ترجمة وتحرير: نون بوست
وجد آلاف المهاجرين أنفسهم عالقين في بيهاتش غربيّ البوسنة، بينما كانوا يشقون طريقهم نحو أوروبا الغربية. وبالنسبة لهذه البلدة الصغيرة، يمثل ذلك عبئا ثقيلا، خاصة وأن الدولة لا تقدم أية مساعدة. وفي هذا الصدد، قالت شرطية ترتدي نظارات سوداء، بينما كانت تهم بغلق الباب الخلفي لسيارة الشرطة، قرب تجمع لعشرات اللاجئين الباكستانيين إن ” لأمر بات يشبه جمع كلاب الشوارع، ولكن لست واثقة من أنه لا يزال مسليا”.
كان أحد هؤلاء المهاجرين يرتدي بنطلونا بألوان عسكرية، وهو في منتصف العشرينات ويتميز ببنية جسدية قوية، واسمه ياسين. وفي الواقع، جاء هذا الشاب في الواقع للتسوق في بيهاتش، وأخذ استراحة في متنزه المدينة، إلا أنه تم ترحيله إلى فوتشياك، وهو مخيم يبعد نحو 10 كيلومترات عن بيهاتش. وفي هذا السياق، قال العمدة سوهريت فضليتش، إن قرار نقل كل المهاجرين الذين ليس لديهم سكن من هذه البلدة الهادئة على ضفاف نهر أونا، جاء بعد اندلاع العديد من المواجهات العنيفة بين المهاجرين، كما تعرض رجال الشرطة لاعتداءات.
مستودع في مكب النفايات
خلال الخريف الماضي، حدثت احتجاجات معزولة من السكان، حيث اشتكوا من تكدس الأوساخ والقمامة، وعبروا عن خوفهم من وجود مجرمين بين صفوف اللاجئين. ومنذ أن تحولت طريق البلقان من صربيا إلى البوسنة والهرسك في ربيع 2018، أصبحت بيهاتش نقطة عبور رئيسية في هذا المسار، على الرغم من أن عدد سكان هذه البلدة الواقعة في شماليّ غربيّ البلاد لا يتجاوز 35 ألف ساكن.
يمر الطريق نحو فوتشياك عبر تلة وبعض القرى الصغيرة والغابات، نحو حقل في سفح جبال بيسيفيتسا، قرب الحدود الكرواتية. وهناك، تجد لافتات تحذير من الألغام التي تعود إلى فترة الحرب البوسنية بين 1992 و1995
في الأثناء، عبر حوالي 30 ألف مهاجر البوسنة، أغلبهم يتكدسون الآن في أقليم أونا سانا، الذي تسكنه أغلبية من المسلمين، والذي تعد بيهاتش المدينة الرئيسية فيه. وفي الوقت الراهن، يوجد ستة آلاف مهاجر هناك، ولكن مراكز الاستقبال في بيهاتش والبلدات المحيطة بها لا تستوعب سوى نصفهم.
يمر الطريق نحو فوتشياك عبر تلة وبعض القرى الصغيرة والغابات، نحو حقل في سفح جبال بيسيفيتسا، قرب الحدود الكرواتية. وهناك، تجد لافتات تحذير من الألغام التي تعود إلى فترة الحرب البوسنية بين 1992 و1995، والتي ذهب ضحيتها 100 ألف قتيل إلى جانب تهجير مليوني شخص. وإلى حدود وقت قريب، كان هناك مكب نفايات في هذا المكان. في المقابل، مُلئ في شهر حزيران/ يونيو بالرمال والحصى، حتى يصبح ملائما لنصب الخيام البيضاء التابعة للهلال الأحمر التركي. واليوم، هناك بين 400 و800 رجل يعيشون هنا، أغلبهم من باكستان وأفغانستان وسوريا وشمال أفريقيا.
تصل سيارة الشرطة إلى منتصف هذا المخيم، ويخرج منها الرجال، ثم تنطلق عائدة إلى بيهاتش، وستعود مجددا خلال بضع ساعات، لإحضار مجموعة أخرى من المهاجرين. وفي هذا الصدد، قال ياسين الذي يبدو منزعجا ومرهقا للغاية: “إنهم يقومون برمينا في مكب النفايات تماما مثل أكياس القمامة”.
