“نمد يد السلام إلى جيراننا الدروز في سوريا”، تصريح لرئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بعد ساعات من سقوط نظام الأسد في 8 ديسمبر/كانون الأول الماضي، تلاه سيل من التصريحات والتلميحات الإسرائيلية حول دعم الطائفة الدرزية في السويداء، في خطوة تعكس محاولة تل أبيب لإحياء مشاريعها القديمة الرامية إلى إقامة كيانات طائفية في الجنوب السوري تخدم مصالحها.
هذه التصريحات تزامنت مع تحركات عسكرية على الأرض وميدانية تشمل لقاءات مع قيادات محلية، حسب ما نقلت الصحافة الإسرائيلية، وعروض اقتصادية مغرية، بما في ذلك فتح الحدود أمام الشباب الدرزي للعمل داخل “إسرائيل”، مستغلة الأزمة الاقتصادية التي تعصف بالمحافظة.
لم تكن هذه المحاولات الإسرائيلية جديدة، فتل أبيب ومنذ احتلالها لفلسطين وضعت استراتيجية تقوم على تفكيك المنطقة العربية إلى دويلات قائمة على أسس طائفية، بدءًا من مشاريع دولة درزية في الجنوب السوري، نهايةً بكيانات مسيحية ودرزية في لبنان، بهدف إشعال الصراعات الطائفية في المنطقة، وإبقاء نفسها في مأمن من أي تهديد مستقبلي.
على مدى 51 عامًا، ومنذ توقيع اتفاقية فض الاشتباك عام 1974 بين نظام الأسد وتل أبيب، تمتعت الحدود الإسرائيلية بهدوء مشوب بالتعاون، وهو ما جعل نتنياهو يعترف علنًا بأن الإطاحة ببشار الأسد لم تكن في صالح “إسرائيل”.
لكن منذ أن تولي أحمد الشرع، ذي الخلفيات الجهادية، رئاسة الحكومة السورية الانتقالية، تسعى “إسرائيل” إلى إحياء مخطط السبعينيات لإقامة “دولة درزية” في بلاد الشام، تكون بمثابة درع أمني لها ضد أي تهديد محتمل من الجانب السوري، وتضمن استمرار النفوذ الإسرائيلي في المنطقة.
إحياء خطة “آلون”
منذ بدايات الحركة الصهيونية، اعتمدت “إسرائيل” سياسة “تحالف الأقليات” كأداة لإضعاف الروابط العربية وتقسيم المنطقة إلى كيانات طائفية منفصلة، كان أبرزها مشروع ترحيل وتهجير الدروز من فلسطين إلى جنوب سوريا، بهدف إقامة “دولة درزية” تخدم المصالح الإسرائيلية.
في عام 1939، طرح قادة الصهيونية مشروعًا لتهجير الدروز من مناطق الجليل والكرمل في فلسطين إلى منطقة حوران جنوب سوريا، بهدف توطينهم في كيان مستقل.
كان من أبرز مهندسي هذا المشروع السياسي الإسرائيلي ورئيس بلدية الاحتلال في حيفا آنذاك آبا حوشي، الذي حاول استمالة الزعيم الدرزي سلطان باشا الأطرش لمناقشة إمكانية تنفيذ المخطط.
وكان المشروع الصهيوني يهدف إلى إفراغ مناطق الجليل والكرمل من الدروز وإحلال مستوطنين يهود مكانهم، وإنشاء كيان درزي مستقل في جنوب سوريا في كل من حوران والجولان يكون تحت النفوذ الإسرائيلي، إضافة إلى تحويل الدروز إلى “حزام آمن” بين “إسرائيل” وسوريا لمنع أي تهديد عسكري محتمل من الجانب السوري.
إلا أن المشروع الصهيوني لم يلق تجاوبًا من قبل الزعيم الدرزي الذي كان يؤكد على أن الدروز جزء لا يتجزأ من سوريا، ما أدى إلى إجهاض المخطط.
مع ذلك، لم تتوقف “إسرائيل” عن محاولاتها، فبعد احتلال الجولان عام 1967، أعادت طرح فكرة إقامة “دولة درزية” في الجولان وحوران، مستغلة الوضع العربي المتردي وتهجير سكان الجولان من منازلهم، وكان عراب هذه الخطة وزير العمل الاسرائيلي يغال آلون، برعاية رئيس الوزراء الإسرائيلي ليفي أشكول.
