يبدو أن الضغوط على الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، تزداد بصورة متسارعة، وذلك قبيل البدء في الحملة الدعائية استعدادًا للماراثون الانتخابي لولايته الثانية المقرر إجراؤه في 2020 وسط منافسة حامية الوطيس، سواء من حزبه “الجمهوريين” أم الأحزاب الأخرى المنافسة.
من الواضح أن الديمقراطيين اتخذوا بالفعل قرارهم في الدخول بإجراءات عزل ترامب على خلفية ما باتت تعرف بفضيحة “أوكرانيا”، إذ أمرت رئيسة مجلس النواب الديمقراطية نانسي بلوسي بفتح تحقيق رسمي عن الرئيس تمهيدًا لسحب الثقة منه على ضوء ما تعتبره تهديدًا للأمن القومي لبلادها، مؤكدة “ينبغي محاسبة الرئيس، لا أحد فوق القانون”.
ورغم أنها ليست المرة الأولى التي يواجه فيها الرئيس الأمريكي – المثير للجدل – مثل هذه التحركات التي تستهدف تقويض سلطاته أو سحب الثقة منه، فإن هذه المرة الوضع يختلف، فالأمر تجاوز التصريحات الإعلامية والسياسية إلى فتح تحقيق رسمي، وهو ما قد يمثل تهديدًا حقيقيًا لمستقبل ترامب الرئاسي.
غير أن ذلك لا يعني، وفق ما ذهب البعض، إلى أن أيام الرئيس في البيت الأبيض باتت معدودة، فالأمر ليس بالسهولة التي يتوقعها كثيرون، فبعيدًا عن البُعد الزمني لتلك الإجراءات التي من المتوقع أن تأخذ وقتًا طويلًا، فإن الجمهوريين ليسوا لقمة سائغة بالطبع في فم الديمقراطيين إلى هذا الحد.
فضيحة أوكرانيا
كانت البداية مع تسريب لمكالمة هاتفية أجراها ترامب مع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينكسي، بشأن منافسه الديمقراطي جو بايدن، في يوليو/تموز الماضي، تستهدف الضغط عليه لكشف معلومات بشأن نجل خصمه “هانتر” وفق ما ذكرت صحيفة “وول ستريت جورنال”.
الصحيفة نقلت عن مصادر خاصة بها أن ترامب حث زيلينكسي، خلال الاتصال، على فتح تحقيق في كيفية حصول هانتر بايدن، على وظيفة في شركة غاز أوكرانية، مضيفة أن الرئيس الأمريكي حث نظيره الأوكراني على العمل مع رودي جولياني، المحامي الشخصي له، لفتح تحقيق في هذه المسألة.
وكان هانتر قد انضم للشركة المذكورة عام 2014، بعد فترة وجيزة من زيارة قام بها والده لأوكرانيا، الذي طالب في تغريدة له ترامب بنشر نصّ محادثته الهاتفية مع الرئيس الأوكراني، قائلاً: “ينبغي على دونالد ترامب نشر نص هذه المكالمة فورًا، لكي يحكم الشعب الأمريكي بنفسه”.
وسبق أن أثار ترامب، وعدد من أعضاء الحزب الجمهوري، تساؤلات عما إذا كان حصول نجل بايدن، على وظيفة عضو في مجلس إدارة شركة “بوريسما” الأوكرانية، يمثل تعارضًا في المصالح، إذ قال في تصريحات صحفية، مساء الأحد الماضي: “أجرينا محادثة رائعة، وكانت تهنئة إلى حد كبير، تحدثنا عن الفساد.. وحقيقة لا نريد أن يكون شعبنا مثل بايدن وابنه”، حسب شبكة “سي إن إن”.
وأضافت الشبكة الأمريكية أن تصريحات ترامب أثارت مطالب بين قيادات ديمقراطية بضرورة فتح تحقيق جديد بشأن تواصل ترامب مع جهة خارجية، بهدف التأثير على سير الانتخابات الأمريكية، وقال آدم شيف، رئيس لجنة الاستخبارات بمجلس النواب الأمريكي، إنه إذا أظهر التحقيق أن ترامب ضغط على زيلينسكي بشأن بايدن، فإن المساءلة ستكون الخيار الوحيد المطروح.