في الحقيقة، بقي ياسين عالقا في البوسنة منذ أكثر من سنة، حيث كان قبل ذلك في صربيا التي لم يعد من الممكن المرور منها بسبب كثرة الأسلاك الشائكة التي تسد الطريق نحو المجر. لذلك، عاد ياسين، الذي يقول إنه اضطر لمغادرة بلده في خريف 2017 بسبب الهجمات التي حركة طالبان، عبر بلغراد إلى ساراييفو، ومن هناك إلى شماليّ غربيّ بيهاتش مشيا على الأقدام.
المؤقت المؤبد
عندما وصلنا، كان ياسين موجودا في فوتشياك، حيث نقلته الشرطة إلى هناك في ثلاث مناسبات، وكان في كل مرة يعود إلى بيهاتش. ومن جهته، يعتبر ياسين أنه حتى الكلاب لا تقبل بالعيش في هذا المكان، حيث أن عدد من يعيشون في كل خيمة يصل إلى عشرة، وهم ينامون على ورق الكرتون، ويتلحفون بطانيات رقيقة، فيما تتكدس الأوساخ في الخارج.
يشار إلى أن استحالة إدارة الأوضاع في البوسنة لها علاقة باتفاقية دايتون للسلام في سنة 1995
وسط هذا المخيم، هناك باكستاني يبيع الكوكا كولا، وآخر يبيع الشاي والخبز. وهنالك الآن أربعة خزانات للماء، ومكانين للاستحمام، وحاويات للمراحيض، ومولد كهربائي لشحن الهواتف. وعلى الرغم من ذلك، تبقى الأوضاع مزرية، وهو ما يقر به السيد فضليتش، عمدة بيهاتش، الذي أفاد أن “فوتشياك ليست حلا دائما، ونحن لسنا راضين عن ظروف المخيم”. وتجدر الإشارة إلى أن ياسين ليس مقتنعا بهذا الكلام، فهو يعلم بشأن المخيمات الأخرى، مثل مخيم فيليكا كلادوزا، وهي ثاني أكبر مدينة في إقليم أونا سانا، الذي لا يبعد سوى بضعة كيلومترات عن الحدود الكرواتية.
الحياة اليومية في ظل الظروف المزرية: المهاجرون يلعبون الكرة الطائرة في مخيم فوتشاك.
ما بين 400 و800 لاجئ يعيشون في مخيم فوتشياك المؤقت عند الحدود الكرواتية البوسنية، ولا أحد هنا يحظى بالخصوصية في ظل وجود 10 رجال في كل خيمة.
في هذا السياق، صرّح ياسين قائلا إن “الحكومة قدمت لنا وعودا كثيرة ولكنها لم تنجز منها شيئا، والسكان فقط هم من قدموا لنا سد المساعدة. وعندما حل الشتاء خلال العام السابق، تنامت الضغوط على السلطات المحلية من أجل إغلاق مخيم فيليكا كلادوسا”. وكنتيجة لذلك، استخدمت المنظمة الدولية للهجرة تمويلات الاتحاد الأوروبي من أجل إنشاء مركزين للاستقبال يستوعبان ثلاثة آلاف لاجئ، وهما بوريتشي وبيرا الواقعين في تخوم مدينة بيهاتش.
على الرغم من ذلك، تؤكد أميرة حاجي محمدفيتش، منسقة المنظمة الدولية للهجرة، وجود صعوبات كبيرة، حيث أوردت قائلة: “نحن دائما متأخرون، ولا أحد يشعر بالمسؤولية في البوسنة، والأوضاع تتجاوز قدراتنا، وأغلب المسؤولين الحكوميين عاجزون”. وفي الواقع، لم يتغير هذا الأمر كثيرا في الوقت الراهن، إذ يعاني مركزا الاستقبال الجديدين من الاكتظاظ، في حين أصبحت الأوضاع في فوتشياك أكثر سوءا ولا أحد يهتم.