مصادر إسرائيلية وعربية تحدثت عن تفاصيل الخطة، حيث تقول صحيفة “هارتس” الإسرائيلية أن الفكرة الإسرائيلية هي الاستفادة من القرب من جبال الدروز، وهي منطقة مأهولة بكثافة من قبل الدروز على بعد حوالي 40 كيلومترًا من الحدود، للمساعدة في إنشاء دولة مستقلة تفصل سوريا عن “إسرائيل” وتعترف بحكم الأمر الواقع بالوجود الإسرائيلي في الجولان.
في كتابه “طبق نحاس: السياسية الإسرائيلية تجاه الدروز” تناول شمعون أفيفي، وهو ومحاضر في موضوع الدروز وعمل في الماضي كضابط مخابرات، تفاصيل الخطة، حيث يقول إن خلفية اقتراح يغال آليون جاءت بعد التوتر بين ضباط الدروز في السويداء وقيادة الجيش السوري في عام 1966 واتهام الضابط سليم حاطوم بمحاولة الانقلاب إلى جانب إقالة عدد من الضباط من مناصبهم واستبدالهم بآخرين من الطائفة العلوية.
بعد إعدام حاطوم في 24 حزيران/يوليو 1967 في سجن المزة، كتب آلون برقية إلى أشكول صنفت على أنها “سرية للغاية”، واقترح فيها استغلال الوضع الجديد لتنظيم انتفاضة درزية في المنطقة المعروفة باسم “جبل الدروز”، وهو ما من شأنه أن يؤدي إلى إقامة دولة درزية.
وحسب صحيفة “هارتس” الإسرائيلية جاء في الرسالة “بالنظر إلى خصوصية المجتمع الدرزي، وكذلك من حيث أعدادهم والظروف الجغرافية لمنطقتهم السكنية، فإنهم، في رأيي، قد يتمردون ضد دمشق من أجل إقامة دولتهم ذات السيادة”، وأضاف: “وجودنا في مرتفعات الجولان… ليس بعيدًا عن جبل الدروز، يمنحنا فرصة لمساعدتهم في تحقيق تطلعاتهم”، كما اقترح أن تقدم لهم “إسرائيل” التوجيه السياسي والمساعدة العسكرية.
وبعد ثلاثة أيام وصل الرد من رئيس الوزراء الإسرائيلي بالموافقة، ليبدأ آلون بإجراء لقاءات مع قيادات درزية في الجولان المحتل وتخييرهم بين الموافقة على الخطة أو تهجيرهم، ما دفعهم للموافقة ضمنيًا لمنع الترحيل، لكن في الوقت نفسه عملوا على إجهاض المخطط.
وتم اختيار كلًا من عضو البرلمان السوري السابق كمال كنج الملقب بأبو صالح، وهو شخصية درزية بارزة من مجدل شمس في الجولان السوري المحتل، والضابط السابق في الجيش السوري كمال أبو لطيف (لبناني الجنسية) لهذه المهمة.
الكاتب السوري محمد خالد قطمة سرد في كتابه “قصة الدولتين المارونية والدرزية” تفاصيل لقاءات كنج وأبو لطيف مع أحد ضباط المخابرات الإسرائيلية ويدعى “يعقوب” في روما عاصمة إيطاليا.
وبعدما تظاهرا بالموافقة تمكن كنج وأبو لطيف من كشف المخطط الإسرائيلي ومعرفة تفاصيله، وهي: شن هجوم إسرائيلي على جنوب سوريا بهدف الوصول إلى جبل الدروز في السويداء، وإعلان قيام “دولة درزية” تمتد من جنوب سوريا مرورًا بالجولان وصولًا إلى جبال الشوف، على أن تكون عاصمتها السويداء، وتلقى اعترافًا سريعًا من “إسرائيل” والولايات المتحدة.
وتخصيص مبلغ أولي قدره 30 مليون دولار لتمويل هذا المشروع، إضافة إلى نقل دروز الجليل والكرمل إلى الجولان، وتحويل الدولة الدرزية إلى حزام أمني لـ”إسرائيل” تمنع أي تهديد مستقبلي للكيان.
