ترجمة وتحرير: نون بوست
في سنة 2003، بثت هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي” وثائقيًا حول البرنامج النووي الإسرائيلي بعنوان “السلاح السري لإسرائيل“، وقد أثار ذلك غضب المسؤولين الإسرائيليين، الذين ردوا بحظر ظهور مسؤوليهم على شاشة الـ”بي بي سي”.
كان الوثائقي دقيقًا للغاية، فقد شعرت “إسرائيل” بالحرج من كشف ترسانتها النووية في وقت كان يتم فيه غزو العراق بحثًا عن أسلحة دمار شامل غير موجودة.
وسألتُ مسؤولًا بارزًا في “بي بي سي” آنذاك عن تطور العلاقات مع “إسرائيل”، فجاء رده، دون اكتراث واضح بالتصرفات الإسرائيلية: “بالنسبة لدولة تسعى للتأثير على التغطية الإخبارية، فإن مقاطعتنا تبدو طريقة غريبة لتحقيق ذلك”.
ولم ترضخ “بي بي سي”، واضطرت “إسرائيل” إلى إنهاء مقاطعتها.
وبعد خمسة وعشرين سنة، فقدت “بي بي سي” أي قدر من الشجاعة تجاه إسرائيل. ففي الأسبوع الماضي، سحبت فيلمًا وثائقيًا بعنوان “غزة: كيف تنجو من منطقة حرب” من منصتها للبث عبر الإنترنت. وصرحت المؤسسة بأنها ستجري “مراجعة دقيقة” قبل السماح بإعادة عرضه.
كان الفيلم الوثائقي قدم على مدى تسعة أشهر تصويرًا لحياة غزة تحت الحصار من خلال عيون وتجارب الأطفال الفلسطينيين.
كان الاعتراض الرئيسي هو أن عبد الله، الطفل الراوي الأساسي في الوثائقي، هو نجل أيمن اليازوري، نائب وزير الزراعة في حكومة غزة التي تديرها حماس. ورغم أن “بي بي سي” عدّلت البرنامج للإشارة إلى هذه المعلومة، ولكن بعد ذلك أدت الاتهامات المتزايدة في النهاية إلى سحبه.
مشجعو الإبادة الجماعية
كان الهجوم هائلًا ويبدو أنه منظم بعناية، فلقد استهدفت الجموع المناهضون للفلسطينيين الرُسل بدلًا من الرسالة نفسها، وهي تكتيك متقن.
لقد أظهر كل من انتقدوا هذا الفيلم الوثائقي عدم اهتمام يُذكر بحياة الفلسطينيين وحقوقهم. بل إن كثيرين منهم كانوا من المشجعين لإبادة إسرائيل في غزة، بمن فيهم السفيرة الإسرائيلية، ممثلة الدولة التي أغلقت البث المحلي لقناة الجزيرة وتتحمل مسؤولية مقتل ما لا يقل عن 170 صحفيًا وعاملًا في مجال الإعلام منذ اندلاع الحرب على غزة في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023.
من الصعب العثور على دعاية أكثر سخافة من السفيرة تسيبي هوتوفيلي. فقد ادّعت أنه لا توجد أزمة إنسانية في غزة، رغم أنها كانت تحت الحصار منذ سنوات طويلة، وليس فقط آخر 500 يوم.
يبقى التساؤل قائمًا حول عدد الذين شاهدوا الفيلم الوثائقي قبل سحبه، فقد كان بعيدًا كل البعد عن كونه أداة دعائية لأي طرف. فلم يكن مؤيدًا لحماس ولا معاديًا لإسرائيل بأي شكل، إلا إذا كنت ممن يعتقدون أن إضفاء الطابع الإنساني على الأطفال الفلسطينيين يعد جريمة. في الواقع؛ لم يكن وثائقيًا سياسيًا على الإطلاق.
كان انتقاد حماس من قبل الفلسطينيين في غزة أمرًا متكررًا. فخلال الدقائق الأولى، صرخت امرأة فلسطينية قائلة: “لعنك الله يا [يحيى] السنوار“، في إشارة إلى زعيم حماس الراحل. كما بكى رجل فلسطيني قائلًا: “قتلوا أطفالنا، قتلوا نساءنا، بينما السنوار مختبئ تحت الأرض”.
وتذكرت امرأة فلسطينية كيف احتفل الناس في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، لكنها اعترفت قائلة: “لو كنا نعلم أن هذا سيحدث لنا، لما احتفل أحد”. أما زكريا، أحد الأطفال الرواة البالغ من العمر 11 سنة، فقد ألقى باللوم على حماس قائلًا: “هم من تسببوا في كل هذه المعاناة”.
كان الفيلم الوثائقي من عيار الحائز على جوائز، وهو ما انعكس في المراجعات الممتازة في صحيفة الغارديان، التي أعطته خمس نجوم، وصحيفة التايمز، التي وصفته بأنه “استثنائي”. حتى صحيفة التلغراف أعطته أربع نجوم، فيجب أن يكون جوهرة تاج في النظام الوثائقي لهيئة الإذاعة البريطانية.
كان الوثائقي بمستوى يستحق الجوائز، وهو ما انعكس في المراجعات الممتازة التي حصل عليها. فقد منحته “الغارديان” خمس نجوم، ووصفته صحيفة “التايمز” بـ”الاستثنائي”، وحتى “التلغراف” منحته أربع نجوم. وكان ينبغي أن يكون جوهرة التاج في منظومة الوثائقيات التابعة لـ “بي بي سي”.
