قبل ثلاثة أعوام تقريبًا خصلت دراسة لمعهد بروكغنز للدراسات في واشنطن إلى أن العالم سيواجه تحديات دقيقة وحساسة في توفير المعادن الضرورية للصناعات اللوجستية، حيث حددت 40 معدنًا أساسيًا اعتبرتهم من أكثر المعادن في الأهمية الاستراتيجية، لافتة إلى أنهم يدخلون ضمن حماية “الأمن القومي الأمريكي”.
ويشير الخبراء إلى أن تلك المعادن، الاستراتيجية والنادرة، ستكون محور الصراعات بين القوى الاقتصادية خلال المرحلة المقبلة، في ظل اتساع الفجوة بين الطلب والمتوفر، وفي 29 مايو/أيار 2019، نشرت بعض وسائل الإعلام الصينية تحذيرات موجهة للخارج تشير إلى استعداد بكين استخدام هذه المعادن كأحد الأسلحة في الحرب الاقتصادية مع الولايات المتحدة التي تلبي الصين 80% من احتياجاتها من المعادن.
وفي الثالث من فبراير/شباط الجاري، أثار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ولأول مرة، مسألة مقايضة أوكرانيا على حصة من ثرواتها التعدينية نظير حمايتها وتوفير الضمانات الأمنية لها، بل وصل الأمر إلى التلويح بأن الحصول على تلك الحصة شرط أساسي لحصول كييف على داعم واشنطن بالمال والسلاح.
يزعم ترامب أن بلاده قدمت مساعدات لكييف بنحو 300 مليار دولار منذ بداية الحرب الروسية الأوكرانية الأخيرة، معتبرًا أن ذلك دينًا على الأوكرانيين سداده من ثرواتهم التعدينية التي تقدر بمئات المليارات من الدولارات، مستخدمًا سياسته المعهودة “الابتزاز مقابل الحماية” وهي السياسة التي يجيد ممارستها بشكل جيد، إذ مارسها قبل ذلك مع بعض البلدان الخليجية، وأتت أكلها بما فاق التوقعات، ويلوح بها مؤخرًا مع عدد من الأنظمة العربية الحليفة.
لم تستغرق أوكرانيا وقتًا طويلا للتفكير، ولم يصمد رئيسها فلاديمير زيلينسكي مليًا أمام تهديدات ترامب، لتعلن كييف موافقتها على إبرام تلك المقايضة في صورة صفقة بين البلدين، من المتوقع أن تُبرم الجمعة 28 فبراير/شباط الجاري في العاصمة الأمريكية واشنطن، لينجح الرئيس الأمريكي في ترسيخ “دبلوماسية الابتزاز” كأحد المرتكزات الأساسية للسياسة الخارجية الأمريكية خلال المرحلة المقبلة.
وتمتلك أوكرانيا قرابة 30 معدنًا من الـ 50 الذي حددتهم الولايات المتحدة ضمن المعادن النادرة الضرورية في مداخل الصناعات الدفاعية والدقيقة، ونحو 22 معدنًا من بين 34 معدنًا يعتمدهم الاتحاد الأوروبي كمعادن استراتيجية لاستمرار النهضة الاقتصادية، هذا بخلاف الاحتياطي التعديني لتلك الثروات والذي يٌسيل لُعاب العالم ويدفعها لطرق أبواب كييف بأي طريقة كانت، مغازلة أو احتلال أو ابتزاز.
ملامح الصفقة: نصف عائدات أوكرانيا التعدينية
تنص مسودة الاتفاق بين واشنطن وكييف حول صفقة المعادن كما نشرها موقع “أكسيوس” الأميركي، على الآتي:
– إنشاء ما يعرف باسم “صندوق إعادة الإعمار” المخصص للاستثمار في مشاريع داخل أوكرانيا في عدد من المجالات، أبرزها التعدين والموانئ، على أن تديره الدولتان بشكل مشترك ووفق حزمة من التفاهمات والتناغمات.
– على أوكرانيا أن تساهم في هذا الصندوق المقترح بمبلغ 500 مليار دولار، شرط أن تكون المساهمات الأوكرانية في الصندوق ضعف مساهمات الولايات المتحدة، لكن لا ينص على أن يُدفع هذا المبلغ للولايات المتحدة.
