بعد قرابة عامين من الحصار، نجح الجيش السوداني في فك الحصار عن مدينة الأُبَيِّض، عاصمة ولاية شمال كردفان، بعد عملية عسكرية نفذها متحرك “الشهيد الصياد” القادم من ولاية النيل الأبيض، والذي تمكن من تحرير مدينتي أم روابة والرهد في طريقه لفك الحصار عن الأُبَيِّض، وقد ضم المتحرك قوات من الفرقة 16 مشاة نيالا، بقيادة العميد حسين جودات.
مع دخول الجيش السوداني إلى المدينة، تحولت شوارع الأُبَيِّض إلى ساحات احتفال عفوية، حيث ارتفعت أصوات الزغاريد وهتافات الفرح بين الأهالي الذين خرجوا لاستقبال الجيش، كما اكتظت الأسواق بالمتسوقين، واصطفت الحشود في الشوارع، بعضهم يرفع الأعلام السودانية، وآخرون يوزعون المياه على الجنود والمارة، في مشهد يعكس لحظة انتصار طال انتظارها.
من جهتها، وفي رد فعل على ذلك، شنت مليشيا الدعم السريع قصفًا مكثفًا على مدينة الأُبَيِّض ظهر اليوم، مستهدفة عدة مناطق في الجهة الشمالية للمدينة، انطلاقًا من محور مدينة بارا التي لا تزال تحت سيطرتها، وسقطت القذائف على أحياء سكنية مكتظة، أبرزها حي كريمة والدرجة، ما أدى إلى وقوع إصابات وخسائر في الممتلكات، وفقًا لشهادات مواطنين محليين.
مدينة الأبيض تحتفل بتحريرها.. الجيش السوداني ينجح في فك الحصار الذي فرضته قوات الدعم السريع.#السودان pic.twitter.com/n0x8uAdio6
— نون بوست (@NoonPost) February 24, 2025
أهمية “عروس الرمال” في الميزان العسكري والمدني
تُلقب الأُبَيِّض بـ “عروس الرمال”، إذ ترتبط بشبكة طرق برية واسعة تصلها بولايات الخرطوم والنيل الأبيض وجنوب كردفان وغرب كردفان وشمال دارفور، وتشمل طريق الأُبَيِّض–أم درمان والأُبَيِّض–أم روابة–كوستي، إضافة إلى خطوط تربطها بالفاشر وكادوقلي والدلنج وأبوجبيهة.
يمثل تحريرها خطوة استراتيجية مهمة، تعزز ممرات الإمداد العسكري واللوجستي، إذ أدى حصار الدعم السريع لمدينة الأُبَيِّض وإغلاق الطريق الرابط بينها وبين مدن غربي البلاد ووسطها إلى تعطيل حركة الشاحنات التجارية والقوافل الإنسانية، ما انعكس سلبًا على تصدير المواشي والمحاصيل الزراعية، التي تُعد من أبرز موارد المدينة، كما تسبب الحصار في وقف عمل أكبر بورصة للصمغ العربي في العالم، ما فاقم الأزمة الاقتصادية وزاد من تعقيد الأوضاع في المنطقة.
لم يتبقَّ لمليشيا الدعم السريع في ولاية شمال كردفان سوى محليتي بارا وجبرة الشيخ، في حين لا تزال تسيطر على مناطق في مدينتي الفولة والمجلد، إضافة إلى مناطق أخرى في ولاية غرب كردفان، وكذلك محلية القوز، التي تضم عاصمتها الدبيبات شمالي ولاية جنوب كردفان.
يُعد فك حصار الأُبَيِّض نقطة محورية في مسار تحرير ما تبقى من إقليم كردفان وكامل إقليم دارفور، تمامًا كما شكل تحرير جبل مويا تحولًا حاسمًا في استعادة الإقليم الأوسط وطرد مليشيا الدعم السريع منه، فمن الناحية العسكرية، تحتضن المدينة قاعدة جوية استراتيجية تعرضت لهجوم في بداية الحرب، حيث دمرت مليشيا الدعم السريع مقاتلات يُعتقد أنها من طراز “سوخوي-25” وطائرة شحن عسكرية، ويُتوقع أن يُتيح إعادة تشغيل القاعدة للجيش السوداني تنفيذ عمليات جوية أكثر فاعلية، خاصةً مع التقديرات حول امتلاكه طائرات جديدة لتعزيز قدراته الهجومية.
أما على المستوى المدني، فيُعتبر فتح الطريق إلى الأُبَيِّض إنجازًا مهمًا لمواطني ولاية شمال كردفان، حيث سيمكن من استئناف وصول الإمدادات الغذائية والدوائية بعد أشهر من الانقطاع، كما ستُسهم في إعادة تشغيل الخدمات الأساسية، مثل الكهرباء والمياه والاتصالات التي تعطلت خلال فترة الحصار.