طريق البلقان الجنوبية
يشار إلى أن استحالة إدارة الأوضاع في البوسنة لها علاقة باتفاقية دايتون للسلام في سنة 1995. فقد خلقت هذه الاتفاقية دولة فيدرالية يتم فيها التهرب من المسؤوليات وتقاذفها بين مختلف السلطات. وغالبا ما يكون هناك نقص في التنسيق، ويتم تأجيل المشكلات الحارقة، ومن بينها أزمة اللاجئين، في ظل غياب أية استراتيجية موحدة في هذه الدولة.
علاوة على ذلك، عبّر سلام ميتزيتش، مدير مركز الهلال الأحمر التركي في بيهاتش، الذي يتكفّل بتوزيع الغذاء على 600 شخص يوميا، عن هذا الانطباع حيث قال: “لم نكن لنتمكن من توفير الغذاء دون مساعدة السكان المحليين، كما أن الإسعافات والمساعدة الطبية تُقدّمها مجموعة من المتطوعين الذين يستطيعون علاج بعض الحالات مثل الأمراض الجلدية والالتهابات والجروح”.
فضلا عن ذلك، ينتقد ميتزيتش المنظمات الدولية مثل منظمة الهجرة ووكالة اللاجئين في الأمم المتحدة، التي تلقت 24 مليون يورو من الاتحاد الأوروبي منذ سنة 2018، إلا أنها ترفض تقديم العون في فوتشياك. وبالنسبة لهذه المنظمات، تعد هذه المخيمات غير قانونية، وظروف الإقامة فيها غير مقبولة. كما يدرك ميتزيتش الانتقادات الموجهة لمنظمته، بما أن الجهود التي يقوم بها في فوتشياك تبقي الحال على ما هو عليه عوضا عن تسريع إخلاء المخيم وإيجاد حل بديل. في المقابل، يتساءل ميتزيتش بدوره قائلا: “ما الذي بوسعنا أن نفعله؟ إن هؤلاء الناس مضطرون لمغادرة أوطانهم، في حين وقعت مشكلة الهجرة نحو أوروبا على عاتقنا”.
لعبة خطرة
من الخطأ الاعتقاد بأن ظروف بعض المخيمات مثل فوتشياك قد تثني المهاجرين عن عبور طريق البوسنة والهرسك، إذ أن أعدادا كبيرة لا تزال تتوافد على المكان، في ظل رغبة الجميع المغادرة بأسرع وقت، باعتبار أن هذا البلد فقير ومعدلات البطالة فيه تتجاوز 20 في المائة. لكن بات العبور مسألة أكثر تعقيدا. وبالنسبة للكثيرين، أصبحت البوسنة أو صربيا نقطة النهاية والطريق المسدود، في حين يمكن لأولئك الذين يستطيعون توفير المال اللازم، دفع ثلاثة آلاف يورو للمهربين، الذين يساعدونهم على عبور الحدود.
تمر هذه الطريق عبر مزارع الذرة نحو نهر يمثل الحدود مع كرواتيا. ومرة تلو الأخرى، يحمل ميلاد الأطفال على كتفيه لصعود المرتفعات، فيما تساعد زوجته والدته المسنة، ويتكفل شقيقه بحمل عدد كبير من الأكياس
في شأن ذي صلة، ينطبق الأمر نفسه على عائلة إيرانية التقيناها في الحافلة في الطريق نحو ستورليتش، وهي بلدة تبعد 40 كيلومترا شمالي بيهاتش. وعموما، تحمل هذه العائلة المكونة من زوجين وثلاثة أطفال يتراوح أعمارهم بين 5 و11 سنة، إلى جانب أم الزوج وشقيقه، معها عددا كبيرا من حقائب الظهر والأكياس خاصة وأن الغذاء الذي يحملونه يجب أن يكفيهم لعشرة أيام، وهي المدة التي من المنتظر أن يستغرقوها للعبور نحو سلوفينيا مشيا على الأقدام عبر كرواتيا.
والجدير بالذكر أن المهاجرين حاولوا ممارسة هذه اللعبة خلال عدة مرات، في محاولة منهم لعبور الحدود، حتى أن هذه العائلة ظلت عالقة في البوسنة لمدة تسعة أشهر، بعد أن غادرت وطنها قبل سنتين. وفي هذا الصدد، أفاد الزوج ميلاد قائلا: “في وطننا كنا نعاني من الاضطهاد والمضايقات بسبب آرائنا السياسية، وأريد أن يكبر أطفالي في بيئة آمنة”.
