يشهد شمال الضفة الغربية تطورًا عسكريًا غير مسبوق منذ أكثر من عقدين، حيث قرر جيش الاحتلال الإسرائيلي إعادة زجّ الدبابات في عملياته العسكرية ضد مخيمات اللاجئين، في خطوة تحمل أبعادًا تتجاوز ما أُعلن عنه رسميًا.
عودة مشهد الدبابات إلى شوارع الضفة الغربية بعد أكثر من 23 عامًا لم تكن مجرد ردّ فعل على التطورات الأمنية، بل تمثل خطوة عدوانية تندرج ضمن مشروع أوسع تسعى الحكومة الإسرائيلية اليمينية إلى تنفيذه، يقوم على تفكيك المخيمات الفلسطينية، وتوسيع الهيمنة الإسرائيلية، وخلق بيئة تدفع نحو التهجير القسري.
هذه الخطوة تأتي كحلقة جديدة ضمن سلسلة من الإجراءات المتسلسلة، التي تهدف في محصلتها إلى فرض واقع يُمهد لضم الضفة الغربية، ويهيئ البيئة لتنفيذ استراتيجية “حسم الصراع” وفق الرؤية الإسرائيلية، عبر تفكيك بؤر المقاومة، وإعادة هندسة المشهد الديموغرافي، وتقويض أي إمكانية لقيام كيان فلسطيني مستقل.
عودة غير مسبوقة منذ 23 عامًا
دفع جيش الاحتلال الإسرائيلي بدباباته إلى شمال الضفة الغربية، حيث شوهدت لأول مرة على أطراف مدينة جنين ومحيط مخيمها في 21 فبراير/شباط 2025، في سياق تصعيده العسكري المتواصل منذ يناير/كانون الثاني الماضي، إذ وسّعت “إسرائيل” عملياتها شمال الضفة، لا سيما في جنين وطولكرم ونابلس، وصولًا إلى طوباس.
بحسب وسائل إعلام إسرائيلية، فإن الدبابات التي دخلت الضفة الغربية تنتمي إلى طراز “ميركافا 4″، التابعة للواء المدرع 188 في الجيش الإسرائيلي، وتُعرف هذه الدبابة بتطور أنظمتها الدفاعية، حيث تمتلك دروعًا تفاعلية لحمايتها من المقذوفات المضادة للدروع، فضلًا عن أنظمة رصد واستهداف متقدمة، تتجاوز الحاجة العملياتية الفعلية لأي اشتباك داخل المناطق الفلسطينية المكتظة.
وفقًا لتصريحات جيش الاحتلال الإسرائيلي، فإن الهدف المعلن من نشر الدبابات هو تعزيز العمليات العسكرية في جنين ومحيطها، والتصدي للمجموعات المسلحة التي تنشط في المخيم، كما يُروَّج لهذه الخطوة باعتبارها جزءًا من استراتيجية “رفع مستوى الردع وضمان السيطرة الأمنية”.
لكن التحليلات الميدانية تشير إلى أن هذا الإجراء يتجاوز البعد الأمني المباشر، إذ يسعى الاحتلال إلى إعادة فرض معادلة القوة في شمال الضفة باستخدام سلاح ثقيل، لإخضاع المخيمات والبلدات الفلسطينية، وإرسال رسالة بأن الجيش الإسرائيلي مستعد لتوسيع دائرة العنف إذا تطلب الأمر.
منذ أشهر، يعمل جيش الاحتلال الإسرائيلي على فرض وقائع جغرافية جديدة، عبر استكمال مشروع تفكيك المخيمات وتحويلها إلى مناطق يسهل ضبطها عسكريًا وأمنيًا. نموذج ذلك كان في مخيمي نور شمس وطولكرم، حيث أدى الاجتياح الإسرائيلي إلى تهجير الآلاف وتدمير البنية التحتية بالكامل تقريبًا.
بالتوازي، تسعى الحكومة الإسرائيلية إلى إبقاء الجيش في الضفة لفترة طويلة، وهو ما أكده وزير الحرب الإسرائيلي يسرائيل كاتس، عندما صرّح بأن “القوات ستبقى في المخيمات حتى العام المقبل على الأقل”، في مؤشر على نية إسرائيل تحويل بعض هذه المناطق إلى مواقع عسكرية دائمة.
