أشهر قليلة وينتهي عمر البرلمان العراقي بعد مضي 4 سنوات على تشكيله، وبعد سلسلة من المشكلات والعثرات التي واجهتها الدورة البرلمانية الحالية التي وصفها رئيس البرلمان مؤخرًا بأنها أسوأ دورة برلمانية في العراق منذ 2003.
وتحتم القوانين النافذة في البلاد إجراء الانتخابات التشريعية قبل 45 يومًا من تاريخ انتهاء عمر البرلمان، الذي يصادف في 9 يناير/ كانون الثاني 2026، حيث يتوجب على الحكومة إجراء الانتخابات في شهر أكتوبر/تشرين الأول أو نوفمبر/ تشرين الثاني القادمين على أقصى تقدير.
ويبدو من خلال مسار الأوضاع السياسية في البلاد والضغوط الداخلية والخارجية التي تتعرض لها بغداد أن الانتخابات القادمة لن تكون سهلة المراس سواء على مستوى التحالفات السياسية التي تسبقها أو فيما يتعلق بإمكانية إجراء الانتخابات في موعدها المقرر دستوريًا.
محاولات تعديل القانون
يعد قانون الانتخابات أول معضلة تواجهها الكتل السياسية في البلاد، إذ تسعى جهات سياسية معينة لإجراء تعديل جديد على قانون الانتخابات يتماشى مع مصالحها والخرائط السياسية الشعبية الجديدة بعد 3 سنوات من عمر الحكومة الحالية التي يترأسها محمد شياع السوداني.
وتطمح كتل سياسية شيعية رئيسية مثل ائتلاف دولة القانون الذي يتزعمه رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي لإجراء تعديل جديد لقانون الانتخابات، في مسعى لإضعاف قدرة السوداني على الظفر بالانتخابات المقبلة، بحسب مراقبين، في الوقت الذي تفضل فيه كتل سياسية شيعية أخرى المضي بذات القانون الذي اعتمد في انتخابات مجالس المحافظات في ديسمبر/ كانون الأول 2023.
وكان العراق قد شهد منذ عام 2003 والغزو الأميركي للبلاد 5 دورات انتخابية مدة الواحدة منها 4 سنوات، غير أن جميع هذه الدورات كان لها قانون خاص يختلف عن السابق واللاحق، حيث اعتمد في أول انتخابات برلمانية عام 2006 قانون الدائرة الواحدة لجميع المحافظات العراقية، ثم اعتمدت المفوضية العليا للانتخابات معادلة سانت ليغو والدائرة الواحدة لكل محافظة.
بعد ذلك وفي انتخابات عام 2014 جرى اعتماد سانت ليغو بنسبة أخرى ثم حدثت في انتخابات 2018، حتى الوصول لنظام الدوائر المتعددة في المحافظة الواحدة 2021، ثم سانت ليغو مرة أخرى في انتخابات مجالس المحافظات عام 2023 وبمعادلة جديدة تصب في مصلحة الأحزاب الرئيسية.
ونظام “سانت ليغو” هو معادلة رياضية ابتدعها عالم فرنسي عام 1910 لتوزيع أصوات الناخبين على القوائم الانتخابية المشاركة في الانتخابات، حيث تُقسم الأصوات الانتخابية بعد عملية التصويت على نسبة 1.3 صعودًا، بما يتيح للقوائم الصغيرة الحصول على فرص أكبر للفوز بمقاعد برلمانية، ووفقًا لذلك، فإنه كلما ارتفع القاسم الانتخابي إلى 1.6 فأكثر، فإن فرص القوائم الصغيرة ستتراجع، فيما ستتضاعف فرص القوائم الانتخابية الكبيرة.
وتشير مصادر سياسية في العاصمة بغداد، تحدث إليها “نون بوست”، إلى أن إئتلاف دولة القانون يعد القوة السياسية الرئيسة التي تطمح لتعديل قانون الانتخابات بما يتماشى مع رغبات المالكي وطموحاته السياسية ومحاولته كذلك عرقلة وصول السوداني للسلطة في ولاية ثانية، وهو ما ترجم فعليًا عبر دعوة المالكي لرئيس الوزراء لتقديم استقالة حكومته قبل نهاية ولايتها.
وتحدثت المصادر عن استحالة تمرير التعديلات التي يطالب بها ائتلاف دولة القانون، لا سيما أن الكتل الشيعية الأخرى ليست على وفاق تام مع المالكي أو فيما بينها، حيث ترفض كتل شيعية رئيسية أخرى أي تعديل على قانون الانتخبات خشية أن يصب في صالح إئتلاف دولة القانون أو خشية من إثارة نقمة التيار الصدري، مع الأخذ بنظر الاعتبار المعادلة الجديدة في منطقة الشرق الأوسط عقب الحرب الإسرائيلية على غزة وانهيار حزب الله وسقوط الأسد في سوريا وتراجع النفوذ الإيراني.
ويأتي تخوف المالكي من القانون الحالي الذي يعتمد معادلة سانت ليغو والدائرة الواحدة لكل محافظة، انطلاقًا من تلميحات بترشح السوداني للانتخابات القادمة ومحاولته حصد أعلى الأصوات في العاصمة بغداد، مما حدا بالمالكي لتقديم العديد من الأفكار لتعديل قانون الانتخابات، أهمها الاعتماد على سانت ليغو كذلك لكن مع اعتماد الدوائر المتعددة داخل المحافظة الواحدة.
