منذ قيام الثورة في إيران عام 1979، بدأت رغبة إيران في استعادة مكانتها تحقيقًا لحلمها الإمبراطوري، وهو انعكاس للفكر الإيراني المعاصر الذي وجه ثورتها الإسلامية ونظامها السياسي، مع عدم تجاهل ثوابت واضحة في التاريخ والجغرافيا الإيرانية، وثوابت أخرى تتعلق بطبيعة الشخصية الإيرانية ومواقفها تحت أي نظام سياسي، وتتعلق بدور إيران التاريخي إقليميًا ودوليًا، فاجتهدت الثورة الإيرانية بأن تقيم قيادة “الحكومة العالمية للإسلام”، ووضع أسس لهذا النظام للتعامل مع المستجدات، ومن أهم الآليات المعتمدة لتحقيق النظام الجيو-أمني بالمفهوم الإيراني في هذا المجال، ما يأتي:
1- تنمية القدرات العسكرية والمشاريع الأمنية، وذلك من خلال منح الدولة قدرات عسكرية كبيرة، تساعد النظام على رفع شعار التهديد في مواجهة التهديد، وتقوم إيران بمناورات متعددة الجوانب والأهداف، لتحجيم قدرة القوات الأجنبية الموجودة في المنطقة مع وجود إمكانية ردع هذه القوات، والاعتماد أيضًا على تكتيك حرب العصابات والحرب الهجينة، بدلًا من الحرب التقليدية والاعتماد على قطاع المعلومات.
2- تطوير إستراتيجية الوجود العسكري في المنطقة، إذ تتعمد إيران نقل نشاطها العسكري إلى بعض الدول، فتجاوزت تجنيد العملاء إلى تكوين آلية عسكرية غير إيرانية، مع قيادات محلية تعمل تحت توجيهها، لتحقيق إستراتيجيتها في المنطقة، وأيضًا سعت إلى التمدد الإقليمي في شكل دائرة حولها تشترك فيها الدول التي تهم إيران إيديولوجيًا، وبها قاعدة جماهيرية شيعية كالبحرين ولبنان واليمن والعراق وسوريا.
إن الفكرة السائدة أن الشرق الأوسط كان دائمًا منطقة غير مستقرة، وكلما اتجه نحو الاستقرار نسبيًا، بصورة يمكن معها تصور ملامح نظام أمني إقليمي جديد، يقع انفجار ما بأشكال غير متوقعة
3- فن إدارة الأزمة، نمت هذه القدرة مع توالي الأزمات المعقدة والعميقة التي تواجه النظام الإيراني منذ قيام الثورة، فالظروف التي مرت بها إيران تطلبت خصائص بعينها في المسؤولين عن هذا الملف، وذلك من أجل كسب المزيد من المشروعية والقبول الجماهيري للنظام، بالإضافة إلى وضع مفاهيم ومصطلحات جديدة، وترويجها لمعالجة أزمة الشرعية في الداخل، وتحقيق المصلحة في التعاملات الخارجية، وقد اكتسبت عناصر النظام الإيراني مع الوقت خبرات في فن إدارة المصالح المتعارضة مع الآخرين، وحل الخلافات عن طريق المباحثات الثنائية أو المتعددة الأطراف.
4- صياغة مضمون جديد إقليمي ودولي، إن إيران تعمل على صياغة مضمون إقليمي جديد من وجهة نظر إسلامية، تضع له إستراتيجية جديدة على المستوى الإقليمي، وتعدل بعض سياساتها الإقليمية، لتتناسب مع احتياجاتها السياسية والأمنية في إطار الظروف الجديدة.
إن الفكرة السائدة أن الشرق الأوسط كان دائمًا منطقة غير مستقرة، وكلما اتجه نحو الاستقرار نسبيًا، بصورة يمكن معها تصور ملامح نظام أمني إقليمي جديد، يقع انفجار ما بأشكال غير متوقعة، لتبدأ العملية من جديد، والقضية هذه المرة أن الانفجار الكبير لم يقع بفعل حرب إقليمية كحالة حرب 1967، أو حركة غير تقليدية خارج الصندوق كحالة 1977، أو حادثة دولية كبرى كحالة حرب أفغانستان 2001، أو غزو خارجي كحالة احتلال العراق 2003، وإنما انفجرت المنطقة من الداخل، بفعل سلسلة متتالية من الثورات الشعبية ضد نظم سياسية كحالة مصر وليبيا وسوريا، بما أدى إلى تصدع عدة وحدات إقليمية، مع خلق بيئة إستراتيجية لم يعد من الممكن معها بالنسبة لصانع القرار توقع ما سيجري مستقبلًا، والتوقع بالمناسبة هو جوهر فكرة النظام الجديد.
