ترجمة حفصة جودة
لقد مرّ ما يقرب من عام ونصف منذ أن شن المشير خليفة حفتر حربًا طاحنة على العاصمة الليبية طرابلس، تلك المعركة – التي تعد الأخيرة في سلسلة من الصراعات الوحشية منذ ثورة 2011 التي أطاحت بالديكتاتور معمر القذافي – كان لها تأثير نفسي مثير للقلق على شباب البلاد.
بالنسبة لفتاة قلقة في العشرين من عمرها أصيبت بالذعر الشديد من العنف الدائر حول منزلها الواقع في منطقة الصراع، كان الحل أن تقتل نفسها بزجاجة مهدئات، يقول الطبيب محمد الجيلي من العيادة الميدانية للخطوط الأمامية: “لقد رفضت أسرتها أن تترك المنزل لذا حاولت الانتحار، كان علينا تنظيف معدتها وإرسالها مباشرة للمستشفى”.
بالنسبة للشباب في العشرينيات فإن الذهاب إلى الجامعة والبحث عن وظيفة والتواصل مع أصدقائهم يعد فترة راحة مرغوبة قبل أن يحملوا على عاتقهم توقعات المجتمع المحافظ بالعثور على وظيفة والزواج وإنجاب أطفال.
لكن العديد من شباب هذا الجيل الذي اختبر في طفولته الإطاحة العنيفة بنظام القذافي والفوضى غير الآمنة لحكم الميليشيات، يتشاركون قلقًا عميقًا بشكل الأحداث اليومية والمستقبل، لقد تسبب العنف المسلح الدائم والفساد الذي أثرى طبقة قليلة من المجتمع بينما ترك البقية في الفقر والحكومة غير الملائمة والخدمات المعطلة والتهجير، في تغذية حاجة نفسية شائعة بالرغبة في الانعزال عن الواقع.
انسحاب الميليشيات
تسببت حرب طرابلس في نزوح 120 ألف مدني بما في ذلك المدنيين والشباب الذين اختاروا حمل السلاح والقتال وأصبحوا جرحى الآن أو موتى، وكانت الطائرات الأجنبية تقصف مطار معيتيقة وأهدافًا عسكرية في ضواحي طرابلس الجنوبية بشكل يومي.
بعد تقييم النظام التعليمي أدركنا أننا لا نستطيع إصلاح وتحسين الأشياء، إننا بحاجة لإصلاح شامل يبدأ بالبنية التحتية والمناهج والمدرسين
في جامعة طرابلس قسم الاقتصاد، يواجه البروفيسور محمود أحمد دنف تحديات يومية بسبب الصراع، فقد انخفض عدد طلابه إلى 20%، حيث شارك بعضهم في القتال وتم تهجير البعض من منازلهم وفرار آخرين من البلاد.
يقول دنف إن السكن الجامعي تحول إلى منازل للأسر النازحة، بينما توجه الطلاب المجتهدين للبحث عن سكن آخر، حيث يسكن بعضهم بغرف الفنادق القريبة من الجامعة في فترة الامتحانات النهائية.
لكن غياب الطلاب ليس المشكلة الوحيدة التي تواجهها الجامعة، فالمدرسون يتلقون أجورًا ضعيفة وغالبًا ما يتأخر الراتب، كما أن اتحاد المعلمين ضعيف، وهناك انقطاع في الكهرباء ونقص في الإنترنت وتعذر الوصول إلى المكتبة الإلكترونية بينما تفتقر غرف الدراسة إلى الأثاث والسبورات والأبواب، وهناك حوادث مثل رفع طالب سلاحه على معلمه للحصول على درجات أفضل.
يقول دنف: “ما يدمرني هو هؤلاء الشباب، أرى كثيرًا منهم رجالًا صالحين لكن عقولهم فارغة، إننا نحاول سحبهم من الشوارع والميليشيات، لكن بعضهم أصبح يملك النقود والمال الذي يفتح لهم الأبواب المغلقة، إننا نحاول إقناعهم ببناء مستقبلهم بدلًا من ذلك”.
يقول يوسف مبروك رئيس اتحاد الطلاب في قسم الاقتصاد – 22 عامًا -: “بفضل الله أنهينا هذا الفصل الدراسي”، كان مبروك قد قضى الأشهر الماضية في تشجيع الطلاب على الدراسة رغم أنه أصبح بلا مأوى بسبب الحرب، يتطلع مبروك للعمل كمصرفي لذا يرغب في الدراسة والعمل في الخارج.
أما عماد بادي باحث غير مقيم في معهد دراسات الشرق الأوسط فيقول: “معظم الأشخاص الذين أعرفهم ليسوا متفائلين بشأن المستقبل، والذين يخططون للبقاء في ليبيا لفترة طويلة أصبحوا قلة، إلا من لا يستطيعون الرحيل رغمًا عن إرادتهم، أما الجيل الأصغر فلا يود البقاء بسبب انعدام المسقبل”.
لكن عثمان محمد وزير التعليم لديه خطط طموح حيث يقول: “بعد تقييم النظام التعليمي أدركنا أننا لا نستطيع إصلاح وتحسين الأشياء، إننا بحاجة لإصلاح شامل يبدأ بالبنية التحتية والمناهج والمدرسين”.
لكن هذه الأهداف خفتت الآن بسبب الحرب ودور محمد كنائب في لجنة الأزمات التابعة لحكومة الوفاق الوطني التي تدير توفير الكهرباء والمياه والخدمات الصحية وإسكان النازحين، يقول محمد: “إنه كابوس، نحن مثل رجال الأطفاء الذين يقفزون من أزمة إلى أخرى”.
