أثار رئيس وزراء الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، الجدل مجددًا، بتصريحاته المثيرة التي حذر فيها الإدارة السورية الجديدة من التواجد المسلح في المناطق الجنوبية السورية، مطالبًا بجعل جنوب سوريا “منطقة منزوعة السلاح بالكامل”، مؤكدًا أن تل أبيب لن تسمح لقوات الإدارة الجديدة بالانتشار جنوب العاصمة دمشق.
وفي خطابه الذي ألقاه أمام دفعة جديدة من الضباط في حولون جنوب تل أبيب، الأحد الماضي، مارس نتنياهو أسلوبه الهمجي المتطرف المُعتاد في قلب الحقائق وليها بما يخدم مصالحه الخاصة، حيث شدد على عدم السماح للجيش السوري الجديد بدخول المنطقة جنوب العاصمة، وأضاف “نطالب بالنزع التام للسلاح من جنوب سوريا، في محافظات القنيطرة ودرعا والسويداء”، منوها على أنه “لن نتسامح مع أي تهديد للطائفة الدرزية في جنوب سوريا”.
يأت هذا التصريح الاستفزازي بعد أيام مما ذكرته إذاعة الجيش الإسرائيلي بشأن إقامة منطقة أمنية داخل الأراضي السورية، في هدوء كامل وبدون أي تضخيم إعلامي، وعدم وجود في الوقت الراهن تاريخ نهائي لاستمرار الاحتفاظ بتلك المنطقة، في رسالة تشير إلى احتمالية البقاء إلى أجل غير مسمى داخل الأراضي السورية.
وكانت قوات الاحتلال قد كثفت من عملياتها العسكرية في الداخل السوري بعد سقوط النظام المخلوع في 8 ديسمبر/كانون الأول 2024، وهروب بشار الأسد خارج البلاد وتبخر الجيش السوري، حيث احتلت المنطقة العازلة واستكملت السيطرة على قمة جبل الشيخ، إضافة إلى توسيع نطاق عملياتها العسكرية في القنيطرة وريف دمشق، فيما شنت سلسلة غارات جوية استهدفت مخازن الأسلحة وقواعد التمركز العسكري.
ليست المرة الأولى التي يتجرأ فيها نتنياهو بالتطاول على سوريا ما بعد الأسد، والذي كان يتم التعامل معه في سياق استعراض العضلات واللغة الشعبوية التي يخاطب بها رئيس الحكومة العبرية الإسرائيليين، بحثا عن استعادة بعضَا من شعبيته المتراجعة.
غير أن التصريحات الأخيرة تلك وما تحمله من تحديات وتهديدات واضحة وعلنية، أثارت حفيظة الشارع السوري الذي استشعر معها الخطر الحقيقي، لأول مرة منذ سقوط النظام البائد، الأمر الذي يستوجب تحمل كل طرف لما عليه من مسؤولية لدحض هذا الخطر والتصدي لتلك الهمجية قبل أن تنتقل من مجرد الكلام المرسل إلى الممارسات الميدانية على أرض الواقع.
إثارة الفتنة.. اختبار لوحدة الصف السوري
يجيد نتنياهو العزف على وتر الفتنة والاحتقان الطائفي، واللعب بورقة الأقليات بصورة احترافية، وتوظيف هذا الملف لخدمة أهدافه السياسية، نجح في ذلك في بعض الساحات، منها اللبنانية والفلسطينية، وهاهو اليوم يحاول توظيفها مرة أخرى في الساحة السورية، بعدما حقق من خلالها نجاحات عدة أبان عهد الأسد البائد.
ويتحجج نتنياهو في تحذيره بجعل جنوب سوريا منطقة معزولة السلاح بحماية الدروز من أي تهديدات، وهو المبرر الذي أثار الكثير من السخرية، إذ طالما عانت تلك الطائفة التي تقيم في المنطقة الجبلية عند المثلث الحدودي في الجولان بين لبنان وسوريا والكيان المحتل، من العنصرية الإسرائيلية ومعاملتهم كمواطني درجة ثانية.