النسق العقيدي الإيراني لا يفرق بين الولايات المتحدة ودول الخليج العربي، فهو يعتبر أن دول الخليج تمثل أحد الأوتاد الإستراتيجية الرئيسة في نظرية الاحتواء الأمريكي الموجهة ضد إيران
وانطلاقًا من هذه الرؤية يمكن القول إن منطقة الشرق الأوسط تخلو من منظمة أمنية إقليمية شرعية وشاملة لجميع الأطراف الإقليمية، وعلى الرغم من كل الجهود التي بذلت وتبذل في هذا الإطار، فإنها لم تنجح، فجامعة الدول العربية ومبادرة الحوار عبر المتوسط والمبادرة الأمنية التي أطلقها حلف الشمال الأطلسي تحت مسمى منتدى إسطنبول للتعاون، لم تحقق نجاحات تذكر على الصعيد الأمني، بل حتى مجلس التعاون الخليجي يندرج تحت هذا الإطار، ومن كل ما تقدم شجعت هذه الظروف دول المنطقة لوضع تصورات أمنية إقليمية تخدم أهدافها وإستراتيجيتها، ومن هذه الدول إيران، ويتلخص النموذج الأمني الإقليمي الإيراني بالنقاط الآتية:
1- إنشاء نظام أمني تكون إيران قاعدته المركزية.
2- جعل منطقة الخليج العربي والدوائر الجغرافية المحيطة بإيران خالية من الوجود العسكري الدولي.
3- تخفيف معدلات التسلح في الخليج العربي.
4- الإقرار بالنفوذ السياسي الإيراني في الشرق الأوسط وتحديدًا في العراق وسوريا واليمن والبحرين.
5- الاعتراف بحق إيران بامتلاك السلاح النووي أو على الأقل التكنولوجيا النووية.
6- الاعتراف بحق إيران بممارسة أدوار حمائية للأقليات الشيعية الموجودة في دول الإقليم.
7- الاعتراف بحق إيران في امتلاك ترسانة ضخمة من الصواريخ الباليستية غير محددة المدى والتأثير.
كما ينبغي الإشارة إلى أنه بغض النظر عن نوع النظام السياسي الحاكم في إيران، فإن النموذج الأمني الإيراني سيواجه تحديًا كبيرًا بفعل النوايا الإيرانية، ولعل تصاعد معدلات التسلح والميزانيات العسكرية، وتحديدًا من دول الخليج العربية، إلى جانب توسيع قاعدة الشركات الأمنية مع الولايات المتحدة الأمريكية وحلف الشمال الأطلسي، تعزز من هذه الشكوك، وانطلاقًا من الرؤية الإستراتيجية الإيرانية التي توازي بين قيادتها الإقليمية ومقتربات قوتها الشاملة، ستستمر إيران في المطالبة بأن تكون منطقة الخليج العربي خالية من الوجود الأجنبي الأمريكي والأطلسي على حد سواء.
النظام الأمني الذي تسعى إيران إلى بلورته وفق رؤيتها الإستراتيجية في الشرق الأوسط، ينطلق من سعي إيراني لكسر حالة الجمود والعزلة الإقليمية التي تعاني منها
فالنسق العقيدي الإيراني لا يفرق بين الولايات المتحدة ودول الخليج العربي، فهو يعتبر أن دول الخليج تمثل أحد الأوتاد الإستراتيجية الرئيسة في نظرية الاحتواء الأمريكي الموجهة ضد إيران، كما أن الاعتقاد الأمني السائد الآن في إيران أن توجهها نحو تطوير علاقاتها الجيوأمنية مع بعض دول الخليج وتحديدًا (عمان والكويت وقطر)، سيمهد الطريق نحو إحداث شرخ إستراتيجي بين السعودية والولايات المتحدة، من خلال بعثرة الجهود السعودية لترتيب الوضع الأمني في الخليج العربي، باعتبار السعودية اليوم هي ضابط الميزان في النظام الأمني الخليجي، ومنسق إيقاع التحركات والتحالفات العسكرية فيه.