طالبة في جامعة طرابلس حيث تنقطع الكهرباء وتتعطل خدمات الإنترنت وتفتقر قاعات الدراسة للأثاث
لكن الأزمة قد تتضاعف حتى لو رحل حفتر من طرابلس، حيث يتوقع العديد من الليبيين أن هزيمته ستؤدي إلى صراع بين الجماعات المسلحة بشأن الغنائم في العاصمة، يقول وولفرام لاشر باحث في المعهد الألماني للشؤون الأمنية والدولية: “من الواضح أن التحالف المناهض لحفتر سوف يبقى لفترة طويلة، حيث إنهم يواجهون تهديدًا مشتركًا من قوات حفتر على أبواب طرابلس، عندما يتلاشى الخطر سوف يتفكك هذا التحالف”.
مدمرون نفسيًا
في أحد مقاهي المدينة يقول مقاتل سابق – 25 عامًا – إنه ترك القتال منذ 5 سنوات لكنه ما زال على اتصال وثيق بأصدقاء في الخطوط الأمامية، يرى هذا المقاتل أن جيل الشباب مدمر نفسيًا، ويقول إن المسلحين يقتحمون الصيدليات للحصول على الترامادول لتسكين الألم والحصول على النشوة، يوجد الكوكايين حولهم لكنه باهظ الثمن، أما الأكثر شيوعًا فهو تدخين الحشيش وتناول الحكول المصنع منزليًا.
ويتابع قائلًا: “إنهم لا يفهمون ما الذي تعنيه قواعد الأسرة والشارع، ولا يهتمون باحترام الآخرين، ويحصلون على قدوتهم من ألعاب الفيديو مثل بابجي “PUBG” حيث تقتل الفرق المختلفة بعضها البعض ثم يطبقون ذلك في ساحة المعركة الحقيقية”.
مع تشديد الحدود بين المغرب وإسبانيا والصراع الدائر في ليبيا ازدهرت تجارة المخدرات هنا، تدير قوات الردع الخاصة – وهي ميليشيا سلفية – مركزًا عالي التأمين على أرض مطار معيتيقة، فتعتقل دون محاكمة تجار المخدرات والمدمنين، حيث تخضعهم لبرنامج تعافي يتضمن التدريب على بعض المهن مثل النجارة، يشيد بعض سكان طرابلس بهذا البرنامج المثير للجدل الذي يتعرض فيه السجناء لسوء المعاملة أحيانًا، لكن من الصعب تقييمه.
يعد الصراع المزمن ونقص الوظائف والمال والخدمات والنزوح والعنف المنزلي من بين أسباب الاكتئاب وانعدام الأمان
مكان آمن
مع استمرار الصراع أصبح الحصول على خدمات نفسية يلقى قبولًا واسعًا في ثقافة يعد فيها المرض النفسي وصمة عار، يقول أنور فرج الله طبيب نفسي منذ الثمانينيات إن الشرطة كانت تحيل إليه قضايا جنائية في مستشفى الرازي للأمراض النفسية، ويضيف: “حاول العديد من المرضى كسر باب العزيزية في مجمع القذافي، وقد أراد بعضهم قتله بينما اعتقد آخرون أنه نبي”.
والآن يشكل الشباب في العشرينيات معظم مرضى فرج الله رغم وجود أمهات وجدات بين المرضى، ويعد الصراع المزمن ونقص الوظائف والمال والخدمات والنزوح والعنف المنزلي من بين أسباب الاكتئاب وانعدام الأمان.
كان أحد المرضى قد عولج بنجاح من اضطراب نفسي عام، لكن فريق العيادة قال إنه بعد خروجه من المستشفى تعرض للاختطاف من مجرمين في حي أبو سليم وتعرض للتعذيب للحصول على فدية، تقول دكتورة خواطر غنيمي – التي تعمل في عيادة دكتور فرج الله – إن الرجل تعرض للإساءة الجنسية والحرق بأعقاب السجائر والتجويع وعند إطلاق سراحه عاد إلينا لأننا مكان آمن.
يرغب محمد – رجل أعمال 31 عامًا – في مغادرة ليبيا والانضمام إلى شقيقه وشقيقته اللذين يعملان في ألمانيا، ويقول إنه يعاني من ارتفاع ضغط الدم مثل شقيقته الصغرى التي ماتت نتيجة أزمة قلبية بعمر 21 عامًا.
يتحدث محمد عن تلك الليلة الذي أقام فيها حفلة مع 15 صديقًا في مزرعة بضواحي طرابلس عندما هاجمهم مسلحون ملثمون وأجبروهم على الاستلقاء على الأرضى وادعوا أنهم سيقومون بإعدامهم، ثم سرقوا منهم هواتفهم المحمولة وأجهزة الكمبيوتر ومفاتيح السيارات، يقول محمد: “ثم حدثت المعجزة، فقد وصل رجل يقود سيارة بيضاء لاند كروزر وجلس بجوارنا وقال لقد كنتم أشخاصًا محترمين وأن رجاله لم يقصدوا معاملتنا هكذا، ثم أمرهم بإعادة كل ما أخذوه منا، لقد نجونا بمعجزة لا تصدق”.
عاد محمد للبيت وأغلق غرفته عليه بقلق بالغ، ولم يتحدث عن هذا الهجوم مع أي من أصدقائه أو أسرته، لكنه يشعر الآن أنه لا يستطيع البقاء في ليبيا أكثر من ذلك، يقول محمد: “للأسف لقد وصلت ليبيا إلى نهاية مسدودة، فالميليشيات باقية هنا إلى يوم القيامة، أتمنى الخير لبلادي لكن ذلك لا يعني أن الأشياء السيئة لن تحدث”.
المصدر: ميدل إيست آي