لم يعد يخفى نجاح البودكاست كوسيلة إعلام جديدة استطاعت الوصول إلى الجمهور من باب جديد يختلف عما هو عليه الحال في باقي وسائل الإعلام التقليدية. عبر طرح مواضيع مختلفة ومتخصصة ومناقشة القضايا الحساسة أحيانًا، بالإضافة إلى عدم اتباعه لقوانين ومعايير تحدّ من سعة طرحه، أعطى البودكاست فرصة للمستمع للتخصيص واختيار ما يريد سماعه في أيّ وقت، وشكل الأمر الذي جعل من البودكاست وسيلة تعلّم أو تثقيف أو حتى ترفيه مناسبة ومفضلة لدى الكثيرين.
رغم اعتماده على الصوت أيضًا، إلا أن البودكاست يختلف في طريقته عن باقي أشكال الإعلام المسموع، بدايةً من تغييره قوانين التقديم والإعداد المعتادة وليس نهاية بتغييره موازين القوى وتغيير دفة التحكم الطبقي إلى تشاركية تتيح للمتلقي النقد والتقييم.
بين الراديو والبودكاست
يصعب شرح البودكاست لشخص لم يسمع عنه سابقًا لأنه وببساطة لا يوجد منصة أخرى تشبه فكرته فهو ليس راديو ولا تلفزيون، فهو يمتلك أدواته الخاصة التي تعطيه شكلًا يختلف ويتغير كل حلقة أو برنامج. من بينها قدرة المستمع على الاستماع إلى ما يريده في أيّ وقت وهو ما أبرز ما يتميز به عن الراديو الذي يتطلب تخصيص وقت للحصول على المعلومة.
بالإضافة إلى إمكانية تحميل الحلقات والاستماع إليها خارج نطاق زمني محدد تفرضه المنصة أو القناة أو دون إنترنت حتى، الأمر الذي يعطي المستمع حرية اتخاذ القرار في الشكل الذي سيبدأ به بمتابعة البرنامج من خلال القدرة على تنزيل الحلقات والاستماع إليها حتى في وضع الـ “offline” وسهولة وصول واستخدام كإمكانية إيقاف الحلقة وإكمالها في وقت آخر.
أما فيما تختلف فيه القنوات الإذاعية وبرامج البث الرقمية، فهي وجود خيارات وتسهيلات أكثر تبقي المستمع على صلة مستمرة مع برنامجه المفضل، فيتابع وقت نشر الحلقات من خلال الاشتراك في التنبيهات للحلقات الجديدة، وعرض وصف للحلقة (show note)، وغيرها من المزايا التي تجعل الاستماع لبرامج البودكاست أفضل.
لا يحتاج مقدم البودكاست لأن يكون صحافيًا أو مذيعًا محترفًا كي يكون قادرًا على تقديم محتوى مسموع أو أن يشكّل جمهورًا خاصًا به
كما يمكن الإشارة إلى نقطة في غاية الأهمية وهي غياب القوانين أو القواعد التي تعطي كل برنامج بودكاست شكلًا واحدًا نمطيًّا. وهنا تقول سارة كوينيج، صحفية ومقدمة سلسلة “Serial”، وهو بودكاست استقصائي أمريكي يبحث في قصص اختفاء وجرائم قتل متعمدة، أنها عندما بدأت العمل على برنامجها في البودكاست لم تكن تعرف شيئًا عن البث الإذاعي أو كيفية إعداد المحتوى، إلا أنها دائمًا ما تعمل بطريقة جديدة وبدون قيود أو قواعد وأنه كلما قلّ عدد القواعد التي تطبقها، سيأخذ البودكاست شكله الحرّ والبعيد عن الراديو لهذا ترفض تمامًا حين يقال “إن البودكاست هو الراديو” فهذه الجملة تجلب معها تصورات خاطئة عن ماهية هذه المنصة.
ومن ناحية أخرى فلا يحتاج مقدم البودكاست لأن يكون صحافيًا أو مذيعًا محترفًا كي يكون قادرًا على تقديم محتوى مسموع أو أن يشكّل جمهورًا خاصًا به، فيمكن لأيّ شخصي عادي يرغب بتقديم محتوى معين إنشاء قناة خاصة به والبدء بتسجيل مقاطع صوتية بالشكل الذي يريده وبأقل التكاليف المادية وهو بالطبع ما يجعل من البودكاست وسيلة إعلام من وإلى الجمهور.