– تدفع أوكرانيا بموجب الاتفاق 50% من عائداتها (مع عدم احتساب نفقات التشغيل)، من المواد القابلة للاستخراج (مثل المعادن والنفط والغاز) إلى الصندوق.
– اعتماد مشروعات في المناطق التي تحتلها روسيا شرق أوكرانيا في حال تحريرها.
– تتولى وزارتا الخزانة والتجارة الأميركيتين بجانب مكتب نائب الرئيس، وضع تفاصيل الترتيبات المتعلقة بهذا الاتفاق مع وزارة الاقتصاد الأوكرانية.
– من المقرر، وفق المسودة، أن يوقع الاتفاق كل من وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو، ونظيره الأوكراني أندريه سيبيا.
الابتزاز مقابل الحماية
يتعامل الأمريكيون مع الثروات الأوكرانية كحق مكتسب نتيجة الدعم الأمني والعسكري الذي قدمته الولايات المتحدة لكييف خلال فترة الحرب، رغم أن مثل هذا الدعم يندرج تحت مسميات الالتزامات الواجب على أعضاء حلف “الناتو” القيام بها للدفاع عن شرق المعسكر الغربي من التغول الروسي، فهو إنفاق للدفاع عن سيادة وسمعة وشخصية الغرب، أوروبا وأمريكا.
زيلينيسكي الذي كان قد لوح في أكتوبر/تشرين الأول الماضي بورقة الثروة التعدينية لبلاده وإمكانية مشاركة حلفاءه الغربيين في الاستثمار فيها، كأحد استراتيجيات مغازلة الناتو للإبقاء على دعم بلاده في مواجهة الروس، هاهو اليوم يخشى من إبرام تلك الصفقة مع واشنطن، متخوفًا من تداعياتها على الأجيال القادمة.
وفي مؤتمر صحفي له في 23 فبراير/شباط الجاري اعتبر الرئيس الأوكراني أن العرض الأميركي الحالي “يفرض أعباء مالية مدمرة” على بلاده، مشددًا على ضرورة أن يتضمن أي اتفاق “ضمانات أمنية”، فضلًا عن شروط مالية “أكثر عدالة”، وتابع “لا أريد شيئًا ستضطر 10 أجيال من الأوكرانيين إلى سداده”.
🇺🇸 #ترامب يصل إلى مبتغاه ويحقق صفقة معادن نادرة بين #أمريكا و #أوكرانيا🇺🇦 https://t.co/Y5i7ftazx8 🔗 pic.twitter.com/MA68p73iEI
— فرانس 24 / FRANCE 24 (@France24_ar) February 26, 2025
يبدو أن الولايات المتحدة لا تريد تكبيل يدها بقيود من الضمانات الممنوحة لأوكرانيا، قد تعرقل مساعيها لتعزيز علاقاتها مع روسيا، فعقلية التاجر التي تهيمن على ترامب لا تُجدي معها مثل تلك الصفقات المقيدة، فهو يريد أن يتحرك بأريحية مطلقة، مستخدمًا عصا الابتزاز كسلاح لا يفارق جيبه، أينما كانت المصلحة وطأ بأقدامه، دون التزامات أو قيود أو شروط مسبقة.
وتماشيًا مع تلك العقلية، أكد وزير الخزانة الأمريكي، سكوت بيسنت، أن الاتفاق المقترح “لا يشمل ضمانات عسكرية صريحة”، لكنه في الوقت ذلك أشار إلى أن مجرد الاستثمار الأمريكي في الاقتصاد الأوكراني سيخلق نوعًا من الحماية الضمنية، مضيفًا: “نريد تشابكًا اقتصاديًا بين الولايات المتحدة وأوكرانيا لمصلحة الطرفين”، فيما نوّه وزير الدفاع الأميركي، بيت هيغسيث، لأهمية الشراكة الاقتصادية الأمريكية بالنسبة لأوكرانيا ومستقبلها، قائلًا في تصريحات لبرنامج “فوكس نيوز صنداي” إن “زيلينيسكي يجب أن يأتي إلى الطاولة”.
