يتواصل اختفاء النائبة الليبية عن مدينة بنغازي “سهام سرقيوة” للشهر الثالث على التوالي، دون أن يعرف أحد مكانها ولا مصيرها، فهناك من يؤكد تصفيتها من الجهات الخاطفة وهناك من يعتقد أنها ما زالت على قيد الحياة، إلا أن الثابت في الأمر هو تورط حفتر والميليشيات الخارجة عن القانون التي تتبعه في عملية اختطاف النائبة من منزلها، فما قصة “سرقيوة”؟
تفاصيل عملية الاختطاف
في الساعات الأولى من يوم 17 من يوليو/تموز الماضي، حاصرت عشرات السيارات رباعية الدفع الحي الذي تسكن فيه النائبة سهام سرقيوة، وأغلقوه بالكامل ومنعوا الاقتراب منه كما قطعوا التيار الكهربائي عن المنطقة بشكل كامل بالتزامن مع سماع صراخ.
يسعى حفتر المناهض لشرعية حكومة الوفاق الوطني المدعومة أمميًا، إلى إقامة نظام عسكري في البلاد
في تلك الأثناء، اقتحم العشرات من المسلحين الملثمين، كان بعضهم يرتدي بزات عسكرية خضراء لكن أغلبهم كانوا في أزياء سوداء، منزل سهام واعتقلوها، وأصيب زوجها، علي، بالرصاص في ساقه، كما تعرض ابنها فادي البالغ من العمر 16 عامًا، للضرب المبرح خلال المداهمة.
بعد الهجوم كتب المسلحون رسالة باللون الأسود عند مدخل المنزل: “الجيش خط أحمر” و”أولياء الدم”، وهي إشارة إلى جماعة مسلحة مرتبطة بقوات حفتر متورطة في انتهاكات لحقوق الإنسان في الشرق، وتتكون في جزء كبير منها من أقارب أشخاص قتلوا في هجمات مسلحة.
الكتيبة 106
يقول شهود عيان إن بعض السيارات المستخدمة في عملية اختطاف سهام، كانت لجماعة مرتبطة بما يعرف بالجيش الوطني الليبي تُسمى “الكتيبة 106″، وقد كانت واحدة من هذه السيارات زرقاء وحمراء اللون، وهي من النوع الذي تستخدمه الشرطة العسكرية في الشرق الليبي، فيما كانت باقي السيارات بيضاء اللون التي عادة ما تستخدمها الجماعات المسلحة في بنغازي.
تعتبر الكتيبة 106، إحدى أكبر اللواءات العسكرية التي يسيطر عليها حفتر، ويعتمد عليها في مهماته المختلفة، ويقودها نجله صدام خليفة حفتر (مدني) الذي منحه والده رتبة مقدم دون أن يكون له أي خلفية عسكرية.
بعثة الأمم المتحدة للدعم في #ليبيا تستنكر الاختفاء القسري للسيدة سرقيوة، عضو مجلس النواب المنتخب، داعيةً إلى إطلاق سراحها على الفور… نص البيان: https://t.co/MBuR42fnfD pic.twitter.com/BNc1WrOLam
— UNSMIL (@UNSMILibya) July 18, 2019
تتكون هذه الكتيبة العسكرية من مجموعات مسلحة ينتمي بعضها إلى التيار السلفي المدخلي، وقد قدمت من مدن شرق وغرب وجنوب ليبيا، وتعد الأكثر تجهيزًا بالآليات والسيارات العسكرية الحديثة والأسلحة والذخائر التي تمنحها الإمارات ومصر لحفتر.
يذكر أن صدام خليفة تورط في العديد من الجرائم منها سرقة أموال حكومية في نهاية 2017، خلال عملية نفذتها جماعة من الكتيبة 106 التابعة له، للسطو على فرع مصرف ليبيا المركزي وسط مدينة بنغازي، وانتهت العملية إلى نقل نحو 639 مليون دينار و159 مليون يورو و1.900 مليون دولار، بالإضافة إلى 5869 قطعة فضية إلى مكان مجهول.
مسؤولية حفتر
تحمّل العديد من الأطراف، اللواء المتقاعد خليفة حفتر مسؤولية اختفاء سهام، فجميع الميليشيات الناشطة في شرق ليبيا تعمل تحت إمرته، كما أن الميليشيا التي اختطفت سهام تعمل تحت لواء ابنه مباشرة.
في هذا الشأن، حمل مجلس النواب الليبي المنعقد في العاصمة الليبية طرابلس، قائد قوات شرقي ليبيا، المتمرد حفتر، مسؤولية اختطاف سهام سرقيوة. وقال أعضاء المجلس في بيان صدر بهذا الخصوص، إنهم يحملون حفتر “مسؤولية حادث الاختطاف، وأي خطر قد تتعرض له النائبة، وأي تقاعس في حمايتها والمواطنين كافة، أيًا كانت توجهاتهم وآراؤهم”.