لم تقتصر التعزيزات الإسرائيلية على نشر الدبابات، بل سبقتها عمليات انتشار واسعة للوحدات الخاصة، مثل لواء ناحال، الذي يقود العمليات العسكرية في محيط جنين، ووحدة دوفدفان، المتخصصة في الاغتيالات والعمليات الخاصة داخل المناطق الفلسطينية، إضافة لسلاح الهندسة العسكري، الذي نفذ عمليات تجريف واسعة للشوارع والمنازل في أحياء مخيم جنين ومخيمات طولكرم.
علاوة على ذلك، عزّز الاحتلال استخدام القوة الجوية، حيث كثّفت الطائرات المسيّرة عمليات الرصد والاستهداف الجوي في محيط المخيمات، وتشير تقارير عبرية إلى أن القيادة العسكرية تدرس إمكانية استخدام الطائرات الحربية في الضفة الغربية، في حال تصاعدت العمليات ضد قواتها، ما يعني أن التصعيد الحالي قد يكون تمهيدًا لمستويات أكثر خطورة من المواجهة العسكرية.
الدوفدفان.. وحدة المستعربين الإسرائيلية التي تندسّ بين الفلسطينيين لقتلهم
من “السور الواقي” إلى “السور الحديدي”
آخر مرة دفع فيها الاحتلال الإسرائيلي دباباته إلى الضفة الغربية كانت خلال عملية “السور الواقي” عام 2002، حين اجتاحت القوات الإسرائيلية المدن الفلسطينية الرئيسية، وعلى رأسها جنين ورام الله ونابلس، بهدف تفكيك البنية التحتية للمقاومة الفلسطينية.
آنذاك، شكّلت الدبابات والمدرعات جزءًا أساسيًا من عمليات الاقتحام، حيث فرض الاحتلال حصارًا مشددًا على المقرات الأمنية الفلسطينية، وعزل الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات في مقره بالمقاطعة.
لكن منذ انتهاء الانتفاضة الثانية، تراجع استخدام الدبابات في الضفة الغربية لعدة أسباب: أولًا: بناء جدار الفصل العنصري، الذي مكّن الاحتلال من فرض سيطرة أمنية واسعة وتقليل الحاجة إلى عمليات عسكرية ثقيلة داخل المدن الفلسطينية.
ثانيًا: تبني “إسرائيل” استراتيجيات جديدة قائمة على “تقليص الصراع“، والاعتماد على العمليات الخاصة باستخدام وحدات نخبوية مثل دوفدوفان ويمام، بدلًا من اجتياحات برية واسعة.
ثالثًا: الخوف من تصعيد ميداني واسع، حيث كانت تقديرات الاحتلال أن العمليات العسكرية الكبيرة قد تدفع شرائح أكبر من الشباب الفلسطيني إلى الالتحاق بالمجموعات المسلحة، وهو ما كان يسعى إلى منعه عبر سياسة الاغتيالات والاستهدافات الدقيقة.
لكن اليوم، مع عودة الدبابات إلى جنين ضمن عملية “السور الحديدي“، لا يمكن تجاهل محاولة الربط والتشابه في الاسم والمضمون مع “السور الواقي”، إذ يبدو أن الاحتلال يسعى إلى إعادة تشكيل قواعد الاشتباك في الضفة الغربية، مستغلًا الزخم العدواني الكبير الذي أحدثته حرب الإبادة في قطاع غزة، وحالة التخدير السياسي والإعلامي في الرأي العام العالمي.
استنادًا إلى المعطيات الميدانية، بات واضحًا أن العمليات الحالية تتجاوز فكرة المداهمات المحدودة، حيث أصبحت أقرب إلى استراتيجية فرض الأمر الواقع، من خلال إعادة هندسة المشهد الأمني والجغرافي للمخيمات الفلسطينية.
تمامًا كما سعت عملية “السور الواقي” إلى إحداث تغيير استراتيجي في الضفة الغربية لقمع انتفاضة الأقصى، تأتي “السور الحديدي” اليوم لتفرض واقعًا جديدًا، يهدف إلى تفكيك البؤر المقاومة، وتسهيل الضم الفعلي للضفة الغربية، وتفريغ المناطق الاستراتيجية من سكانها، في إطار رؤية تتجاوز البعد الأمني إلى إعادة صياغة المشروع الصهيوني في الضفة الغربية بشكل أكثر تطرفًا.