أوكرانيا.. موطن المعادن النادرة
في المدارس والجامعات الأوكرانية يدرس الطلاب هناك مناهج تؤكد على تفوقهم عالميًا من حيث القدرات والثروات التعدينية، حيث تشير كتبهم الدراسية إلى أن أوكرانيا تحتل المركز الأول أوروبيًا من حيث احتياطيات الحديد والمنغنيز والتيتانيوم وخام اليورانيوم، والمركز الثاني بعد إسبانيا من حيث احتياطيات خام الزئبق.
يتفق هذا الكلام مع التقارير الاقتصادية التي تشير إلى امتلاك أوكرانيا 5% من إجمالي الموارد التعدينية على مستوى العالم، حيث تقدر قيمة احتياطياتها من المعادن النادرة والليثيوم، بما يتراوح بين 3 تريليونات و11.5 تريليون دولار، كما تعد موردًا رئيسيًا لليثيوم والبيريليوم والمنجنيز والغاليوم والزركونيوم والغرافيت والأباتيت والفلوريت والنيكل، وفقًا لتقرير لـ”المنتدى الاقتصادي العالمي”.
وفي تقرير آخر لـ”مركز الناتو للتميز في أمن الطاقة” فإن الأراضي الأوكرانية تضم نحو 20 ألف مستودع طبيعي، تحتوي على 116 نوعًا من المعادن، كان يجري استغلال 15% منها فقط قبل الغزو الروسي، كما تمتلك 10-16% من احتياطيات الحديد عالميًا، بحجم يصل إلى 27 مليار طن، و20-42% من احتياطيات المنغنيز عالميًا، بحجم يصل إلى 2.5 مليار طن؛ وأنها تعد من أغنى 5 دول باحتياطيات الغرافيت، كما تحتضن الأعماق الأوكرانية قرابة 342 ألف طن من الألمنيوم، و147 ألف طن من النحاس، و60 ألف طن من الزنك، و8.2 آلاف طن من الرصاص، و5.3 آلاف طن من النيكل، إضافة إلى مئات الأطنان من معادن القصدير والتنغستن والكوبالت والموليبدينوم وغيرها.
وتحتل أوكرانيا المركز الرابع (إلى جانب الهند والبرازيل وفيتنام) في حجم احتياطيات المعادن النادرة، بعد الصين (68% من الاحتياطيات)، ثم أميركا (12%)، ثم أستراليا (5%)، تمتلك البلاد حوالي 10% من احتياطيات العالم (وأكبر احتياطيات أوروبا) من معدن الليثيوم المستخدم في إنتاج البطاريات، بحجم يقدر بنحو 500 ألف طن، بجانب نحو 90 طنا من الزركونيوم المستخدم في المحركات النفاثة.
وتعد كييف من بين أبرز 10 دول غنية بمعدن التيتانيوم، المستخدم في إنتاج الصواريخ والطائرات والسفن، بحجم يصل إلى 2.3 ألف طن، بجانب العديد من المعادن النادرة الأخرى، حيث تضم 660 طنًا من الفاناديوم، و90 طنًا من الزركونيوم، و50 طنًا من النيوبيوم، و50 طنًا من الكادميوم، وأيضًا 15 طنًا من التنتالوم، و5 أطنان من الغاليوم، و1.8 طن من السيريوم، وكذلك تضم 1.5 طن من الإنديوم، وطنًا من السيلينيوم، وطنًا من البريليوم، و0.8 طن من الإيتريوم، فضلًا عن نصف طن لكل من التيلوريوم والسكانديوم والغرمانيوم والهافنيوم على حدة.
جدير بالذكر أن تلك الإحصائيات تعود إلى عام 2005، وبالتالي من المتوقع أن تكون الاحتياطات هذه الأيام أكبر بكثير مما كانت عليه قبل 20 عامًا، بحسب ما ذكرت مجلة “فوربس أوكرانيا” التي كشفت أن مناجم البلاد لا تستخرج أكثر من 10% فقط من الاحتياطيات المؤكدة للمعادن النادرة؛ والاستثمار في هذا المجال سيكون طويل الأمد.
