام المبادرة، ما أثَّر سلبًا على صورة الجيش والحكومة أمام الرأي العام في دولة الاحتلال.
- تعطيل الصفقة محاولة للحد من هذه التداعيات وإعادة ضبط المشهد، بحيث لا تظهر حكومة الاحتلال في صورة المنفِّذ لاتفاقٍ يمكِّن المقاومة من تحقيق انتصار إعلامي ومعنوي.
-
استراتيجية تمديد المرحلة الأولى وتجنُّب الانتقال إلى المرحلة الثانية
يدرك نتنياهو أن تنفيذ المرحلة الأولى بالكامل سيدفعه إلى الدخول في مفاوضات المرحلة الثانية، والتي تتضمن ملفات معقدة، مثل:
- إنهاء الحرب: وهو استحقاق ما يزال اليمين الصهيوني يرفضه، ويرى أن أي اتفاق يقود إلى وقف دائم لإطلاق النار يعني “فشلًا استراتيجيًّا”.
- الانسحاب من غزة: خاصةً من محور فيلادلفيا، إذ تثير هذه المسألة خلافات داخل الحكومة، فيعدُّها التيار اليميني المتطرف بمثابة “انتصار للمقاومة”.
- ملف الأسرى الفلسطينيين ذوي الأحكام العالية: والذي يشمل شخصيات مثل مروان البرغوثي وأحمد سعدات، الأمر الذي يشكِّل معضلة سياسية كبرى لرئيس وزراء الاحتلال في ظل معارضة اليمين المطلق لمثل هذه الخطوة والتقدير حول حجم الرمزية التي سيضيفها مثل هذا الحدث على الصفقة.
من خلال تعطيل الدفعة الأخيرة من الأسرى، يحاول نتنياهو جرَّ جميع الأطراف، بما في ذلك المقاومة والوسطاء، إلى مفاوضات جديدة حول استكمال المرحلة الأولى، دون أن يضطر إلى الانتقال إلى المرحلة الثانية، ما يمنحه مساحة أكبر للمناورة.
-
استثمار الوقت لاختبار التحولات الإقليمية والدولية
- تعطيل الصفقة يمنح رئيس وزراء الاحتلال وقتًا إضافيًا لاستكشاف موقف الإدارة الأمريكية، خاصةً بعد التصريحات الصاخبة للرئيس الأمريكي دونالد ترامب حول تهجير أهالي قطاع غزة.
- يراهن نتنياهو على إمكانية استغلال تمديد المرحلة الأولى للحصول على مكاسب سياسية من الدول الإقليمية، عبر تحفيز الإدارة الأمريكية لها للعب دور أكبر في صياغة رؤية ما بعد الحرب والقبول التدريجي لخطط التهجير.
- يساعد التأخيرُ حكومة الاحتلال أيضًا في استكمال استراتيجياتها العسكرية في قطاع غزة، سواءٌ عبر تكثيف الاستهدافات الأمنية أو استمرار سيطرتها على المحاور الحيوية.
السيناريوهات المحتملة
-
نجاح الوسطاء في استئناف تنفيذ الاتفاق وفق المسار الأصلي
في هذا السيناريو، سيجري استئناف الإفراج عن الأسرى الفلسطينيين وفق الصيغة المتفق عليها، لكن من المرجح أن يكون ذلك بعد فرض شروط جديدة تحد من رمزية الحدث إعلاميًّا.
هذا السيناريو ممكن إذا مارست الإدارة الأمريكية والوسطاء ضغوطًا كافية على حكومة الاحتلال لمنع انهيار التفاهمات، خاصةً في ظل حرص واشنطن على إبقاء مسار التهدئة مفتوحًا.
-
إعادة التفاوض على المرحلة الأولى وتمديدها بشروط جديدة
قد يدفع نتنياهو الأزمة نحو إعادة التفاوض، بحيث يجري إطلاق سراح المزيد من أسرى الاحتلال لدى المقاومة دون الانتقال إلى المرحلة الثانية، أو وفق آلية جديدة تتيح له تحقيق مكاسب داخلية أكبر.
هذا السيناريو سيمكِّن رئيس وزراء الاحتلال من تأجيل الانتقال إلى المرحلة الثانية، ما يمنحه الوقت لترتيب أوراقه السياسية والعسكرية والحصول على أكبر عدد ممكن من الأسرى.
-
انهيار التفاهمات والعودة إلى التصعيد العسكري
إذا استمر الاحتلال في تعطيل تنفيذ الاتفاق، فقد تلجأ المقاومة إلى خطوات تصعيدية، مثل وقف الإفراج عن المحتجزين لديها أو فرض شروط جديدة.
هذا السيناريو قد يَدفع المنطقة إلى مرحلة جديدة من التوتر، خاصةً إذا انعكس الفشل في تنفيذ الاتفاق على المشهد العسكري في قطاع غزة.
ختامًا..
قرار نتنياهو بتعطيل الإفراج عن الأسرى خطوةٌ محسوبةٌ تهدف إلى تحقيق مكاسب سياسية داخلية، وإعادة ضبط مسار المفاوضات، والاستفادة من الوقت لاستكشاف المتغيرات الدولية. وعلى الرغم من أن الضغوط الأمنية والسياسية قد تدفعه إلى استئناف تنفيذ الاتفاق، فإن الهدف الأساسي من هذه المناورة تأجيلُ الاستحقاقات الكبرى المرتبطة بالمرحلة الثانية من الصفقة، خصوصًا تلك المتعلقة بإنهاء الحرب والانسحاب من محور فيلادلفيا. بناءً على ذلك، من المتوقع أن تستمر الأزمة لفترة محدودة، قبل أن يتم التوصل إلى صيغة تفاوضية جديدة بوساطة دولية، تضمن تنفيذ بقية الصفقة وفق شروط تتيح لنتنياهو الاستمرار في المناورة دون دفع ثمن سياسي باهظ.