خطى حيرى تخطوها القيادة العراقية لانتشال العراق من واقعه البائس، إذ تبدأ عهدًا جديدًا في العلاقات الخارجية، على طريق الحرير الممتد حتى سور الصين العظيم. وأوساط شعبية وسياسية في العراق تعوّل على زيارة عشرات المسؤولين للصين في خطوة لتعزيز التعاون الاقتصادي، وتمتدُّ أعناقهم إلى هناك، يدفعها أملٌ في إخراج البلد من محنته التي يعانيها، فيما تخفق قلوب قسم آخر منهم، خشية تكبيل العراق باتفاقيات تجارية واقتصادية أحادية الفائدة قد لا يحسب لها حساب، في ظرف لا يتحمل العراق فيه مزيدًا من الصدمات التي قد تمتد آثارها إلى سنوات طويلة.
وفي حسابات مسبقة، يتوقع أن يتجاوز حجم الأعمال بين العراق والصين حاجز الـ500 مليار دولار خلال السنوات العشرة المقبلة، فيما ستكون الصين أحد أكبر البلدان استيرادًا للنفط العراقي، إذ تستورد حاليًّا نحو مليون برميل من النفط يوميًا، يتوقع ازديادها في السنوات المقبلة.
التنين الصيني في طريقه إلى بغداد
للشراكة بين البلدين موطئ قدم واسع على أرض الحرير، وبيئة خصبة للشركاء الجدد في أول خطواتهما على هذه الجادة، وفي هذا الإطار دعا رئيس الوزراء عادل عبد المهدي الصين إلى أن تكون شريكًا في تطوير البنى التحتية للعراق، مشيرًا إلى فكرة إيجاد الائتمان الإطاري لتمويل المشاريع الكبرى للبنى التحتية من واردات العراق النفطية المصدرة إليها.
وأوضح عبد المهدي أن العراق مهيأ للاستثمارات، وفرص العمل به كثيرة في جميع القطاعات، والبلاد تشهد تزايدًا في أعداد الشركات والمستثمرين بعد سلسلة قرارات تخص الشراكة بين القطاع العام والخاص.
الصين.. العمل في أخطر الظروف
من الطبيعي أن يعتري الصين وأيّ بلد يرسل قوافله إلى بلد منهك كالعراق التخوف من وضع أحمال تجارته فيه، فالخروقات الأمنية التي تشهدها المحافظات العراقية وصعوبة العمل بالنسبة للشركات الأجنبية تشكّل مصدر قلق من مجابهة مخاطر محتملة في هذا البلد، لكن عبد المهدي طمأن الرئيس الصيني شي جين بينغ قائلًا: “الشركات الصينية عملت في العراق في أخطر الأوضاع، وهي مستعدة الآن للعمل في الصناعات والحقول النفطية الجديدة والاتصالات وبناء المدن والموانئ والسكك الحديد وشبكة الاتصالات من الجيل الخامس”.
استهلال سجل العمل بثماني اتفاقيات
كشف البَلَدان النقاب عن سجل العمل الذي شرع فيه الطرفان بتوقيع ثماني اتفاقيات ومذكرات، كان من بينها توقيع اتفاق إطاري للإنفاق الائتماني المالي ومذكرة تفاهم لإعادة الإعمار الاقتصادي، وأخرى تتعلق بمجالات التعاون الاقتصادي والثقافي والفني وتطوير البنى للمواصلات والاتصالات والسكن والطاقة والمجاري، إضافة إلى العقود التي توقع من الوزراء والمحافظين الذي تضمنهم الوفد الكبير الذي يرافق عبد المهدي خلال زيارته للصين.
المسمار الأخير في صندوق تمويل المشاريع
في خطوة اتفاقية أولى لازمة بين طرفي التعاقد، تم الاتفاق على صناعة صندوق الاستثمار ليضع كل طرف نصيبه فيه، وقد أكد وزير الكهرباء العراقي لؤي الخطيب، وهو أحد أعضاء الوفد العراقي، أن “الإطار المالي بدأ بمبلغ عشرة مليارات دولار مقابل كمية محدودة من النفط، تكون الصندوق الأساس لتمويل مجموعة من مشاريع البنى التحتية”.
وتوقع الخطيب “ارتفاع حجم التمويل الصيني بتنامي الإنتاج النفطي العراقي ليُوظف بطريقة مغايرة لسياسة الماضي من خلال البناء والاستثمار وتفعيل مجلس الإعمار، خصوصًا أن مهمة إعادة الإعمار تحتاج إلى مئات المليارات إذا ما أريد للعراق أن يكون دولة مزدهرة”.
وقال الخطيب: “أولى ثمار الاتفاقيات بين البلدين هي توقيع مذكرة تمويل محطة صلاح الدين الحرارية التي ستدخل الخدمة في صيف عام 2020 بطاقة إنتاجية تصل إلى 1260 ميجاواط تخدم سكان المناطق المحررة”.