ويرى العديد من الليبيين أن انتهاج حفتر لهذا النهج، يؤكد سعيه المتواصل لإبعاد كل معارضيه عن الحياة العامة في البلاد، حتى يتمكن من بسط نفوذه دون تعب أو معارضة من أي كانت سواء معارضة سياسية أم عسكرية.
تؤكد منظمات حقوقية دولية ومحلية، تحول الشرق الليبي إلى مسرح لعمليات التصفية الجسدية والجرائم ضد الإنسانية، بتواطؤ الجهات المسيطرة على الوضع هناك
يسعى حفتر المناهض لشرعية حكومة الوفاق الوطني المدعومة أمميًا، إلى إقامة نظام عسكري في البلاد، أسوة بما هو موجود في الجارة الشرقية مصر وبدعم مباشر من القيادة هناك، ليقينه بعدم وجود أي مكان له في دولة مدنية تقام في ليبيا.
ويتهم حفتر بارتكاب جرائم تتعلق بالتورط في الاتجار بالبشر وتهريب المهاجرين غير الشرعيين وانتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان وإنشاء سجون سرية، بالإضافة للتورط في السطو على البنوك وسرقة أموالها.
وكثيرًا ما يحمي حفتر قادته المتهمين بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، وهو ما يؤكد استهانته بدماء الأبرياء في ليبيا واستهانته بالعدالة المحلية والدولية، فبحمايته لهؤلاء المجرمين يضرب حفتر وقواته بعرض الحائط كل التشريعات التي تحظر القتل خارج ساحة المعركة، وهو ما يضفي غطاءً شرعيًا على أفعالهم وممارساتهم وقد يدفع غيرهم إلى ارتكاب ممارسات مماثلة ضد المدنيين.
نتاج طبيعي لغياب القانون
بدوره، أكد المجلس الرئاسي في بيان أن “جريمة اختطاف النائبة سهام سرقيوة هي نتاج طبيعي لغياب القانون وانعدام الحريات العامة في مناطق سيطرة الحاكم العسكري وأعوانه”، في إشارة للواء المتقاعد خليفة حفتر المتهم بارتكاب جرائم حرب في حق المدنيين.
ومن جهتها، قالت هيومن رايتس ووتش إن اختطاف سرقيوة والعنف الذي سُلط على أسرتها وكذلك حرق منزلها، هو جزء من نمط موثق جيدًا من أعمال العنف والانتقام والترهيب التي تمارسها جماعات مسلحة مرتبطة بالجيش الوطني الليبي في بنغازي، وسط إفلات تام من العقاب.
منذ سنة 2014، تاريخ سيطرة حفتر على الشرق الليبي، تعددت حالات الإخفاء القسري وقتل الصحفيين والنشطاء والسياسيين، ومنها قتل المحامية الحقوقية والمدافعة البارزة عن حقوق المرأة سلوى بوقعيقيص على يد مجهولين يوم 25 من يونيو/حزيران 2014، واختطاف اللواء أحمد العريبي الذي يعد من أبرز الشخصيات العسكرية في بنغازي، في أكتوبر/تشرين الأول 2018.
تؤكد منظمات حقوقية دولية ومحلية، تحول الشرق الليبي إلى مسرح لعمليات التصفية الجسدية والجرائم ضد الإنسانية، بتواطؤ الجهات المسيطرة على الوضع هناك، حيث تم قتل واعتقال العديد من معارضي حفتر، كما فرّ عشرات المعارضين أو المشتبه في معارضتهم لقوات الكرامة من ديارهم في بنغازي، وظلوا مهجرين في مناطق أخرى بسبب منعهم من العودة.
كتابات وجدت على جدران بيت سهام بعد عملية اختطافها
وثقت منظمة هيومن رايتس ووتش الحقوقية، حالات إخفاء قسري لأقارب مهجرين قسرًا، وحالات تعذيب وسوء معاملة ومضايقة وترهيب وتدمير ممتلكات واستيلاء على العقارات من قوات موالية أو مرتبطة بقوات حفتر في شرق ليبيا.
وتعد سهام هي الأحدث في سلسلة من النساء الليبيات اللواتي استُهدفن بالاغتيال ومحاولات القتل أو الاختطاف أو الاعتداء البدني أو العنف الجنسي، فضلاً عن تهديدات بالقتل والمضايقة وحملات التشهير على وسائل التواصل الاجتماعي وغيرها من أشكال الترهيب منذ 2014.
لقد تم اغتيال ما لا يقل عن ثلاث ناشطات وسياسيات منذ 2014، بسبب عملهن وهن: عضو مجلس النواب فريحة البركاوي، والمدافعة البارزة عن حقوق الإنسان سلوى بوقعيقيص، والناشطة المحلية انتصار الحصائري.