وعليه أعلنت بيلوسي ذلك في كلمة متلفزة قائلة: “أعلن اليوم أن مجلس النواب سيمضي قدمًا في تحقيق رسمي مع ترامب، يجب محاسبة الرئيس، ولا يوجد أحد فوق القانون”، مضيفةً “ترامب اتصل بدولة أجنبية من أجل التدخل في شؤون بلدنا وهذا خرق للقانون”.
جون بايدن المرشح المنافس لترامب في الانتخابات القادمة
كيف سُربت المكالمة؟
السؤال الذي أثار جدلًا مع إعلان فتح التحقيق تطرق إلى هوية من سرب المكالمة إلى الصحافة الأمريكية التي بدورها لم تأخذ وقتًا طويلاً لنشر تفاصيلها رغم ما تحمله من مخاطر قد تسيء لسمعة رئيس الدولة، غير أن القانون الأمريكي يسمح بأن تكون كل مكالمات الرئيس مسجلة وتعرض على فريق أمني لدراستها وتفريغها وتحليلها وفق ما يقتضي الأمن القومي لأمريكا.
مساومة ترامب لنظيره الأوكراني بتشويه سمعة نجل بايدن مقابل استمرار المعونة الأمريكية التي تقدر بـ400 مليون دولار سنويًا، أثار حفيظة أحد الأفراد المخولين بتحليل المكالمات، وعليها تقدم بمذكرة تفصيلية لرئيسه طالبًا منه فتح تحقيق رسمي في الكونغرس لمناقشتها.
لكن مع مرور الوقت لم يتغير شيء، ولم يقدم المسؤول بطلب التحقيق المذكور، غير أن سرعان ما وصلت المكالمة إلى صحيفة “وول ستريت جورنال” التي نشرت الخبر على وجه السرعة، لتحدث زلزالًا في الشارع الأمريكي دفع رئيسة البرلمان إلى اتخاذ قرار عاجل بفتح تحقيق رسمي.
يذكر أن هذه ليست المرة الأولى التي يتم التلميح فيها لهذه الجريمة، إذ نشرت بعض الصحف قبل ذلك أخبارًا تأتي في هذا الإطار لكن نجح الجمهوريون في إحداث البلبلة والتعتيم عليها قبل ذلك، غير أن هذه المرة كانت الأخبار موثقة بمكالمة مسجلة، وهو ما لم يستطع أنصار ترامب التصدي له.
مساعي عزل ترامب ليست وليدة اللحظة، إلا أن الانقسام داخل الحزب الديمقراطي بشأنها حال دون تفعيلها على أرض الواقع رغم المحاولات المتباينة بين الحين والآخر
ترامب يرد
لم يستغرق ترامب وقتا كبيرًا للرد على بدء إجراء التحقيق فيما نسب إليه، ففي أول تعليق على هذه الخطوة وصف ما يقوم به الديمقراطيون بأنه “تحرش بالرئاسة”، مضيفًا في تغريدة له: إنه يوم مهم في الأمم المتحدة وهناك كثير من العمل والنجاح، والديمقراطيون تعمدوا تعكيره بمزيد من أخبار قمامة مطاردة الساحرات، هذا أمر سيء جدًا لبلادنا”.
وتابع في تغريدة أخرى: “أنا الآن في الأمم المتحدة حيث أمثل بلدنا، ولكني سمحت بأن ينشر (الأربعاء) المحضر الكامل لمحادثتي الهاتفية مع الرئيس الأوكراني”.
فيما اتهم حلفاء ترامب في الكونغرس، بيلوسي باستخدام القرار لأغراض سياسية، حيث وصف ميتش مكونيل زعيم الأغلبية الجمهورية بمجلس الشيوخ القرار بأنه “تعجل في الحكم”، قائلاً إنّه كان ينبغي لها انتظار نشر تفاصيل المحادثة الهاتفية.
