قبل أيام قليلة طالب وزير الدفاع التونسي عبد الكريم الزبيدي، رئيس الوزراء يوسف الشاهد بالاستقالة من منصبه لما تسبب فيه من ضرر للبلاد وتدمير الحياة السياسية، ليجيبه الشاهد فيما بعد بأن استقالة الحكومة تعني حتمًا استقالة جميع الوزراء بما فيهم “الدفاع”.
تلاسن يكشف حجم الصراع بين الاثنين، فكلاهما يسعى إلى أن يكون وجه “المنظومة القديمة” الجديد، ويتربع على عرش البلاد، حتى إن خسر الاثنان خلال انتخابات الدور الأول للانتخابات الرئاسية السابقة لأوانها التي عرفتها تونس قبل أيام.
بداية الصراع
يعتقد الصحفي التونسي كريم البوعلي أن بداية الصراع بين رئيس الحكومة يوسف الشاهد ووزير الدفاع عبد الكريم الزبيدي بدأ خفيًا منذ بداية الخلاف بين الشاهد والرئيس الراحل الباجي قائد السبسي، فالزبيدي كان مقربًا جدًا من الراحل وهو من أصر على تعيينه في منصبه الحاليّ.
“تقارب الزبيدي مع القصر باعتبار أن الرئيس في الدستور التونسي هو القائد الأعلى للقوات المسلحة أكثر من القرب مع القصبة (مقر رئاسة الحكومة) مثل عامل فتور رئيسي في علاقته بيوسف الشاهد”، وفق قول كريم البوعلي.
يسعى كل من الشاهد والزبيدي إلى قيادة المنظومة القديمة مهما كلفه الأمر
هذا الصراع بين الرجلين، يقول البوعلي، إنه “طفا على السطح بعد تقدمهما للتنافس في الانتخابات الرئاسية المبكرة، حيث بات التراشق بالتصريحات وتبادل الاتهامات بين الاثنين علنًا وسرًا، خبزًا يوميًا، وأصبح صراعهما محل تندر التونسيين”.
آخر تجليات هذا الصراع بين رئيس الوزراء ووزير الدفاع، تغيب هذا الأخير عن اجتماع مجلس الوزراء الذي ترأسه يوسف الشاهد، صباح أمس الجمعة، دون أن يكون هناك أي توضيح لهذا الغياب المفاجئ.
اتهامات متبادلة
هذه الفترة كما قلنا سابقًا، تميزت بتبادل الطرفين الاتهامات، حيث لا تخلو تصريحات عبد الكريم الزبيدي من اتهامات تتعلق أساسًا برئيس الحكومة يوسف الشاهد، وكان الزبيدي قد اتهم الشاهد باستغلال مؤسسات الدولة وهياكلها وإمكاناتها، خدمة لشخصه ومشروعه الحزبي، في مقابل تضييق عمله وحملته الانتخابية.
كما اتهم الزبيدي القضاء ضمنيًا بالعمل بأوامر سياسية، حيث اعتبر أن المرشح للانتخابات الرئاسية عن قلب تونس نبيل القروي سجينًا سياسيًا، كما اتهم رئيس الحكومة بمحاولة ترحيل الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي إلى فرنسا ليمسك بزمام الحكم في حالة الفراغ الوقتي، إلى جانب اتهامه بتسريب أسرار الأمن القومي لجهة حزبية.
وحل الزبيدي رابعًا في الدور الأول بـ10.7% من الأصوات، تلاه الشاهد بـ7.38%، بينما تأهل إلى الدور الثاني (لم يتحد موعده بعد)، كل من قيس سعيد (مستقل)، أستاذ قانون دستوري، بـ18.4% ونبيل القروي (رئيس حزب قلب تونس)، رجل أعمال وإعلام، بـ15.58%.
رئيس الوزراء التونسي يوسف الشاهد
لم يتوقف الزبيدي عند هذا الحد، بل رفض دعوة الشاهد للحوار، قائلاً عبر صفحته بـ”فيسبوك”: “تابعت الدعوة التي توجه بها إليّ السيد يوسف الشاهد من أجل إنقاذ تونس، ويهمني أن أوضح أن من تسبب في تأزيم الوضع الاقتصادي وفي تدهور الوضع المعيشي للمواطنين وفي تدمير الحياة السياسية والحزبي هو (الشاهد) جزء من المشكل ولا يمكن أن يكون جزءًا من الحل وأن مبادئ الديمقراطية تقتضي منه أن يعترف بفشله وبمسؤوليته ويستقيل من منصبه”.
وكان الشاهد قد وجه دعوة للزبيدي للجلوس على طاولة الحوار، وتوحيد الجهود بهدف إنقاذ البلاد، وقال الشاهد، خلال برنامج حواري على راديو “موزاييك” (خاص): “رغم الكلام الخطير الذي قيل في حقي من الزبيدي فإنني سأتجاوز ذلك بهدف توحيد الصفوف والدخول إلى الانتخابات القادمة موحدين حتى لا تتشتت الأصوات وذلك حتى تتمكن العائلة الديمقراطية من تكوين كتلة برلمانية وازنة”.
إرث المنظومة القديمة
هذا الصراع بين الطرفين يرجعه كريم البوعلي إلى رغبة الشخصين في الاستئثار بإرث الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي ومنظومة حكم المخلوع زين العابدين بن علي والحبيب بورقيبة السابقة بدوائر نفوذها السياسية والمالية والإعلامية والجهوية.