التشبث بأسوار الصين
الحكومة الغرقى تتشبث بآخر خشبة تطفو فوق الأمواج الغاضبة التي حالت بينها وبين الشعب الذي يعتصم بجبل الصبر والأمل، وها هو عضو مجلس النواب صباح العكيلي يؤكد أن البرلمان العراقي أمهل الحكومة العراقية مدة أربعة أشهر للنهوض بنفسها وتحسين واقع المواطن، فيما عدّ زيارة الصين الفرصة الأخيرة لها.
ومن ناحية أخرى يستصرخ بعض من يراقب من فوق حطام السفينة بأن ما تفعله الحكومة محاولات يائسة، وطوق النجاة الذي تتشبث به بائس ولن يوصلها إلى الشاطئ المنشود، فقد عدَّ العكيلي في تصريح لـ”نون بوست” ذهاب عشرات المسؤولين إلى الصين من أجل إضافة قروض كارثة كبرى وليست جهلاً، فيما دعا إلى إحالتهم للتحقيق جميعًا إذا لم تحدث نهضة سريعة في البلاد.
هناك عدة عوامل ساهمت باختيار الصين لعقد حزمة الاتفاقات مع الحكومة العراقية، من ضمنها أن الصين غير محسوبة ضمن محور معين، وليس لديها اهتمامات سياسية
“الطبّ الصيني” لعلاج البيروقراطية العراقية
في المقابل يرى عضو مجلس النواب العراقي علاء الربيعي أن الصين بإمكانها المساهمة في إعادة إعمار العراق وتطوير اقتصاده، وقال الربيعي لـ”نون بوست” إن الخطوة سوف تقلل من البيروقراطية في مؤسسات الدولة العراقية، خصوصًا في مجال في الاستثمار، عبر دخول شركات جديدة قد تحد من الفساد المستشري في البلاد.
الصين تتربع على عرش الاستثمارات في العراق
قال الكاتب والمحلل السياسي عبد الرحمن الجبوري: “هناك عدة عوامل ساهمت باختيار الصين لعقد حزمة الاتفاقات مع الحكومة العراقية، من ضمنها أن الصين غير محسوبة ضمن محور معين، وليس لديها اهتمامات سياسية، بالإضافة إلى أنها لا تهتم كثيرًا للأوضاع الأمنية لشركاتها في العراق”.
الجبوري أضاف في حديثه لـ”نون بوست” أن الاتفاقيات بين البلدين يتوقع أن تصل إلى نحو 500 مليار دولار، وهذا ما يؤشر إلى أن واشنطن تنظر إلى ذلك بعين الريبة، وأن الصين ستأخذ الاقتصاد العراقي إلى مديات بعيدة.
العيدان التي تعيق عجلة الإعمار في دورانها تحشرها بعض الأحزاب المتنفذة، لتستفيد من تأخير مسيرها لصالحها على حساب النهوض بالبلد المنهك
أزمات حديثة بحلول قديمة
البحث عن أدوات إصلاح مهترئة في مخزن قديم متهالك، ومحاولات الترقيع للوصول إلى حل يمكن أن ينفع في الحل الطارئ فحسب، أمّا ما تفعله الحكومة الحاليّة من محاولة استنساخ تجربة مجلس الإعمار العراقي التي عُمِلَ بها إبان الحكم الملكي في خمسينيات القرن الماضي، للتغلب على العراقيل التي تواجه عجلة إعادة الإعمار وتنفيذ البرامج الإستراتيجية، فإنها حلول ترقيعية للسفينة المتهالكة التي لن تبحر إلا في الخلجان الضيقة من دون أمل في بلوغ آمال شاسعة ينتظرها الشعب بفارغ الصبر للخروج به من محنته التي طال أمدها.
ويعتزم البرلمان تشريع قانون مجلس الإعمار العراقي الذي يهدف إلى “إنشاء البنى التحتية وإقامة المشاريع الكبرى في البلد كالطرق والجسور والمطارات والموانئ، فضلًا عن القضاء على البطالة من خلال تشجيع الاستثمار وتشغيل الأيدي العاملة ومتابعة إنشاء المشاريع الإستراتيجية والصناعية والزراعية والصحية والإسكان، وإدامة تشغيلها وفقًا للمعايير والمفاهيم العالمية”.
القانون مكبَّل بقيود الأحزاب
العيدان التي تعيق عجلة الإعمار في دورانها تحشرها بعض الأحزاب المتنفذة، لتستفيد من تأخير مسيرها لصالحها على حساب النهوض بالبلد المنهك الذي تأخر عليه المسعف ويكاد يلفظ آخر أنفاسه لكثرة ما نزف من جراحه، ومن هنا فإن مشروع مجلس الإعمار يرمي إلى القضاء على هيمنة بعض الكتل السياسية على عمليات الإعمار وإبعاد الشركات غير المؤهلة والاستعانة بأخرى تخدم مسيرة الإعمار، لكن المفارقة أن القانون الآن رهينة الأحزاب السياسية داخل البرلمان وهي من ستشرعه وفق ما تريد وتفصله على مقاسها.