فريق ذهب إلى أن فتح هذا الملف في هذا التوقيت يصب في صالح ترامب وحملته الرئاسية، إذ إنه وبهذه الخطوة سيتم تحويل دفة الرأي العام نحو هذه القضية، ويتحول خطاب الديمقراطيين من القضايا العامة التي تهم المواطن الأمريكي كالفساد والصحة والبيئة والدخول إلى قضايا أخرى أقل أهمية.
They never even saw the transcript of the call. A total Witch Hunt!
— Donald J. Trump (@realDonaldTrump) September 24, 2019
أنصار هذا الرأي يميلون إلى أن ما حدث ربما يرفع أسهم ترامب في الانتخابات القادمة، فالرجل وفق ما يدور حاليًّا سيقدم نفسه على أنه ضحية مخططات الديمقراطيين التي تستهدف تقويض سلطاته ومن ثم إعاقته عن القيام بالمهام الموكلة له، وهو المبرر الذي من الممكن استخدامه للتغطية على فشله في العديد من الملفات المهمة.
ولم يكن استخدام مصطلح Presidential Harassment”” الذي يعني التحرش الرئاسي هو الأول من نوعه الذي يستخدمه ترامب الذي طالما ردد في أكثر من مرة أنه يستحق مدة رئاسية أطول بسبب ضياع الوقت فيما سماه “مواجهة الديمقراطيين” في إشارة منه للوقت المستغرق في التحقيق بقضية التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية الماضية.
PRESIDENTIAL HARASSMENT!
— Donald J. Trump (@realDonaldTrump) September 24, 2019
مغامرة سياسية
مساعي عزل ترامب ليست وليدة اللحظة، إلا أن الانقسام داخل الحزب الديمقراطي بشأنها حال دون تفعيلها على أرض الواقع رغم المحاولات المتباينة بين الحين والآخر، فوفق وسائل إعلام أمريكية فإن أكثر من نصف النواب الديمقراطيين في مجلس النواب الأمريكي باتوا يؤيدون بدء إجراءات كفيلة بعزل الرئيس.
ومن أصل النواب الديمقراطيين الـ235 في مجلس النواب تبين أن 118 منهم باتوا يؤيدون بدء الإجراءات لإقالة ترامب، ويأمل أصحاب هذا الموقف أن يدفع هذا الواقع الجديد رئيسة مجلس النواب الديمقراطية نانسي بيلوسي إلى تغيير موقفها ودعم بدء هذا الإجراء.
يستطيع النواب الديمقراطيون إطلاق هذه الإجراءات بسبب تمتعهم بالغالبية في مجلس النواب، لكن إتمام العملية بشكل كامل واتخاذ إجراء رسمي بسحب الثقة سيواجه عقبة ليست بالهينة وهي موافقة الثلثين في مجلس الشيوخ
كثير من المسؤولين في الحزب المنافس لترامب يخشون من التداعيات السلبية لهذا الإجراء على موقفهم خلال الحملة الانتخابية للانتخابات الرئاسية عام 2020، لأنه قد يؤدي إلى نوع من التعتيم على مواضيعهم المفضلة مثل البيئة والتغطية الصحية والإصلاحات القضائية.
الخوف من تسليط الضوء على جرائم ترامب الخارجية بما يأتي على حساب فشله الداخلي كان عاملاً حاسمًا في التردد بشأن اتخاذ إجراء رسمي لسحب الثقة من ترامب، لكن حركة المطالبين بذلك اتسعت بعد الشهادة التي قدمها المدعي الخاص السابق روبرت مولر في نهاية يوليو/تموز الماضي بشأن التحقيق الذي تولاه طيلة سنتين بشأن التدخلات الروسية في انتخابات العام 2016، والشكوك بمحاولة ترامب عرقلة عمل القضاء.
مولر في تقريره كشف دورًا روسيًا ساهم في ترجيح كفة ترامب خلال الحملة الانتخابية عام 2016، كما وصف بالتفصيل كيف رحب فريق الرئيس بهذه المساعدة، الأمر الذي اعتبره عدد من الديمقراطيين مبررًا لاتخاذ إجراءات تدين الرئيس مهما كانت العواقب السياسية لهذا الأمر.