بعد وضوح تفاصيل الخطة تم نقلها إلى مدير المخابرات السورية العقيد عبد الكريم الجندي، والرئيس السوري آنذاك نور الدين الأتاسي، ومؤسس الحزب التقدمي الاشتراكي كمال جنبلاط في لبنان، قبل أن يتم إبلاغ الرئيس المصري جمال عبد الناصر، ليتم تشكيل جبهة شرقية من قبل العراق والأردن وسوريا، التي عززت المحاور التي كانت إسرائيل تخطط للهجوم عليها بقوات عسكرية، لتدرك تل أبيب انفضاح مخططها.
لاحقًا، اعتقلت السلطات الإسرائيلية كمال كنج عدة مرات بسبب نشاطه الوطني، وكان آخرها في 8 أكتوبر/تشرين الأول 1970، حيث حُكم عليه بالسجن لمدة 208 سنوات، قبل إطلاق سراحه في صفقة تبادل أسرى بعد حرب 1973، قبل وفاته في 15 سبتمبر/أيلول 1983.
أما كمال أبو لطيف قتل في 20 يوليو/أغسطس 1985، أثناء اشتباك مسلح خلال قيامه بمهمة إصلاح بين متنازعين في بلدته عيحا بقضاء راشيا في لبنان، وسط أنباء عن اغتياله من قبل “إسرائيل”.
تصريحات استفزازية
تحاول “إسرائيل” اليوم استغلال المشهد السوري المتغير لإحياء مشاريعها القديمة، حيث أطلق رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي تصريحات استفزازية طالب فيها بجعل المنطقة الممتدة جنوب دمشق “منطقة منزوعة السلاح”، مؤكدًا أنه “لن يسمح للجيش السوري الجديد بالانتشار هناك ولن تقبل بأي تهديد لأبناء الطائفة الدرزية في جنوب سوريا”.
سرعان ما تبع هذه التصريحات سلسلة من المواقف المماثلة من وزراء إسرائيليين آخرين، كان أبرزها تصريح وزير جيش الاحتلال يسرائيل كاتس، الذي شدد على أن الجيش الإسرائيلي “لن يسمح للجيش السوري الجديد بالتمركز في المنطقة الأمنية جنوب سوريا”.
وأشار كاتس إلى تعزيز العلاقات مع “المجتمعات الصديقة” في المنطقة، وعلى رأسها الطائفة الدرزية التي وصفها بأنها “طائفة شقيقة لإخواننا الدروز الذين يقاتلون معنا في إسرائيل”، مؤكدًا التزام تل أبيب بتمكينهم من الحفاظ على صلتهم بأقاربهم وشركائهم في التاريخ.
أما وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر، ذهب أبعد من ذلك، حيث صرح بأن “سوريا المستقرة لا يمكن أن تكون إلا فيدرالية تضم مناطق حكم ذاتي مختلفة”، ملمحًا بذلك إلى دعم مشاريع التقسيم، كما اعتبر أن الحكومة السورية الجديدة برئاسة أحمد الشرع “تنتقم من العلويين وتؤذي الأكراد”، مؤكدًا على إصرار “إسرائيل” في تأمين حدودها.
ترافق هذا الحراك السياسي مع تحركات ميدانية، حيث كشفت قناة “كان” الإسرائيلية عن بدء وزارة الجيش الإسرائيلية إجراءات لتنظيم دخول عمال دروز من سوريا للعمل في المستوطنات الإسرائيلية في مرتفعات الجولان، استجابة لطلب قادة المجالس المحلية الدرزية في الجولان لمساعدة أقاربهم في الجانب السوري بعد تدهور الأوضاع عقب سقوط نظام الأسد، حسب ما ذكرت.
ووفقا للخطة، سيتم في المرحلة الأولى استقدام عشرات العمال السوريين للعمل في قطاعات البناء والزراعة داخل القرى الدرزية بالجولان، في خطوة يرى مراقبون أنها محاولة لاستمالة الدروز وتأمين موطئ قدم لـ”إسرائيل” في الجنوب السوري.
من جهتها، نقلت صحيفة “يسرائيل هيوم” الإسرائيلية عن مصدر مطلع أن الجنرال الإسرائيلي اللواء غسان عليان عقد اجتماعات مع قيادات درزية جنوب سوريا، بهدف توثيق العلاقات بين الطرفين.