ويحاول رئيس الوزراء الإسرائيلي دق إسفين الفتنة وإثارة القلاقل بين تلك الطائفة وبقية المجتمع السوري، آملا في تحقيق أي مكاسب محتملة من خلال سياسة “فرق تسد” التي يؤمن بها، عقيدة وممارسة، وهو ما يضع السوريين جميعا، بكافة الطوائف وألوان الطيف السياسي والعقدي المختلفة، أمام اختبار جديد لوحدة موقفهم وتمترسهم خلف مصلحة بلادهم في مواجهة مثل تلك المخططات والمؤامرات الخارجية.
وفي أول رد فعل مباشر على تلك التصريحات أعلن قائد “تجمّع أحرار جبل العرب” في السويداء الشيخ سليمان عبد الباقي رفضه القاطع لتدخل أي جهة خارجية بالشأن السوري الداخلي.
وقال عبد الباقي في حديث له مع تلفزيون سوريا: “نرفض أي تدخل بالشأن الداخلي للسوريين من قبل جهة خارجية”، وأضاف: “نحن سوريون وهويتنا سورية ونريد بناء الوطن، ومطالبنا مثل مطالب كل السوريين في البناء والعيش بسلام”، موضحا أن “النظام المخلوع وإيران وميليشيا حزب الله، الذين تسببوا بالحروب والفتن والقتل والإرهاب، قد زالوا وحان وقت الإعمار والسلام”.
ودعا نشطاء على منصات التواصل الاجتماعي إلى هبة شعبية لرفض تصريحات نتنياهو، من خلال تنظيم تظاهرات حاشدة، غدًا الثلاثاء، في ساحة 18 آذار بمدينة درعا وساحة الكرامة في السويداء، بالإضافة إلى احتجاجات أخرى في محافظة القنيطرة، يقول فيها السوريون كلمتهم النهائية، ويجددون التأكيد على وحدة الاراضي السورية وإجهاض مخطط الفتنة والتقسيم الطائفي الذي يُحاك ببلادهم.
نتنياهو: لن نتسامح مع أي تهديد للطائفة الدرزية في جنوب سوريا، ونطالب بإخلاء جنوب سوريا بالكامل من القوات العسكرية للنظام الجديد.
نتنياهو لا يهمه الدروز ولا غيرهم، بل يستخدم الأقليات كحجة لتبرير احتلاله للأراضي السورية ومنع تواجد أي قوة عسكرية على الحدود مع فلسطين المحتلة. pic.twitter.com/y4GYdjOUhb
— Tamer | تامر (@tamerqdh) February 23, 2025
نظرية الهروب
قراءة أخرى تفرض نفسها على تلك التصريحات الهوجاء، تشتبك مع نظرية “الهروب للأمام” التي اعتاد نتنياهو على تبنيها منذ توليه السلطة قبل سنوات، فحين يضيق عليه الخناق وتتكالب عليه الضغوط والأزمات، ويصبح قاب قوسين أو أدنى من الاستهداف والهزيمة والفشل، يلجأ إلى إشعال النار في ساحة أخرى، خطوة يحول بها دفة الاهتمام ويغير به بوصلة المسار بما يخفف بها الضغط عليه ويمنحه متنفسًا جديدًا لالتقاط الأنفاس والهروب من المأزق الذي يواجهه.
مراقبون يرون تطابقًا كبيرًا بين تلك النظرية والتصعيد الكلامي بشأن الجنوب السوري، ففي ظل الأزمات التي يواجهها رئيس الحكومة في الداخل الإسرائيلي بعد الفشل في تحقيق أهداف حرب غزة التي استمرت لأكثر من 470 يومًا، وتصاعد حدة الانتقادات بسبب إدارته الفاشلة لتلك المعركة، واضطراره لإبرام اتفاق تهدئة مع المقاومة لإطلاق سراح الأسرى والرهائن الإسرائيليين بحوزتها، بعد فشله في تحريرهم بالقوة كما كان يدعي بداية الحرب، لم يكن أمامه سوى قلب الطاولة بإلقاء كرة اللهيب في ساحة أخرى.