بين الإدانات والقلق
قوبل قرار الاحتلال بنشر دباباته في الضفة الغربية بردود فعل متباينة، تراوحت بين الإدانة، والتحفظ الصامت، والمواقف الدبلوماسية المترددة، ما يعكس طبيعة المشهد السياسي والإقليمي الفاتر.
على المستوى الرسمي، أدانت السلطة الفلسطينية الخطوة الإسرائيلية، معتبرةً إياها تصعيدًا خطيرًا يهدد بتفجير الأوضاع في الضفة الغربية، وحذّر الناطق باسم الرئاسة الفلسطينية نبيل أبو ردينة من أن الاحتلال “يسعى لتكرار سيناريو التهجير والتدمير الذي تنفذه في قطاع غزة”، مشددًا على أن هذه الخطوة تمثل استكمالًا لسياسات الاحتلال في تقويض أي إمكانية لحل سياسي، لكن هذا الموقف الرسمي لم يترجم إلى أي تحرك عملي ملموس، خاصة في ظل استمرار التنسيق الأمني بين السلطة والاحتلال.
في المقابل، رأت فصائل المقاومة الفلسطينية أن زجّ الدبابات في الضفة يمثل “ضوءًا أخضر إسرائيليًا لإطلاق مرحلة جديدة من الضم الفعلي”. واعتبرت حركة الجهاد الإسلامي أن هذه الخطوة “محاولة إسرائيلية لفرض واقع استيطاني جديد بالقوة العسكرية”، بينما وصفت حماس ما يجري بأنه “ يكشف بوضوح نوايا العدو الخطيرة في الإمعان بحرب الإبادة ضد شعبنا الفلسطيني، ومواصلة سياسة التدمير والتخريب غير المسبوق”.
على المستوى الإقليمي، جاءت المواقف فاترة ومتباينة على تصاعد العدوان الإسرائيلي شمال الضفة الغربية، فقد عبّرت الأردن ومصر عن قلقهما من تصاعد العمليات العسكرية في الضفة، محذرتين من أن هذه الخطوة “تهدد الأمن والاستقرار الإقليمي”، لكن رغم هذه التصريحات، لم يرقَ التحذير إلى إجراءات عملية مؤثرة، خاصة في ظل استمرار العلاقات الأمنية بين “إسرائيل” وهذه الدول، ما يعني أن الضغط الفعلي على الاحتلال يبقى محدودًا.
دوليًا، أعرب الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش عن “قلقه العميق إزاء تصاعد العنف في الضفة الغربية”، داعيًا إلى احترام القانون الدولي وإنهاء الاحتلال الإسرائيلي، وضمان قيام دولة فلسطينية مستقلة تكون غزة جزءًا لا يتجزأ منها”. أما على الصعيد الأوروبي، فقد عبرت فرنسا أيضًا عن “قلقها” إزاء العملية العسكرية الإسرائيلية في جنين، في حين أصدرت دول أوروبية أخرى إدانات مشابهة.
لكن عمليًا، فإن غياب أي خطوات ملموسة للضغط على “إسرائيل” يعكس حقيقة أن هذه الخطوة تمر دون كلفة سياسية تُذكر، مما يشجع الاحتلال على المضي قدمًا في فرض وقائع جديدة على الأرض، دون الخشية من أي تبعات دولية جدية.
لماذا لجأت “إسرائيل” إلى الدبابات في الضفة الغربية؟
جاء قرار الاحتلال بنشر دباباته في الضفة الغربية لأول مرة منذ أكثر من عقدين نتيجة تفاعل عدة عوامل أمنية وسياسية، سواء على الأرض أو داخل المشهد الإسرائيلي، فبينما يُنظر إلى هذا التصعيد كخطوة ميدانية لمواجهة تعاظم المقاومة، فإنه في جوهره يعكس أبعاد أعمق تتعلق بنوايا الاحتلال فرض سيطرته الكاملة على الضفة الغربية، والضغوط السياسة الداخلية في “إسرائيل”، التي تدفع نحو مزيد من التصعيد العسكري، وبالتالي فإن هذا القرار يرتكز لعوامل رئيسية أبرزها:
تحييد ممكنات المواجهة: تحولت مدن ومخيمات شمال الضفة، مثل جنين ونابلس وطولكرم، إلى بؤر مقاومة أكثر تنظيمًا وتسليحًا، ما دفع الاحتلال إلى تصعيد أدواته، بعدما فشلت سياسة “جز العشب” والعمليات السريعة في تحقيق أهدافها.