وأضافت الصحيفة أن “إسرائيل” اقترحت السماح للسكان السوريين بالعمل داخل “إسرائيل” صباحًا والعودة إلى سوريا مساءً، كما عرض الجيش الإسرائيلي منح تصاريح دخول خاصة للعمل في “إسرائيل” برواتب تتراوح بين 75 إلى 100 دولار يوميًا.
وأشارت الصحيفة إلى أن بعض القرى والبلدات جنوب سوريا سبق أن رفضت مساعدات إنسانية إسرائيلية خلال السنوات الماضية، مما يعكس انقسامًا واضحًا حول هذه المساعي.
رفض واسع لمخطط “إسرائيل”
تشير التصريحات الإسرائيلية الأخيرة إلى أن مشروع تقسيم سوريا وإقامة “دولة درزية” لا يزال حاضرًا في ذهن صناع القرار في تل أبيب، في انتظار الظروف المناسبة لإحيائه. ومع ذلك، فإن الموقف الشعبي في محافظة السويداء خلال الأيام الماضية جاء ليؤكد صعوبة تحقيق “إسرائيل” لمخططاتها، مع تصاعد الرفض الشعبي والسياسي لأي تدخل خارجي في شؤون المحافظة.
بعد ساعات من تصريحات بنيامين نتنياهو، أكد الشيخ سليمان عبد الباقي، قائد تجمع “أحرار جبل العرب”، رفضه لأي تدخل خارجي في الشأن السوري، مشددًا على تمسك الدروز بهويتهم الوطنية السورية ورفضهم لأي مشاريع تهدف إلى فصلهم عن دولتهم.
كما عقد الرئيس أحمد الشرع اجتماعًا مع عدد من قادة الفصائل والوجهاء من السويداء، حيث شدد المجتمعون على رفض أي مخطط إسرائيلي يستهدف وحدة الأراضي السورية.
وقال المهندس كرم منذر، أحد الحاضرين في الاجتماع، لموقع “السويداء 24″ إن اللقاء تطرق إلى التصريحات الإسرائيلية الأخيرة، حيث أكد الحاضرون أن أبناء الجبل متمسكون بسوريا الموحدة ويرفضون أي تدخل خارجي في شؤونهم.
وأشاروا إلى أن السويداء تحملت الظلم والاستبداد لعقود، وأن أهلها لا يحتاجون لأي وصاية خارجية، بل يطالبون بدولة قائمة على القانون العادل والمواطنة الحقيقية.
المقابلة الكاملة لشيخ العقل في الطائفة الدرزية حمود الحناوي من مضافته بمدينة #السويداء.
📌ركز الحناوي على أهمية الحوار بين مكونات الشعب وضرورة التوصل إلى حلول من شأنها الحفاظ على وحدة #سوريا.
📌استنكر الحناوي وجود فصائل انفصالية وقال إنه يقف ضدها. pic.twitter.com/WoAZWlL8Q2
— نون سوريا (@NoonPostSY) February 28, 2025
كما خرجت مظاهرات حاشدة في ساحة الكرامة في السويداء، حيث عبّر الأهالي عن رفضهم القاطع للتصريحات الإسرائيلية، ولأي مشاريع انفصالية يتم الترويج لها مؤخرًا، بما في ذلك إعلان “المجلس العسكري في السويداء” الذي يقوده الضابط المنشق طارق الشوفي.
ورفع المتظاهرون لافتات تؤكد على وحدة سوريا وهويتها الوطنية، ومن بين الشعارات التي هتفوا بها: “عرّابو التقسيم.. خسئتم سوريا موحدة” و”الهويّة سوريّة.. والعاصمة دمشق”، و”السويداء لن تكون خنجركم المسموم في ظهر سوريا”
ختامًا، رغم المحاولات الإسرائيلية لإحياء مشاريع التقسيم، جاءت ردود الفعل في السويداء حاسمة وحازمة، تؤكد أن أبناء الجبل لن يكونوا جزءًا من أي مخطط إسرائيلي، وأن أي رهان على التقسيم أو التلاعب بالهويات الطائفية مصيره الفشل.