تسلسل العملية واستراتيجية التقدم
في إحدى أكبر العمليات العسكرية منذ اندلاع الحرب، بدأ متحرك “الشهيد الصياد” تقدمه من مدينة تندلتي بولاية النيل الأبيض في الأسبوع الأول من مايو/أيار 2024، بهدف استعادة السيطرة على الطريق القومي (تندلتي – الأُبَيِّض) بطول 220 كيلومترًا، وتحرير المدن والقرى الواقعة عليه، وفقًا لمصدر أمني تحدث إلى “نون بوست”.
ضم المتحرك مؤخرات قوات عدد من فرق دارفور المنسحبة، وعلى رأسها الفرقة 16 مشاة نيالا، إلى جانب أعداد كبيرة من المستنفرين والقوات المساندة للجيش. واعتمد خطة مرحلية ترتكز على استعادة المناطق الاستراتيجية تدريجيًا، وصولًا إلى فك الحصار عن الأُبَيِّض.

وأضاف المصدر الأمني أن الجيش السوداني، عبر متحرك “الشهيد الصياد”، حقق أول انتصار ميداني بتحرير منطقة ود عشانا، التي كانت نقطة تمركز مهمة لمليشيا الدعم السريع على الطريق القومي، تلا ذلك تقدم متسارع نحو منطقة الغبشة، التي تم تحريرها في 1 ديسمبر/كانون الأول 2024، بعد معارك شرسة انتهت بهزيمة المليشيا وتأمين المنطقة بالكامل.
في 30 يناير/كانون الثاني 2025، اقتحم متحرك “الشهيد الصياد” مدينة أم روابة، التي كانت تمثل عقدة استراتيجية لمليشيا الدعم السريع في شمال كردفان، وتم تحريرها بعد اشتباكات استمرت لعدة أيام، استخدم فيها الجيش السوداني المدفعية الثقيلة والطيران المسير لضرب تحصينات المليشيا تمهيدًا للتقدم البري.
ومع تزايد زخم العمليات، أشار المصدر الأمني إلى تقدم الجيش من أم روابة نحو مدينة الرهد، التي تبعد حوالي 78 كيلومترًا عن الأُبَيِّض، ما أسهم في تحقيق انتصارات متتالية وتحرير عدد من القرى والمدن الصغيرة على طول الطريق القومي. وفي 17 فبراير/شباط 2025، دخل الجيش السوداني مدينة الرهد بعد معركة حاسمة، أعقبها تحرير جبل الداير ومعسكر سدرة في 19 فبراير/شباط 2025، في خطوة أكدت انهيار دفاعات المليشيا في شمال كردفان.
وأضاف المصدر أن القوات المسلحة السودانية واصلت تقدمها في 23 فبراير/شباط 2025 باتجاه منطقة أبو الغر، التي كانت ثاني أكبر معاقل المليشيا في شمال كردفان، حيث استخدمتها كمعتقل ضخم للشباب المختطفين من أم روابة والرهد وقراهما، مع إجبار أهاليهم على دفع مبالغ مالية ضخمة للإفراج عنهم.
ووفقًا للمصدر، خاضت القوات مواجهات شرسة في أبو الغر، حيث استخدمت الطائرات المسيّرة وسلاح الجو لضرب تحصينات المليشيا، قبل أن تتمكن القوات المسلحة من فرض سيطرتها الكاملة على المنطقة.
وأكد المصدر الأمني أن القوات المسلحة السودانية واصلت تقدمها بعد تحرير أبو الغر، حيث خاضت معارك عنيفة قرب جبل حمدالله، أحد آخر معاقل المليشيا قبل الأُبَيِّض، وأوضح أن التخطيط المحكم والاستخدام الفعّال لسلاح الجو والمدفعية كانا عاملين أساسيين في تدمير الدفاعات المتبقية، ما مهد الطريق لدخول القوات المسلحة إلى الأُبَيِّض والالتحام مع قوات الفرقة الخامسة مشاة “الهجانة”، ليتم فك الحصار رسميًا عن المدينة بعد أكثر من 22 شهرًا من العزلة.
الجدير بالذكر أن الجيش السوداني حقق خلال الفترة الأخيرة تقدمات كبيرة في مختلف المحاور، حيث نجح في استعادة السيطرة على مواقع استراتيجية وتعزيز وجوده في عدة مناطق كانت خاضعة لسيطرة مليشيا الدعم السريع، كما تمكن من تحرير العديد من المدن وتأمين طرق الإمداد الحيوية، ما منحه الأفضلية الميدانية ومكّنه من مواصلة العمليات العسكرية بوتيرة متصاعدة.