وتثير هذه العمليات التي تُنفذ بين الحين والآخر خارج القانون في الشرق الليبي الذي يسيطر عليه قوات حفتر، قلق الليبيين والمنظمات الحقوقية المحلية والإقليمية الدولية بشأن استمرار هذه الجرائم وتزايد عمليات الانتقام، وخطر ذلك على السلم والتماسك الاجتماعي والمصالحة الوطنية ومساعي إقامة دولة قانون.
ضحية مواقفها المناهضة لحفتر
كان آخر ظهور لعضو مجلس الليبي سهام سرقيوة، في مداخلة عبر برنامج “الحدث” الذي يقدمه الإعلامي أحمد القماطي عبر قناة “ليبيا الحدث” الموالية لحفتر بعد مشاركتها مع عدد من النواب في اجتماعات بالقاهرة مع اللجنة المصرية المعنية بليبيا.
وكانت سهام سرقيوة قد انتقدت في تلك المداخلة الهجوم العسكري لحفتر على العاصمة طرابلس ومقر حكومة الوفاق الوطني المعترف بها من الأمم المتحدة، ودعت إلى تشكيل حكومة وطنية تشارك فيها جميع الأحزاب الليبية، بمن فيهم الإخوان المسلمين، وهو ما يرفضه حفتر بشدة.
سعى حفتر وجماعته إلى إرغام أهل الضحية بعدم التطرق إلى ملف حادثة سهام، والكف عن اتهامهم لهم بالمسؤولية عن هذه الحادثة
في البداية، عرفت سرقيوة بدفاعها عن حفتر لكنها غيرت موقفها بعد ذلك، مؤكدة أنها “كانت تدعمُ مجموعة من المليشيات القبلية”، ثم تعهدت “بالبدء في نشر فضائح لجنة الدفاع في مجلس النواب والفساد المالي الذي يشوبها” وواصلت “لم أتعرض يومًا للاعتداء اللفظي في بنغازي في أثناء حكم “الجماعات الإسلامية” بل كانوا يحترمون جميع النساء، أما اليوم فأنا مصدومة جدًا من الواقع الذي وصلنا إليه من حكم الملشيات القبلية”، في إشارة لقوات حفتر.
وترفض النائبة سهام، مشروع الحكم العسكري الذي يقوده خليفة حفتر ويسعى إلى تكريسه في البلاد، كما تدعو إلى إقامة دولة مدنية ديمقراطية في ليبيا، يكون أساسها القانون والمؤسسات بعيدًا عن لغة السلاح والترهيب.
هل تمت تصفيتها؟
منذ تاريخ اختطافها وإلى الآن، ما زال موقع سهام غير معروف، إلا أن المرجح أنه تم تصفيتها مما يعرف “بذراع حفتر للأعمال القذرة”، الذي يوصف أيضًا “بقائد الإعدامات” في قوات اللواء المتقاعد في ليبيا خليفة حفتر، محمود الورفلي.
تصفية النائبة سهام خارج إطار القانون ليست العملية الأولى التي يقوم بها محمود الورفلي، فقد ظهر الورفلي في عدة تسجيلات أخرى وهو يشرف على إعدامات خارج القانون، بينها فيديوهات يظهر فيها مع جنوده وهم ينكلون بضحاياهم قبل قتلهم.
يعد محمود مصطفى بوسيف الورفلي، المولود عام 1974، من المقربين كثيرًا من حفتر وقياديًا بارزًا في كتيبة القوات الخاصة المعروفة باسم كتيبة الصاعقة برتبة نقيب، وهي وحدة خاصة انشقت عن الجيش الليبي عقب الانتفاضة التي أطاحت بالعقيد الراحل معمر القذافي عام 2011، التي تتبع حاليًّا لحفتر.
محمود الورفلي في لقاء مع حفتر
هذه العمليات المتكررة جعلت الورفلي يواجه اتهامات من محكمة الجنايات الدولية، حيث حثت فاتو بنسودة التي تشغل منصب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، السلطات الليبية على اعتقال الورفلي وتسليمه إلى لاهاي “من دون أي تأخير“، وهي دعوة ردت عليها القيادة بقوات حفتر بإعلان إيقاف للورفلي وإحالته للتحقيق، قبل أن يتم إطلاق سراحه وترقيته.
ويسعى حفتر وجماعته إلى إرغام أهل الضحية على عدم التطرق إلى ملف حادثة سهام والكف عن اتهامهم لهم بالمسؤولية عن هذه الحادثة، من خلال الضغط عليهم وأيضًا من خلال بث إشاعات تفيد بإطلاق سراحها وعودتها إلى بيتها سالمة.