يجمع المؤرخون المختصون في تاريخ الأتراك على أن انتصار السلاجقة على الجيش البيزنطي في معركة ملاذكرد عام 1071، هو الذي مهّد لفتوحات الأناضول وتأسيس الوجود التركي هناك، حيث بدأ “التتريك” التدريجي للأناضول، وقيام دولة السلاجقة ومن بعدها الدولة العثمانية.
في بحث له بعنوان “السلاجقة في القرن الثالث عشر” يذكر الباحث ياسا أكتاش أن الأتراك عندما استقروا في الأناضول بدأوا في إجراء العديد من الإصلاحات في مجالات عدة، من بينها التعليم، حيث أسسوا العديد من الأوقاف والمكاتب التي تشبه المدارس اليوم، من أجل نشر تعاليم الإسلام ومبادئ الأخلاق. ويفرق الباحث بين ثلاثة أنواع لأنماط التعليم في الأناضول آنذاك: التكيّة والجامع والمكاتب أو المدارس، وغالبًا كانوا يشتركون جميعًا في تقديم التعليم الديني.
أبرز المدارس الإسلامية في عهد السلاجقة
يرى الباحث عبد الله كوران في بحث له بعنوان “مدارس الأناضول” أن المدارس الأولى في الأناضول تأسست في عهد إمارات الأناضول التي كان يديرها البكاوات، لكنها اتخذت شكل المدارس المتعارف عليها في عهد الدولة السلجوقية، ويرجع أول ظهور للمدارس الإسلامية في الأناضول، بالشكل المتعارف عليه، إلى عهد السلطان عز الدين قلج أرسلان الثاني في أواخر القرن الـ12.
يرى الباحث فخري أونان في بحثه المعنون بـ”سلاجقة الأناضول” أن للمدارس التي تأسست في عهد الدولة السلجوقية دور مهم في خدمة الإسلام
يذكر المؤرخ محمد شريف تشاتاك أوغلو أن الدولة السلجوقية اعتنت كثيرًا بالتعليم وشيدت العديد من المدارس، وخصوصًا في قونية وأرضروم وسيفاس، وأبرز هذه المدارس: دار الحديث ودار الحُفّاظ ودار القُرّاء، ويضيف تشاتاك أوغلو أن الدولة السلجوقية أضافت إلى جانب التعليم الديني، علومًا مثل الفلسفة والمنطق والرياضيات والكيمياء، والطب في بعض المدارس.
ووفقًا للمؤرخ إسماعيل حقي تشارشلي في كتابه “التشكيلات العلمية” فإن السلاجقة استعانوا بالمعلمين الذين جاءوا بهم من مصر والعراق وغيرها من البلاد، وقد بلغ اهتمام السلاجقة بالتعليم إلى الحد الذي جعلهم ينفقون على الطلبة غير القادرين لينالوا حقهم في التعليم، وقد شهد منتصف القرن الـ13 إقبالًا كبيرًا على بناء المدارس، حيث شُيّدت في عهد السلطان علاء الدين كيكوبات مدرسة كبيرة باسم صيرجالي عام 1242، وكانت تتبع المذهب الحنفي وتعد من علامات العمارة في ذلك العصر.
ويرى الباحث فخري أونان في بحثه المعنون بـ”سلاجقة الأناضول” أن للمدارس التي تأسست في عهد الدولة السلجوقية دور مهم في خدمة الإسلام، حيث تخرج منها عدد كبير من علماء الدين البارزين، من بينهم عالم الحديث، الحافظ الكبير عبد العظيم المنذري، صاحب “الترغيب والترهيب”، والفقيه صفي الدين الهندي الأرموي. ومن أبرز الكتب التي دُرّست في هذه المدارس “مصابيح السنة” لابن الفراء البغوي، و”المغني في أصول الفقه” لجلال الدين الخبازي، و”تجريد الاعتقاد” لنصر الدين الطوسي، وألفية ابن مالك الشهيرة.
وكانت المدرسة تتكون من مسجد وغرف صيفية وشتوية للطلاب وغرفة للمعلمين وساحة كبيرة، وكان لكل مدرسة ملحق إضافي يسمى “دار الضيافة” ينزل فيه الطلبة القادمون من خارج الأناضول، وقد تكفلت الأوقاف بجميع ما يلزمهم من الإقامة والإعانة. وتشكل الأوقاف الخيرية الأهلية المصدر الرئيس للنفقة على التعليم في مدارس الأناضول في عهد السلاجقة.
في بحثه المذكور سلفًا، يذكر الباحث محمد شريف تشاتاك أوغلو أن من أبرز المدارس السلجوقية أيضًا، مدرسة ذات المنارتين، شيدتها ابنة السلطان علاء الدين كيكوبات الأول
ويضيف أونان أن بعض هذه المدارس بقيت حتى يومنا هذا منذ عهد الدولة السلجوقية، مثل مدرسة قونية قاراطاي التي بناها السلطان عز الدين كيكاوس الثاني عام 1251، وكانت من أبرز مدارس العالم الإسلامي آنذاك، يجتمع فيها كبار أئمة الإسلام القادمين من بلدان عدة، واستمرت هذه المدرسة طوال فترة حكم العثمانيين، وقد تحولت إلى متحف بعد ذلك منذ عام 1954 في عهد عدنان مندريس.