أما المحتوى فهو بالنسبة للبودكاست مهم ورئيسي ويعتبر نقطة التركيز الأولى، عكس الوسائط الأخرى التي تهتم بطريقة التقديم والصورة بكافة عناصرها وسائل الإيصال وجودة التقنية وطرق الجذب وشد الانتباه. في حالة البودكاست فإن وسيلة شد الانتباه الأهم هي المحتوى، تأتي بعد ذلك الاعتبارات التقنية والفنية الأخرى مثل صوت مقدم البودكاست من حيث شخصيته ومهاراته وقدرته على شد الانتباه، إضافة لجودة الموسيقى والتمريرات الصوتية داخله وغيرها.
وفي شكل البودكاست الحالي يأتي المستمع من تلقاء نفسه ليقرر الاستماع إلى محتوى يلبي رغبته واحتياجاته على عكس الراديو الذي يفرض أجندته ومحتواه الخاص.
مكانة البودكاست في الصحافة
اقتحمت رقمنة الصحافة الورقية، من خلال استثمار صحف ورقية عريقة بمبالغ ضخمة في بناء وتطوير مواقع إلكترونية، لمواكبة سباق الصحافة الإلكترونية، ببث الأخبار المصورة، الساحة. لكن الآن ينضم لاعب جديد للسباق الإعلامي الواسع، وهو قادر على تغيير المعادلة وفرض مكانته، إذ انتقل “البودكاست”، من مجرد خيار استغنت عنه الكثير من الصحف، إلى منافس يستقطب نسب عالية وشرائح واسعة من الجماهير.
إلا أنه في عالمنا العربي لا يزال يتلمس طريقه، إذ يمثل المحتوى الناطق باللغة الإنجليزية أكثر من 90% من البرامج المنتجة عالميًا، ويزيد من صعوبة انتشاره تلك السيطرة للصورة ووسائل التواصل الاجتماعي المرئية على الساحة عندنا، إضافة إلى العوائق المتعلقة بالتمويل وإيجاد رعاة للبرامج التي غالبًا ما تصدر بالجهود الذاتية.
إلا أن مجيء البودكاست خصيصًا بمساحات حرية أوسع وطرح مواضيع أعمق تواجه الصحافة التقليدية في طرحها عادًة تضييقات تجبرها على التراجع أو التخلي، كان له أثره الإيجابي في نواحٍ أخرى
على الرغم من ذلك، بدأت منصات عربية محدودة في الظهور مثل “صوت”، و”البودكاست العربي” إلا أنه وبشكل عام يوجد سبب رئيسي كان له التأثير الأكبر في دخول البودكاست، والصحافة الرقمية ككل، إلى الصحافة والحلّ مكانها وهو أسلوب الحياة الحالي والعيش في صراع دائم مع الوقت والمحاولة للحاق بالتطور المتسارع، الأمر الذي يدفع بالمستهلك إلى البحث عن المعرفة أو الإبقاء على متابعة الأخبار بشكل سريع ومنخفض التكلفة وهذا ما سهّل نشأة الوسائط الإعلامية الجديدة.
إلا أن مجيء البودكاست خصيصًا بمساحات حرية أوسع وطرح مواضيع أعمق تواجه الصحافة التقليدية في طرحها عادًة تضييقات تجبرها على التراجع أو التخلي، كان له أثره الإيجابي في نواحٍ أخرى كعدم قدرة السلطات أو الحكومات في السيطرة أو التضييق عليه وفرض أجندتها الخاصة، إذ يتمتع صاحب البودكاست بحرية أكبر في قول ما يريد ونشره على نطاق واسع محققًا وصولًا كبيرًا.
كما كان لإعطاء البودكاست القدرة لأيّ أحد على صناعة محتوى ومنافسة كبار المنصات والموقع الإعلامية تغيير في موازين القوى ومفهوم السلطة فبينما كان الإعلام بأشكاله التقليدية ذو نظام طبقي فيما يتعلق بتحديد المادة المنتجة وفرض طريقة تقديم ذات اتجاه واحد بات المتلقي الآن مشاركًا فعالًا وحيويًا في اختيار واستهلاك وسائل الإعلام المختلفة والمحتوى المناسب له، بالتالي بات الحدّ الفاصل بين منتج المادة الإعلامية والمستخدم غير قابل للتحكم أو السيطرة.
نهايًة يتوجب القول إن الحاجة إلى الصحافة لا تزال قائمة ومهمة، إلا أن الإلحاح على تطويرها يزداد في الوقت الذي باتت فيه التقنيات الحديثة متاحة ومتوفرة، بحيث تستعيد دورها مصدرًا حرًا للإعلام إلى جانب استمرار البودكاست كوسيلة لها جمهورها وطريقتها الخاصة سواء على صعيد الإعلام أو التدوين.