اللاجئون ينتظرون الغذاء والملابس في مخيم فوتشياك.
بعض من العنف
تمر هذه الطريق عبر مزارع الذرة نحو نهر يمثل الحدود مع كرواتيا. ومرة تلو الأخرى، يحمل ميلاد الأطفال على كتفيه لصعود المرتفعات، فيما تساعد زوجته والدته المسنة، ويتكفل شقيقه بحمل عدد كبير من الأكياس. وفي هذه المنطقة، تختبئ العائلة بين الأشجار، بينما يتفقد ميلاد على الخريطة المسار الذي سجّله على هاتفه، ثم يسلكون الطريق نحو الغابة، ويمشون لساعات بين الأشجار المتشابكة.
فجأة، ظهر أمامهم أربعة رجال، يرتدون زيا رسميا ويحملون أسلحة. وصاح أحدهم: “لا يمكنكم المرور من هنا، عودوا إلى البوسنة، أنتم غير مرحب بكم”. وعموما، يرفض هؤلاء أي حوار، فضلا عن الاستماع لطلب ميلاد بشأن اللجوء. وعلى رغم من محاولاته للتحدث مع شرطة الحدود، إلا أنهم يتجاهلون كلامه ووجود الصحفي.
عوضا عن ذلك، تحملنا شرطة الحدود الكرواتية عبر طريق غير معبدة وتتركنا في مكان بعيد، حيث يقول ميلاد بكل مرارة: “إنهم دائما ما يفعلون ذلك. وفي أغلب الأحيان، ينهالون علينا بالضرب ويُتلفون هواتفنا، لكننا كنا اليوم محظوظين”. ومن جهتها، برّرت الرئيسة الكرواتية، كوليندا غرابار كيتانوفيتش، أعمال شرطة الحدود، خلال لقاء أجرته مع التلفزيون السويسري، مدعية أن هؤلاء مهاجرون غير شرعيون، يريدون الدخول إلى كرواتيا بشكل غير قانوني. كما أقرت كيتانوفيتش بممارسات الشرطة قائلة: “بالطبع عندما يتم صد المهاجرين، يحدث بعض من العنف”.
صمت الاتحاد الأوروبي
يُدرك ميلاد هذه الأمور، فقد عبر الحدود مؤخرا مع مجموعة من الباكستانيين في بيهاتش. وعلى الرغم من أنه لم يكن يرغب سوى في استكشاف المكان، إلا أنه أمرهم كُشف مباشرة وتعرضوا للضرب على الوجه وللركل ولليّ الذراع، إلى جانب السخرية منهم وتوجيه الإهانات لهم.
على الرغم من أن هذا البلد عضو في الاتحاد الأوروبي، إلا أنه لا يقع ضمن فضاء شنغن للتجوال الحر
في الواقع، تتنامى الشكاوى بشأن التجاوزات والعنف الحاصل عند الحدود الصربية والمجرية، على يد رجال الشرطة. ومن جانبها، تُسجّل إحدى المنظمات غير الحكومية المحلية، التي تعمل على تكوين قاعدة بيانات ومراقبة أعمال العنف في الحدود هذه الشكاوى بالإضافة إلى نشرها. وترى منظمة العفو الدولية أن الاتحاد الأوروبي متورط في انتهاكات حقوق الإنسان، باعتبار أنه يدافع عن تطوير وكالة حماية الحدود الأوروبية فرونتكس، دون أن يراقب عملها.
من المؤكد أن الاتحاد الأوروبي فضل الصمت حول ما يحدث في كرواتيا، فعلى الرغم من أن هذا البلد عضو في الاتحاد، إلا أنه لا يقع ضمن فضاء شنغن للتجوال الحر. وعموما، يبذل هذا البلد جهدا كبيرا لإظهار قدرته على السيطرة على حدوده. لكن لا يزال من غير المؤكد أن ذلك سيثني اللاجئين عن تكرار المحاولات، وخوض اللعبة الخطرة من أجل العبور.
في أيلول/سبتمبر، عندما تصبح الليالي أكثر برودة، يرتفع عدد اللاجئين في المخيم في بيهاتش.
المصدر: تسوريشر تسايتونغ