الراوي، عبد الله اليازوري البالغ من العمر 13 سنة، هو فرد مستقل عبّر عن قصته الخاصة، وتجاربه اليومية وشهادته حقيقية، ولا ينبغي أن يهم من هو والده.
ومع ذلك، فإن والده مجرد تكنوقراط في غزة، حيث يشغل منصب نائب وزير الزراعة، ولا يعتبر من قيادات الصف الأول في حماس، سواء السياسية أو العسكرية؛ حيث تُصنَّف حماس كمنظمة إرهابية محظورة في بريطانيا.
التدخل الحكومي
ويبقى التساؤل عمّا إذا كانت “بي بي سي” قد تواصلت مع الأطفال أصلًا. فقد كانوا يعتقدون أن قصتهم ستُعرض، لكنهم الآن لا بد أنهم يتساءلون عمّا أخطأوا فيه، ولماذا أصبحوا ضحايا لهذا الهجوم الشرس.
لا بد من طرح تساؤلات جدية حول سبب تدخل الحكومة البريطانية. فقد أدلت وزيرة الثقافة ليزا ناندي بدلوها، حيث صرحت أنها ستناقش الفيلم الوثائقي مع كبار مسؤولي “بي بي سي”.
إن هذا يهدد استقلالية “بي بي سي” ويحمل في طياته تلميحًا عن تدخل الحكومة في وسائل الإعلام. وكان على ناندي أن تترك الأمر لإدارة “بي بي سي” لمراجعته. ويكشف ذلك مدى ارتباط حكومة حزب العمال الحالية بإسرائيل. وبالنظر إلى تواطؤ الحكومة في جرائم الحرب الإسرائيلية، فإن هذا يعني وجود تضارب في المصالح.
ولكن كيف سترد “بي بي سي”؟ ينبغي لها أن ترفض أي تدخل من هذا القبيل من جانب الحكومة البريطانية أو السفيرة الإسرائيلية.
من شبه المؤكد أنها لن تفعل ذلك، فقد كانت تغطيتها للإبادة الجماعية التي ارتكبتها إسرائيل في غزة خلال الأشهر الستة عشر الماضية كارثية. ففي نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، وقع أكثر من 100 من موظفي “بي بي سي”، بمن فيهم صحفيون بارزون، على رسالة موجهة إلى قيادة المؤسسة ينتقدون فيها التغطية، وجاء فيها: “لقد كانت المبادئ الصحفية الأساسية غائبة عندما يتعلق الأمر بمحاسبة إسرائيل على أفعالها”.
وإذا ذكر أي ضيف في مقابلة مصطلح الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل، يسارع مقدمو البرامج في “بي بي سي” إلى ترديد الموقف الإسرائيلي، حيث قال أحدهم ذات مرة: “أنت تعرف ما سأقوله، سأقول إن إسرائيل تنفي ذلك”.
المعايير المزدوجة
في بيان لها، قالت “بي بي سي”: “منذ بث فيلمنا الوثائقي عن غزة، أصبحت بي بي سي على علم بالروابط العائلية للراوي، وهو طفل يُدعى عبد الله”.
وأضافت: “لقد وعدنا جمهورنا بأعلى معايير الشفافية، ولذلك فمن الصواب أنه بناءً على هذه المعلومات الجديدة، سنضيف بعض التفاصيل الإضافية إلى الفيلم قبل إعادة بثه. نعتذر عن إغفال تلك التفاصيل في النسخة الأصلية من الفيلم”.
وتابعت المؤسسة قائلة: “لا يزال الفيلم يقدم رؤية قوية من منظور الأطفال حول العواقب المدمرة للحرب في غزة، ونعتقد أنه شهادة لا تقدر بثمن على تجاربهم. لذا، يجب علينا الوفاء بالتزامنا بالشفافية”.
قارن هذا الضعف الذي أظهرته “بي بي سي” عند التعامل مع إسرائيل بردّها على الجدل الذي أثاره وثائقي سنة 2023 بعنوان “الهند: سؤال مودي”. فقد استشاطت السلطات الهندية غضبًا من التحقيق في دور رئيس الوزراء ناريندرا مودي في أعمال الشغب المناهضة للمسلمين في ولاية غوجارات سنة 2002، وحظرت الفيلم في الهند، بل وحاولت مقاضاة “بي بي سي” أمام المحكمة العليا في دلهي. وعلى النقيض، لم تتراجع “بي بي سي” كما فعلت مع “إسرائيل”.
وتُعد “بي بي سي” قصة نجاح استثنائية معروفة عالميًا، وقد بُنيت هذه السمعة على صحافة من الطراز الأول والالتزام بالحياد. ولا يزال العديد من صحفييها متميزين، لكن المستويات العليا من إدارتها أخفقت في تغطية الشبكة لما يجري في غزة، حيث بدت أكثر حرصًا على إرضاء المنتقدين المعادين للفلسطينيين بدلاً من الدفاع عن الصحافة المتميزة.
هل كانت تفكر “بي بي سي”، ولو للحظة، في إلغاء فيلم وثائقي لأن الراوي أو المصور فيه قريب لمستوطن إسرائيلي، أو جندي ربما ارتكب جرائم حرب في غزة، أو سياسي متورط في التحريض على تلك الجرائم – بل حتى على الإبادة الجماعية؟
المصدر: ميدل إيست آي