صدقوني محاولة هروب للامام .. اتفاق غزة سيخلق هدوء في المنطقة هو لا يريده .. بقاء حماس وعدم تخقيق اهداف الحرب كفيل باسقاطه في اسرائيل .. هو ايضاً متورط بقضايا فساد .. لا تعطوه طوق النجاة. سيفعل كل ما يستطيع ليبدء حرب جديدة ليطول بقاءه في السلطة. فوتوا عليه الفرصة وسيسقط قريبا
— خالد (@Az58043909) February 23, 2025
ونظرًا للحالة الرخوة التي عليها المشهد السوري حاليًا بعد حالة الارتباك والفوضى التي خلفها سقوط النظام البائد واتباع سياسة الأرض المحروقة أمام الإدارة الجديدة، وجد نتنياهو في تلك الساحة الفرصة السانحة لفتح جبهة تصعيد جديدة، يستحوذ من خلالها على دعم الداخل الإسرائيلي ويرمم بها الشروخات التي أصابت جبهته الداخلية ويخفف نسبيًا من التركيز على قطاع غزة بعدما فشل في حسم معركته عسكريًا، ومن ثم يطيل أمد حكومته ويؤجل حسم مستقبله السياسي الذي بات على المحك.
نشطاء يرون أن الاتفاق الذي أبرم في غزة سيخلق حالة من الهدوء في المنطقة، ويعرض نتنياهو للملاحقة القضائية خاصة وأنه متورط في قضايا فساد عدة، وعليه يحاول قلب الطاولة واختلاق أزمة جديدة لإبقاء الساحة مشتعلة، لافتين أنه سيبذل كل ما لديه من أجل إفشال جهود التهدئة والبدء في حرب جديدة لتطول مدة بقاءه في السلطة، وهو ما يضع الجميع أمام مسؤولياته لتفويت تلك الفرصة والتحرك بأقصى سرعة لإفشال مخطط فتح جبهة حرب جديدة.
الضغط على الإدارة الجديدة
منذ اليوم الأول لتولي الإدارة الجديدة في سوريا مسؤوليتها ويمارس الكيان المحتل ضغوطا قاسية عليها، أقرب للابتزاز، حيث استغلال الوضع المرتبك داخليًا، لدفع السلطة الجديدة، التي لم تثبت أقدامها بعد، نحو إبداء المزيد من المرونة، وتقديم التنازلات، لضبط المشهد على ذات البوصلة التي كان عليها في العهد البائد، حيث الاطمئنان بألا تشكل المنطقة الجنوبية ساحة تهديد للداخل الإسرائيلي.
ونتاجًا لذلك تغول جيش الاحتلال داخل الأراضي السورية واحتل المنطقة العازلة وسيطر على قمة جبل الشيخ، إضافة إلى توسيع نطاق عملياته العسكرية في القنيطرة وريف دمشق، في انتهاك صارخ لاتفاقية فض الاشتباك الموقعة في جينيف علم 1974، وسط صمت دولي ساعد إسرائيل في تحقيق أهدافه هناك.
وأمام تلك العربدة التي لم تتوقف منذ الثامن من ديسمبر/كانون الأول 2024 فيما وقف المجتمعين، الإقليمي والدولي، في مقاعد المتفرجين لا يحركون ثابتًا، بات واضحا أن لغة الصمت التي تلتزم بها الإدارة السورية الجديدة لم تعد صالحة للاستخدام، مهما كانت المبررات والمقاربات، خاصة بعد تزايد الاحتقان الشعبي إزاء هذا الصمت في مواجهة الانتهاكات الإسرائيلية المستمرة.
ما أجمل الجنوب السوري! القنيطرة، درعا، والسويداء… جميعهم اليوم في الساحات رغم الأجواء الباردة التي تصل إلى ما دون الصفر. بصوت واحد يهتفون: الشعب السوري واحد، لا للتقسيم، وتنديدًا بتصريحات نتنياهو. pic.twitter.com/MX6oolhMTz
— Nour Golan (@Nuorgolan) February 24, 2025
وعليه خرج الرئيس السوري أحمد الشرع عن صمته، وإن كان بطريقة دبلوماسية غير صدامية، منددًا بالتوغل الإسرائيلي داخل الأراضي السورية، مع تأكيده أن الوضع الراهن في البلاد “لا يسمح بالدخول في أي صراعات جديدة”، مضيفًا في تصريحات له أن “الإسرائيليين تجاوزوا خطوط الاشتباك في سوريا بشكل واضح مما يهدد بتصعيد غير مبرر في المنطقة”، مطالبًا القوات الإسرائيلية بالانسحاب من البلاد.