فالنظرة الإيرانية الكلاسيكية حيال التعامل مع دول الخليج العربي فرادى، وليست ضمن مظلة مجلس التعاون الخليج، بدأت تشق طريقها في التفكير الأمني الإيراني من جديد، بعد التصاعد الأمني الأخير في منطقة الخليج العربي.
إن النظام الأمني الذي تسعى إيران إلى بلورته وفق رؤيتها الإستراتيجية في الشرق الأوسط، ينطلق من سعي إيراني لكسر حالة الجمود والعزلة الإقليمية التي تعاني منها، فهي من خلال هذا النظام تسعى إلى طرح نفسها كجزء رئيسي في المعادلة الإقليمية، بصورة تجعل القوة الكبرى والإقليمية لا تستغنى عنها في أي ترتيبات أمنية مستقبلية، فهي تسعى دومًا إلى تأكيد دورها المحوري في ملفات إقليمية عديدة أهمها العراق وسوريا واليمن والبحرين ولبنان، إلى جانب سعيها المتواصل لإقناع دول الخليج العربي بأن مسألة الحفاظ على الاستقرار الأمني في منطقة الخليج، هي مسؤولية تقع على عاتق دوله في المقام الأول وليس القوى الخارجية.
إن مبادرة أمن هرمز للسلام في الخليج العربي التي أعلنها الرئيس الإيراني حسن روحاني قبيل مغادرته للمشاركة في أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها 74، الذي أشار فيها إلى إن إيران ستقدم مشروعًا إلى الأمم المتحدة لضمان الأمن في المنطقة، مضيفًا بأن إيران تأمل بأن يكون الحل من داخل المنطقة وليس من خارجها.
الإدانة الدولية الواسعة التي كشفتها الهجمات الأخيرة التي تعرضت لها المنشآت النفطية السعودية، قد تكون أحد أبرز الأسباب التي تقف وراء المشروع الإيراني الأخير
فالجهود الإيرانية لفرض تصورات وترتيبات أمنية في ضوء حالة الانتشار الأمريكي الكبرى التي تواجهها المنطقة بعد أزمة الناقلات التي اندلعت منذ شهر مايو الماضي، أشارت وبما لا يقبل الشك بأن المنطقة تشهد تصعيدًا عسكريًا غير مسبوق، هذا فضلًا عن أن المحاولات الإيرانية لطرح مبادرات أمنية تأتي في إطار سياسات التمدد المرن التي اعتادت إيران ممارستها في المنطقة، تصعد عسكريًا من جهة، وتتفاوض سياسيًا من جهة أخرى.
إن الإدانة الدولية الواسعة التي كشفتها الهجمات الأخيرة التي تعرضت لها المنشآت النفطية السعودية الأخيرة، قد تكون أحد أبرز الأسباب التي تقف وراء المشروع الإيراني الأخير، وذلك بناءً على رؤية سياسية إيرانية لامتصاص حالة الغضب الدولية المؤقتة، مع قناعة صانع القرار السياسي في إيراني بصعوبة نجاح هذا المسعى الأمني الأخير، فإيران تدرك جيدًا بأن مشروعها الأمني يتطلب بالمرتبة الأولى انسحاب كل القوات الأجنبية المرابطة في منطقة الخليج العربي، كما أنه سيوفر لإيران الدخول بصفة عضو مراقب في مجلس التعاون الخليجي بل وحتى الجامعة العربية، أي أنه مشروع يهدف إلى إنهاء التكتلات الإقليمية المبنية على روابط التاريخ والقومية، وإحلال مكانها منظمات أمنية على غرار حلف شمال الأطلسي، وهو مسعى صعب جدًا تحققه في ضوء الاحتقان الكبير الذي تمر به العلاقات العربية الإيرانية.