تداعيات فك الحصار عن الُأبيض
فك حصار الأبيض لا يمثل فقط استعادة مدينة استراتيجية، بل يُعزز قدرة الجيش على إعادة التموضع والانتقال إلى الهجوم في مناطق غرب السودان، وقد تشهد الفترة القادمة تصعيدًا في العمليات العسكرية باتجاه بقية إقليم كردفان والتوجه نحو دارفو حيث مركز سيطرة مليشيا الدعم السريع ومناطق نفوذها الواسعة.
في هذا الصدد، يؤكد المحلل العسكري عبد الرحيم الفاضل، أن نجاح القوات المسلحة السودانية في فك الحصار عن مدينة الأبيض، التي تضم الفرقة الخامسة مشاة (الهجانة) وقاعدة الأبيض الجوية، يمثل تحولًا استراتيجيًا في سير المعارك، مشيرًا إلى أن الخطوة القادمة للقوات المسلحة ستكون توسيع نطاق عملياتها في ولايات كردفان لتأمين خطوط الإمداد البرية والجوية، ما يضمن استمرار تدفق الدعم اللوجستي والعسكري للجيش، إلى جانب قطع طرق الإمداد على مليشيا الدعم السريع.
#الله_أكبر 🔥🔥
صبرتوا ونلتوا، الآن دخول المواد التموينية مدينة #الابيض رفقة متحرك الصياد! 🇸🇩 pic.twitter.com/IadnMv8bbt
— Jameela_1417 (@Bit_Khalifa1417) February 23, 2025
ويضيف الفاضل في حديثه لـ”نون بوست” أن تحرير الأبيض يفتح المجال أمام مرحلة جديدة من العمليات العسكرية، حيث يمكن للقوات المسلحة السودانية أن تستغل المدينة كمركز عمليات رئيسي للتقدم نحو دارفور، من خلال دعم الإمداد العسكري، وتنفيذ هجمات برية وجوية ضد مواقع المليشيا في الضعين والجنينة وزالنجي ونيالا.
ويشير إلى أن إعادة تشغيل القاعدة الجوية ستتيح للجيش السوداني تنفيذ عمليات جوية مكثفة ضد مليشيا الدعم السريع والحركات المسلحة المتحالفة معها، بما فيها الحركة الشعبية بقيادة الحلو، وذلك من خلال:
– تعزيز الضربات الجوية ضد مواقع المليشيا في كردفان ودارفور، ما سيحد من قدرتها على التحرك، مع إغلاق طرق الهروب أمام عناصر المليشيا، حيث قد يتم تطويقها في مناطق محددة قبل القضاء عليها عسكريًا.
– تمكين القوات المسلحة من استهداف تجمعات المليشيا ومراكز قيادتها بدقة أكبر، وإعادة فتح جسر جوي للإمداد العسكري للقوات البرية المنتشرة في خطوط القتال.
– إعادة ترتيب الاستراتيجية العسكرية للجيش السوداني بما يعزز موقفه الهجومي، خاصة في ظل إمكانية تنفيذ عمليات إنزال جوي في دارفور لدعم القوات البرية المتقدمة.
– تمكين الجيش من نشر مقاتلات جوية جديدة، وهو ما قد يعزز من التفوق الجوي للقوات المسلحة السودانية خلال المرحلة القادمة، إضافة إلى رفع كفاءة الطائرات المسيّرة في الاستطلاع والهجوم الجوي الدقيق.
ويشير الفاضل إلى أن هناك أنباءً متداولة عن احتمال حصول الجيش السوداني على طائرات مقاتلة جديدة خلال الأسابيع المقبلة، وفي حال تم تجهيز القاعدة الجوية في الأبيض لاستقبال هذه الطائرات، فإن ذلك سيمثل تحولًا نوعيًا في العمليات العسكرية، خاصة إذا تم دعمها بأنظمة دفاع جوي ورادارات حديثة لتعزيز الحماية الجوية للمدينة.
ويضيف أن المليشيا اتبعت سياسة الأرض المحروقة عند انسحابها من القاعدة الجوية وحرقت بعض الطائرات، في محاولة لتعطيل استخدام القاعدة من قبل القوات المسلحة مستقبلًا، ومع ذلك فإن استعادة الجيش للمدينة وبدء عمليات التأهيل للقاعدة قد تعيدها إلى الخدمة في وقت قريب.
بالمحصلة، فإن فك الحصار عن مدينة الُأبيض يعكس تحولًا في ديناميكيات الحرب السودانية، ويطرح أسئلة جوهرية حول مستقبل الصراع، خاصة في ظل المتغيرات العسكرية والجيوسياسية، والأيام القادمة وحدها ستكشف مآلات هذا التطور وتأثيره على مستقبل الحرب والسلام في السودان.