شهدت الأشهر الماضية تطورًا واضحًا في تكتيكات المقاومة، من حيث نصب الكمائن واستخدام العبوات الناسفة، وهو ما استنزف قوات الاحتلال خلال الاقتحامات، إذ لم تنجح الوحدات الخاصة والطائرات المسيّرة في حسم المواجهات داخل المخيمات، ما دفع الاحتلال إلى تنفيذ تغييرات جغرافية واسعة عبر التجريف وهدم المنازل، وصولًا إلى استخدام الدبابات كأداة لضبط المشهد ميدانيًا وإلغاء ميزة الأزقة الضيقة أمام المقاومين.
معادلات الائتلاف الحكومي: القرار لم يكن بمعزل عن المشهد السياسي الإسرائيلي المضطرب، حيث يسعى بنيامين نتنياهو إلى موازنة حكومته اليمينية المتطرفة، خاصة في ظل ضغوط وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، الذي يروّج لخطة “الحسم” ويدفع نحو السيطرة الكاملة على الضفة بحلول عام 2025.
كما أن التصعيد العسكري يُستخدم لاسترضاء المستوطنين الذين أصبحوا قوة ضاغطة داخل الائتلاف الحاكم، ما يجعل أي تراجع عن الحسم العسكري خيارًا مكلفًا سياسيًا لنتنياهو.
اليوم التالي للسلطة: تأخذ “إسرائيل” في الاعتبار سيناريو تآكل السلطة الفلسطينية وفقدانها السيطرة على الضفة الغربية، حيث تتزايد المؤشرات على محدودية نفوذها في مناطق مثل جنين ونابلس، واعتمادها المتزايد على الاحتلال لضبط الأمن.
لذا، تعمل” إسرائيل” على اختبار أدوات السيطرة المباشرة، عبر نشر قوات دائمة واستخدام القوة الثقيلة، تحضيرًا لواقع جديد تكون فيه الضفة تحت إدارة إسرائيلية غير معلنة، مع تهميش تدريجي للسلطة الفلسطينية.
نحو فرض واقع جديد في الضفة الغربية
يمثل نشر الدبابات الإسرائيلية في الضفة الغربية تحولًا نوعيًا في أدوات الاحتلال لإدارة المواجهة مع الفلسطينيين، تعكس في جوهرها رؤية استراتيجية تهدف إلى إعادة هندسة الواقع الديموغرافي والجغرافي في الضفة الغربية، فحكومة نتنياهو، بدفعها بالدبابات لأول مرة منذ عقدين، تعزز مسارًا ممنهجًا يسعى إلى تفكيك أي بنية مواجهة مستدامة، وتحويل مناطق الضفة إلى كانتونات معزولة، يسهل التحكم بها أمنيًا وسياسيًا، تمهيدًا لخطط الضم التدريجي.
في هذا السياق، تلوّح “إسرائيل” بفرض سيادتها المباشرة على مناطق الضفة الغربية، بدعم من تيارات اليمين الإسرائيلي وغطاء أمريكي متزايد، بالتوازي مع تفكيك تدريجي لأي كينونة فلسطينية، حتى لو كانت السلطة الفلسطينية بشكلها الحالي.
مع تعمّق هذا النهج، يصبح سيناريو الحكم العسكري المباشر أو فرض حلول محلية بأدوات إسرائيلية أكثر وضوحًا، مما يضع الفلسطينيين أمام واقع سياسي معقد يهدد بمحو أي أفق لإقامة كيان سياسي مستقل مترابط جغرافيًا.
وعليه، لا يُنظر إلى الدبابات التي انتشرت في جنين كمجرد نقلة تكتيكية في العمليات العسكرية، بل كإعلان غير مباشر عن تغيير قواعد الصراع، فـ”إسرائيل” تتحرك لإرساء وقائع جديدة على الأرض تصعّب إعادة إنتاج أي شكل من أشكال السيادة الفلسطينية، وهو ما يجعل هذه المرحلة إحدى أخطر المحطات التي تمر بها الضفة الغربية منذ عقود، حيث يصبح الوجود الفلسطيني أمام تحدٍ وجودي غير مسبوق.