ومن المدارس المهمة في زمن الدولة السلجوقية أيضًا، وبقيت حتى اليوم، مدرسة ذو المئذنة الرقيقة، بناها الوزير صاحب أتا فخر الدين عام 1265، وكانت مدرسة مختصة في علوم الحديث، وإلى جانب أهمية هذه المدرسة في العالم الإسلامي آنذاك، فهي تحفة معمارية سلجوقية أيضًا، وتحولت إلى متحف الآثار الحجرية والخشبية اليوم.
وفي بحثه المذكور سلفًا، يذكر الباحث محمد شريف تشاتاك أوغلو أن من أبرز المدارس السلجوقية أيضًا، مدرسة ذات المنارتين، شيدتها ابنة السلطان علاء الدين كيكوبات الأول، واسمها هداونت هاتون عام 1253 في أرضروم، وهي أكبر مدرسة سلجوقية من ناحية الحجم والمعمار، واستمرت مكانة هذه المدرسة في العهد العثماني أيضًا، حيث حولها السلطان مراد الرابع للتعليم العسكري، واعتبارًا من عام 1942 تحولت إلى متحف حتى اليوم.
أهم المدارس التي شيدها العثمانيون
اهتم العثمانيون أيضًا بالتعليم وبناء المدارس، وبحسب المؤرخ أكمل الدين إحسان أوغلو في كتابه “تاريخ المدرسة العثمانية”، فإن أول مدرسة شيدها العثمانيون هي مدرسة إزنيك عام 1331 في عهد الغازي أورهان، وكان من أبرز معلمي هذه المدرسة الأديب والمتصوف المعروف داود قيصري الذي تلقى تعليمه في مصر لبضع سنين، وبعد أن صارت بورصة عاصمة للعثمانيين افتتح الغازي أورهان مدرسة كبيرة هناك باسمه، ويضيف إحسان أوغلو أنه خلال الفترة التي كانت فيها بورصة عاصمة للدولة العثمانية، شيد العثمانيون فيها 21 مدرسة.
بحسب أكمل الدين إحسان أوغلو في كتابه المشار إليه سابقًا، فإن العثمانيين منذ عام 1326 حتى عام 1451 شيدوا 84 مدرسة، 53 منهم في الأناضول و29 في البلقان و2 في القدس
وبعد نقل العاصمة إلى أدرنة، اهتم العثمانيون بالتعليم أيضًا، فعلى الرغم من أن أدرنة كانت مسرحًا لصراعات الأمراء على العرش، كما ورد في أغلب المصادر التاريخية، وهو ما يعرف في التاريخ العثماني بعهد “الفترة” الذي شهد خلافات كبيرة بين أبناء السلطان بيازيد الأول، فإن العثمانيين بنوا هناك 11 مدرسة، أبرزها مدرسة دار الحديث التي بُنيت في عهد السلطان مراد الثاني، واستمرت أكبر مدرسة عثمانية لعقود.
وبحسب أكمل الدين إحسان أوغلو في كتابه المشار إليه سابقًا، فإن العثمانيين منذ عام 1326 حتى عام 1451 شيدوا 84 مدرسة، 53 منهم في الأناضول و29 في البلقان و2 في القدس. ويذكر حقي تشارشلي في كتابه المذكور سلفًا، أنه منذ تولي السلطان الفاتح فإن التعليم تطور بشكل ملحوظ وفقًا لمعايير ذاك العصر، حيث بنى الفاتح مدرسة كبيرة تشبه جامعات اليوم، وهي مدرسة “الصحون الثمانية”، وكان يتم جلب المعلمين إليها من بلاد مختلفة من العالم الإسلامي.
وفي عهد السلطان القانوني استمر بناء المدارس الكبرى أيضًا، ففي عام 1550 شيد القانوني مدرسة على طراز مدرسة الصحون الثمانية التي بناها السلطان الفاتح، وتتميز عن المدرسة التي أنشأها الفاتح بأن بها مدرسة للطب، تعرف باسم “دار الشفاء”، كما تتميز أيضًا بأنها لم تقتصر على التعليم الديني فقط، لكنها تتضمن أربع مدارس صغيرة لتعليم بعض العلوم الطبيعية.
ووفقًا للباحث فخري أونان في بحثه المذكور سلفًا، فإن العثمانيين كانوا عندما يضمون مدينة جديدة إلى الأراضي العثمانية، يهتمون ببناء المدرسة إلى جوار الجامع، واستمر ذلك طوال العهد العثماني، حيث شيد العثمانيون في بلغاريا 142 مدرسة و182 في اليونان و223 في يوغوسلافيا و28 في ألبانيا، وما يقارب الـ100 مدرسة في القسطنطينية و22 في قيصري و33 مدرسة في إزمير.
وأخيرًا، فإنه من الجدير بالذكر أن الحضارة العثمانية التي استمرت لستة قرون وتوزعت في ثلاث قارات لم تبدأ من الفراغ بالتأكيد، فلا يمكن تناول النواحي العلمية في الدولة العثمانية دون الحديث عن السلاجقة ودور مؤسساتهم العلمية، لأن العثمانيين ورثوا هذه المؤسسات وطوروها وفق مقتضيات عصرهم.