وتشكل عوائد صادرات المعادن قرابة 26.3% من اقتصاد أوكرانيا ونحو 20% من إجمالي الناتج المحلي القومي، قبل اندلاع الحرب مع روسيا في 2022، حيث أدخلت لخزينة البلاد أكثر من 40% من النقد الأجنبي، ما يعدها أحد الأضلاع الأساسية التي يعتمد عليها الأوكرانيون في تيسير شؤونهم الاقتصادية والمعيشية، وذلك قبل أن يأت ترامب ويسعى للحصول على 50% من تلك العوائد تقريبًا من خلال الصفقة المزمع توقيعها.
ماذا عن روسيا؟
بالنظر إلى خارطة تواجد المعادن الأوكرانية يلاحظ أن 70% منها يتواجد في المناطق التي تسيطر روسيا على معظمها، في مقاطعات كل من لوغانسك (تسيطر روسيا على 98% منها) ودونيتسك (تسيطر روسيا على 60% منها) ومقاطعات زاباروجيا (30% منها خاضعة للروس) ودنيبروبيتروفسك (تتعرض لقصف يومي وتوغل بري من القوات الروسية)، في شرق وجنوب شرق البلاد.
حتى المقاطعات الواقعة في الوسط والشمال، بولتافا وتشيرنيهيف وكييف وجيتومير، والتي تحتضن على نسبة كبيرة من المعادن، تتواجد فيها القوات الروسية بين الحين والأخر، حيث دخلتها بداية الأمر في فبراير/شباط 2022، ثم خرجت منها بعد نحو 5 أسابيع من القتال العنيف، وعاودت الدخول مرات ومرات طيلة أيام الحرب.
في ضوء الخريطة الحالية فإن نحو 20% من إجمالي الثروات المعدنية التي تمتلكها أوكرانيا ما بين حقوق ومناجم تقع تحت سيطرة روسيا، كان أخرها منجم “شيفتشينسكي” لمعدن الليثيوم، في مقاطعة دونيتسك، والذي انتقل لسيطرة القوات الروسية مؤخرًا، بحسب المركز الحكومي لأبحاث الجيولوجيا.
الكرملين:
📌 الأراضي التي انضمت إلى روسيا أصبحت جزءا لا يتجزأ منها وهذا غير قابل للنقاش
📌 لا أحد يتوقع حلولا سريعة وسهلة مع أميركا
📌 لا توجد مناقشات جوهرية حتى الآن بشأن التعاون بين الشركات الروسية (cont) https://t.co/uka58ZT8kQ pic.twitter.com/EltBJ5e8gr
— الشرق للأخبار – مصر (@AsharqNewsEGY) February 27, 2025
لا شك أن الولايات المتحدة تحاول من خلال تلك الصفقة أن تنوع مصادر الحصول على المعادن النادرة والاستراتيجية والتي كانت تعتمد على الصين، خصمها اللدود، في تلبية 80% من احتياجاتها منها، في ضوء الحرب الاقتصادية المستعرة بين البلدين والتلويح بإشهار ورقة الثروات التعدينية والرقائق وأشباه الموصلات كأسلحة حرب مشروعة في تلك المعركة.
لكن يبقى السؤال: ماذا لو حاول ترامب الحصول على المعادن في المناطق الواقعة تحت سيطرة الروس؟ هل ينذر ذلك بنشوب مواجهات محتملة بين الطرفين؟ أم أن التفاهمات المشتركة سيكون لها دورها خاصة في ظل التقارب الملحوظ مؤخرًا والحديث عن إنهاء الحرب وفرض سلام مشترك برعاية أمريكية؟
من المبكر الإجابة عن تلك التساؤلات لكن المؤكد أن ترامب، بعقلية السمسار التي تهمين عليه، لن يضحي بعلاقاته بروسيا لأجل إرضاء الأوكرانيين، ولن يُلزم نفسه بضمانات وقيود مع كييف تكبله عن مساعيه للتقارب مع موسكو، وهو ما يصعد من مخاوف الرئيس الأوكراني من تحول الاتفاق المزمع إبرامه مع واشنطن لوسيلة يحلب بها الأمريكان ثروات الأوكرانيين دون أي مكاسب أو مزايا محققة، لتصبح المعادن الأوكرانية في النهاية غنيمة يتقاسمها ترامب وبوتين بمعزل عن أصحابها.