ويسعى كلا الطرفين إلى قيادة المنظومة القديمة مهما كلفه الأمر، فالزبيدي الذي صعدت أسهمه بالتزامن مع مرض الرئيس التونسي الراحل الباجي قائد السبسي الذي توفي يوم 25 من يوليو/تموز الماضي، يرى أنه الأصلح والأقدر على حماية “المنظومة القديمة” ومصالحها.
صراع يوسف الشاهد وعبد الكريم الزبيدي لقيادة المنظومة القديمة بكل تمظهراتها أو ما يعرف في تونس بـ”السيستام”، هو صراع جهوي أزلي في البلاد
روج الداعمون له، بأنه المستأمن على أمن البلاد بعد نجاحه في تنظيم جنازة الرئيس الراحل السبسي، وبأنه المستأمن أيضًا على أسرارها، فضلاً عن كونه امتدادًا للسبسي والابن المثالي للمدرسة البورقيبية، ساعدهم في ذلك المناصب التي شغلها الزبيدي.
نفس الشيء بالنسبة إلى يوسف الشاهد، الذي بدأ منخرطًا عاديًا في حرب نداء تونس، ثم عضوًا في مكتبه التنفيذي، ليكلف بعدها برئاسة لجنة التوافق التي أسسها رئيس الجمهورية الراحل خلال الأزمة التي عصفت بحزبه “نداء تونس” أواخر سنة 2015، قبل أن يستقيل منها، ويؤسس حزبًا جديدًا، فهو أيضًا يرى نفسه الأكفأ لقيادة سفينة “السيستام”.
ويرى الشاهد أحقيته في الفوز بهذا الرهان، فهو الجامع للعائلة “الحداثية” في البلاد وفق أنصاره، وهو خليفة الباجي قائد السبسي القادر على توحيد “الديمقراطيين” في وجه من يعتبرونهم “تهديدًا لنمطهم المجتمعي” الذي وضع دعائمه الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة.
صراع جهوي بين “السواحلية” و”البلدية”
صراع يوسف الشاهد وعبد الكريم الزبيدي لقيادة المنظومة القديمة بكل تمظهراتها أو ما يعرف في تونس بـ”السيستام”، هو صراع جهوي أزلي في البلاد منذ عهود خلت وليس وليد اللحظة، يقول الصحفي أحمد محروق، في تصريح لـ “نون بوست”.
يضيف محروق في تصريحه “هو صراع بين “السواحلية” وممثلهم الزبيدي و”البلدية” وممثلهم يوسف الشاهد، صراع عمق جراح “السيستام” وشتت أصواته وساهم في الهزيمة المدوية التي حصلت له خلال الانتخابات الرئاسية الأخيرة”.
“صراع استعملت فيه كل الأسلحة المشروعة والمحرمة من تشويه وثلب، وغذته وسائل الإعلام التي اصطفت كل خلف مرشحها، فكل وسيلة إعلامية كان لها طرف تدافع عنه وتروج له قصد تغليبه على الآخر ويكون له القول الفصل”، يقول أحمد محروق.
ويرى كل طرف أي “السواحلية والبلدية” في نفسه الأحق بحكم تونس، والساحل هو مهد “الحزب الحر الدستوري الجديد” الذي انبثق عن مؤتمر قصر هلال بالمنستير عام 1934، وحكم البلاد بين عامي 1956 و2011، تحت أسماء عديدة منها: “الحزب الاشتراكي الدستوري” في عهد الرئيس الحبيب بورقيبة (1956-1987)، وهو من المنستير، و”التجمع الدستوري الديمقراطي” في عهد “بن علي” ابن سوسة.
وزير الدفاع التونسي عبد الكريم الزبيدي
يعتبر الزبيدي الذي ينحدر من محافظة المهدية (ساحل)، مرشح “السواحلية” الطامعين في إرجاع الحكم إليهم، بعد أن خرج من هناك بعد ثورة يناير 2011، فهم الأحق بحكم تونس وفق تصورهم، ولا يجب لأحد أن ينافسهم في ذلك.
“البلدية” ونعني بهم سكان العاصمة تونس، حيث تشكل الحزب الحر الدستوري التونسي بقيادة عبد العزيز الثعالبي سنة 1920، ويرى يوسف الشاهد أنه ممثل لهؤلاء، ويعتبر “البلدية” جزءًا مهمًا وأصيلاً في تشكل المنظومة أو النمط الذي يستقر في عمق النظام التونسي.
ورغم أن الشاهد في عين البعض هو ممثل للبلدية، فقد حاول التقرب قدر المستطاع من “السواحلية”، وذلك بتسهيل عمل رجال أعمال نافذين محسوبين على هذه الجهة، حتى إن اعلان تأسيس حزبه “تحيا تونس” كان من مدينة المنستير الساحلية.
هذا الصراع كانت له نتائج إيجابية، وفق العديد من التونسيين، فقد كان سببًا لانهزام ممثلي المنظومة القديمة في الدور الأول لانتخابات الرئاسة وخسارتهم أيضًا في الانتخابات المحلية السابقة، وهو مؤشر لخسارتهم في الانتخابات التشريعية المقبلة، وهو ما يعني بداية الخلاص من منظومة لطالما سيطرت على دواليب الحكم في تونس منذ 1956.