يسعى الكيان المحتل لممارسة أقصى ضغط ممكن على دمشق لغلق الطريق بشكل كامل أمام تسليح حزب الله الذي يعتمد في المقام الأول على الحدود السورية في تعزيز ترسانته التسليحية.
ومع المشاهد التي تناقلتها مراسم تشييع جنازة زعيم الحزب، حسن نصر الله ونائبه هاشم صفي الدين في العاصمة اللبنانية بيروت، بعد ظهر أمس الأحد، وما حملته من رسائل مباشرة وواضحة تنسف ما ادعاه المحتل سابقا بشأن القطيعة بين الحزب وحاضنته الشعبية، من المتوقع أن تكثف تل أبيب من ضغوطها لتجفيف منابع تسليح الحزب عبر الأراضي السورية بأي صورة كانت، حتى لو كان عبر التلويح بالسيطرة على الجنوب السوري بشكل كامل ومنع أي تواجد لجيش الدولة.
الكرة في ملعب السوريين
يعلم الجميع داخل سوريا وخارجها أن حديث نتنياهو عن حماية الدروز ليس إلا ذريعة مكشوفة لمحاولة فرض الكيان المحتل أجندة استعمارية جديدة في الجنوب السوري، وهي الأجندة التي تتسق مع الرؤية الخاصة بالشرق الأوسط الجديد الذي يخطط الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لتدشينه على المقاس الصهيوني بما يمنح إسرائيل التفوق الكاسح على بقية دول المنطقة.
رئيس الوزراء الإسرائيلي بتلك القنبلة يُلقي الكرة في ملعب السوريين، بمختلف انتماءاتهم وطوائفهم السياسية والدينية، وفي المقدمة منهم الطائفة الدرزية التي يجب أن تقود حملة التصدي لتلك التصريحات العنصرية التي تغذي الفتنة داخل المجتمع السوري، وذلك من خلال بعض التحركات على أرض الواقع، من بينها إصدار بيان أولي مشترك وموقع عليه من شيوخ الطائفة ونخبتها السياسية والثقافية والإعلامية يؤكدون من خلاله رفض أي محاولة لإحداث الوقيعة بين أبناء الدولة السورية والتأكيد على وحدة التراب ودحض أي مخطط للتقسيم.
رسالة من اهل درعا: جنوب سوريا ليس كجنوب لبنان pic.twitter.com/PQvQgwCBva
— عمر مدنيه (@Omar_Madaniah) February 24, 2025
المسؤولية ذاتها تقع على الشارع السوري في مختلف المدن، حيث التوحد تحت شعار واحد ” لا لتصريحات نتنياهو” مع التشديد على تماسك الجبهة الداخلية السورية والتصدي لأي محاولة من شأنها زعزعة الاستقرار وتفتيت اللحمة الوطنية، وتبني خطاب سياسي جماهيري موحد، يستهدف الداخل والخارج، للتأكيد على عدم تمرير مثل تلك المخططات والرد عليها بأي طريقة كانت.
وقبل هذا وذاك فقد وضع نتنياهو بتلك التصريحات الإدارة السورية الجديدة أمام مسؤولياتها السياسية، حتى وإن كانت غير مهيأة بعد لخوض مثل تلك المعارك في هذا الوقت المبكر، إذ باتت مطالبة بشكل واضح ومباشر، وأكثر من أي وقت مضى، بالرد على هذا الاستفزاز والتصدي لأي عربدة إسرائيلية محتملة، وذلك من خلال تكثيف جهودها الدبلوماسية مع الجيران والحلفاء والمجتمع الدولي من جانب، ووحدة الكلمة والتوجه والحراك على المستوى الداخلي من جانب أخر، المهم أن تكون هناك رسالة قاسية للمحتل بأن مثل تلك التصريحات، حتى وإن كانت من باب الضغط والابتزاز، لن تمر مرور الكرام.