أما من الناحية القانونية، فإن عدم المضي بتعديل قانون الانتخابات أو إعلام مفوضية الانتخابات باعتماد القانون الحالي سيؤدي لعدم قدرة المفوضية على البدء الفعلي بالتحضيرات اللازمة لإجراء الانتخابات مما قد يتسبب في الدخول في مشكلة الموعد الدستوري لإجرائها، وهو ما تؤكده مفوضية الانتخابات ذاتها.
وتؤكد مصادر سياسية من داخل اللجنة القانونية البرلمانية لـ “نون بوست” أن البرلمان يمتلك شهرًا واحدًا فقط للمضي بتعديل القانون أو اعتماد القانون الحالي الذي أجريت وفقه انتخابات مجالس المحافظات عام 2023، حيث يشير عضو في اللجنة -فضل عدم ذكر اسمه- أن الأسابيع القادمة ستشهد الإيعاز للمفوضية بالمضي في التحضير للانتخابات اعتمادًا على القانون النافذ، مبينًا استحالة الاتفاق على قانون انتخابي جديد خلال الفترة المتبقية من عمر البرلمان.
سباق انتخابي مبكر
ويأتي هذا التحرك حول قانون الانتخابات وإمكانية تعديله مع استمرار الغموض في موقف التيار الصدري وحزبه “التيار الوطني الشيعي” بزعامة مقتدى الصدر، الذي دعا أنصاره قبل أيام لتحديث سجل الناخبين والحصول على بطاقة الناخب البيومترية، الأمر الذي أعطى انطباعًا مباشرًا للكتل السياسية الأخرى عن احتمالية كبيرة للعودة إلى المشهد السياسي بعد قرابة 3 سنوات على اعتزال الصدر للعمل السياسي.
وتخشى الكتل السياسية الشيعية من عودة التيار الصدري إلى المشهد السياسي، حيث أن انتخابات عام 2021 شهدت استحواذ التيار على نصيب الأسد في البرلمان، فضلًا عن تخوف الكتل الشيعية من تكرار الصدر لذات المشهد السياسي وعدم تحالفه مع التيارات الشيعية الأخرى، وهو ما بدا مؤكدًا بعد تأكيد وزير الصدر على عدم إمكانية تحالف التيار الوطني الشيعي مع من سماهم بـ “الفاسدين”.
وفي حال عودة التيار الصدري بمسماه السياسي إلى المشهد، فإن حصة الكتل السياسية الشيعية الأخرى ستتقلص بشكل كبير، حيث سيستغل التيار الصدري ابتعاده عن المشهد لأكثر من عامين مع تركيز التيار على حشد مئات الآلاف من أتباعه انتخابيًا، وهو ما تفتقره جميع التيارات السياسية الشيعية الأخرى.
ومما يزيد التخوف من التيار الصدري هو امتلاكه لقوة مسلحة كبيرة تتمثل بسرايا السلام التي دخلت في اشتباكات عنيفة داخل المنطقة الخضراء في نهاية شهر أغسطس/ آب 2022 مع فصائل مسلحة مثل العصائب وغيرها إثر الخلافات السياسية التي سبقت تكليف محمد شياع السوداني برئاسة الحكومة.
وتخشى جميع الكتل السياسية الشيعية من التيار الصدري لأسباب عديدة، لعل أهمها ضبابية اتخاذه للقرارات والتحولات السياسية المفاجئة كذلك، حيث يتذكر العراقيون التحالف الثلاثي الذي تشكل من التيار الصدري الشيعي وحزب تقدم السني والحزب الديمقراطي الكردستاني عقب انتخابات أكتوبر/تشرين الأول 2021، والذي لم يفلح في تشكيل الحكومة لأشهر عديدة، ثم تبع ذلك قرار اعتزال زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر للعمل السياسي دون إبلاغ حلفاءه في التحالف الثلاثي بذلك.
وليس بعيدًا عن التيار الصدري، تحذو بقية الكتل السياسية حذوها نحو التحضير للانتخابات، حيث تشهد مختلف محافظات الوسط والجنوب والشمال زيارات مكوكية لشخصيات سياسية، مع عقد تحالفات بينية وأخرى من وراء الكواليس تحضيرًا للمشهد القادم، خاصة في محافظات كربلاء والنجف والبصرة والأنبار ونينوى وبغداد وواسط وذي قار التي تشكّل الثقل السكاني للبلاد.
كما أعلن في محافظات الجنوب العراقي عن نوع من تحالفات معينة تعنى بهذه المناطق، إضافة إلى عقد تحالفات أخرى بين القوى السياسية السنية، كالتحالف بين الرئيس الأسبق للبرلمان العراقي أسامة النجيفي وبين رئيس تحالف العزم مثنى السامرائي في محافظة نينوى شمال البلاد.
وما بين هذا وذاك، يبقى الجدل مستمرًا حول موثوقية الانتخابات القادمة في ظل تصاعد الغضب الشعبي على الكتل السياسية والمقاطعة الواضحة للانتخابات التي شهدتها الدورة الانتخابية الأخيرة، سواء على مستوى مجالس المحافظات أو الانتخابات التشريعية التي سبقتها.
وانطلاقًا من أن موعد الانتخابات القادمة لن يكون قبل شهر أكتوبر أو نوفمبر القادمين، يتوقع مراقبون أن تشهد البلاد هذا العام فصل صيف لاهب سياسيًا وانتخابيًا، يعززه بدء تطبيق واشنطن قرارها منع بغداد من استيراد الغاز الإيراني، بما يعني خسارة البلاد لنحو 50% من الطاقة الكهربائية التي تنتجها والتي لم تكن تكفي أساسًا سوى نصف حاجة البلاد الفعلية، الأمر الذي يضيف مزيدًا من التعقيد والتخوف من أي تحرك شعبي ناقم على وضع الخدمات في البلاد.