ليست بهذه السهولة
بالفعل يستطيع النواب الديمقراطيون إطلاق هذه الإجراءات بسبب تمتعهم بالغالبية في مجلس النواب، لكن إتمام العملية بشكل كامل واتخاذ إجراء رسمي بسحب الثقة سيواجه عقبة ليست بالهينة وهي موافقة الثلثين في مجلس الشيوخ الذي يسيطر عليه الجمهوريون، وهو ما حدث أكثر من مرة خلال العامين الماضيين.
فمحاسبة الكونغرس للرؤساء عملية طويلة ومعقدة وتمر بعدة مراحل، فبعد موافقة النواب لا بد من أغلبية الشيوخ، وهو ما قد يشل البرلمان عن اتخاذ أي إجراء، خاصة أن ترامب ليس لديه ما يبكي عليه حال إدانته، وهو الذي هدد المجلس قبل ذلك بتعطيل عمله حال اتخاذه أي قرارات تعارض توجهاته.
الفقرة الثانية من المادة الأولى من الدستور الأمريكي تنص على أن مجلس النواب “يختار رئيسه والمسؤولين الآخرين، وتكون لهذا المجلس وحده سلطة اتهام المسؤولين”، لذا فإن العزل يجب أن يبدأ من مجلس النواب، ويجب على المجلس أن يخوّل إحدى لجانه، وعادة ما تكون اللجنة القضائية، للتحقيق في الشخص المعني، وفي حال حددت اللجنة وجود أمر ما، فإن بإمكانها إعادة مواد العزل للمجلس ككل، ليقوم بالتصويت بأغلبية بسيطة، وبما أن الديمقراطيين يسيطرون على مجلس النواب الآن، فإن بإمكانهم بسهولة تحقيق ذلك ضمن هذا الحزب غدًا على سبيل المثال، لكن هذه الخطوة الأولى فقط.
بهذا الإجراء سيكون ذلك أول تحقيق للمساءلة في الكونغرس منذ تحقيق عام 1998 مع الرئيس السابق بيل كلينتون، بتهمة الحنث باليمين وعرقلة العدالة
أما الفقرة الثالثة من المادة الثانية للدستور فتشير إلى ضرورة أن ترسل القضية برمتها إلى مجلس الشيوخ، إذ ينص الدستور على أن “لمجلس الشيوخ وحده سلطة إجراء محاكمة في جميع تهم المسؤولين، وعندما ينعقد مجلس الشيوخ لذلك الغرض، يقسم جميع أعضائه باليمين أو بالإقرار، وعندما تتم محاكمة رئيس الولايات المتحدة، يرأس رئيس القضاة الجلسات: ولا يجوز إدانة أي شخص دون موافقة ثلثي الأعضاء الحاضرين”.
ويتضمن الجزء الخاص بمجلس الشيوخ في عملية العزل محاكمة يكون فيها النواب مدّعون عامّون بينما يكون مجلس الشيوخ أعضاء بهيئة المحلفين، ويجب أن يصوّت ثلثهم بالإدانة، وبالقيام ببعض الحسابات فيجب أن يكون عددهم 67 سيناتورًا على أقل تقدير، وبالتقسيم الحاليّ للحزب، فهذا يعني أن على 20 سيناتورًا جمهوريًا التصويت لإدانة ترامب، على افتراض أن كل الديمقراطيين سيصوتون لصالح ذلك أيضًا.
بهذا الإجراء سيكون ذلك أول تحقيق للمساءلة في الكونغرس منذ تحقيق عام 1998 مع الرئيس السابق بيل كلينتون، بتهمة الحنث باليمين وعرقلة العدالة فيما يخص علاقته بالمتدربة السابقة بالبيت الأبيض مونيكا لوينسكي، حيث صوّت مجلس النواب بمساءلة كلينتون، في ديسمبر/كانون الأول 1998، لكن مجلس الشيوخ برأ الرئيس الديمقراطي بعدها بشهرين ليظل في المنصب.