عند التأمل في الأحداث التي يشهدها الشرق من شمال أفريقيا إلى أفغانستان عامة، وفي منطقة الشرق الأوسط خاصة، يمكن أن نخرج باستنتاجين، الأول هو أن أمريكا تفقد نفوذها في المنطقة تدريجيًا وتتقاعس عن القيام بالدور الذي تعودت على القيام به في السابق، والأمثلة على هذا كثيرة بدءًا من عجزها عن حسم المعركة في سوريا وصولاً إلى رضوخها إلى إذلالات حركة طالبان لها في أفغانستان.
وأما الاستنتاج الثاني فيتمثل في وجود ثلاثة قوى إقليمية محلية تتنافس فيما بينها لأجل قيادة المنطقة وملئ الفراغ الذي نتج عن التغيرات التي عرفتها موازين القوى في العقد الأخير، وفي معركتها هذه تستخدم هذه القوى بشكل مباشر أو غير مباشر ثلاث أدوات محلية صنعها النظام العالمي أو أنجبتها الشعوب خلال نصف قرن من الجمود.
القوى المتصارعة:
الإسلام السياسي والإسلام السعودي والإسلام الفارسي، كلها تسميات لا يحب أصحابها أن تطلق عليهم، ولكن من الممكن استخدامها للإشارة إلى أبرز ثلاث قوى صاعدة في المنطقة حاليًا.
وتيار الإسلام السياسي متمثل اليوم في “تركيا أردوغان” ومَن حولها مِن حلفاء إقليميين ودوليين ومن تيارات محسوبة على جماعة الإخوان المسلمين وعلى الإسلاميين مثل حركة النهضة في تونس وجماعة الإخوان في مصر وحركة حماس في غزة.
وأما تيار الإسلام الفارسي فيتمثل في “دولة إيران” ومن حولها حزب الله اللبناني ومؤسسات وكيانات شيعية منتشرة في جزء كبير من الشرق وتعمل على الانتشار في أجزاء أخرى، ويوصف هذا التيار بأنه “إسلام فارسي” بسبب قيامه بالأساس على القومية الفارسية الحاكمة في إيران.
وأما تيار الإسلام السعودي فتقوده المملكة العربية السعودية وما حولها من دول خليجية أخرى تتبع منهج الفصل بين الشعب والدولة، فيرضى الشعب بكل ما يقرره الملك أو الحاكم المرتكز على شعار “العقيدة”، فيرحب المواطن صباحًا بقرار من الدولة بمحاربة إسرائيل لأنها عدوة للمسلمين، ويقبل مساءً بقرار من الدولة بالتطبيع مع إسرائيل حفظًا لدماء المسلمين.
وأما إسرائيل فلا يمكن أن تعتبر قوة إقليمية حقيقية لأنها لا تمتلك أي عمق تاريخي أو جغرافي أو عرقي في المنطقة على عكس القوى الثلاث الأخرى المتأصلة منذ قرون، ولأن استمراريتها وقوتها معتمدتان بالأساس على الدعم الذي تتلقاه من النظام الدولي (المنسحب حاليًا) وعلى تحالفاتها مع القوى الإقليمية المذكورة.
الأدوات المستخدمة:
“الربيع العربي”، “الأنظمة السابقة”، “تنظيم القاعدة”، هي ثلاث أدوات ولدت من رحم شعوب المنطقة، حيث كانت الأنظمة الديكتاتورية نتيجة لتواكل الشعوب على الحكام، وكان تنظيم القاعدة نتيجة عنيفة لرفض الشعوب لغطرسة الحكام، وكان الربيع العربي نتيجة ثورية لرغبة الشعوب في التحرر، وبدورها تسعى القوى المحلية والدولية إلى توظيف هذه الأدوات واستغلالها لتعزيز وتوسعة نفوذها، ولضرب نفوذ القوى الأخرى ولذلك أمثلة كثيرة.
التيار السعودي مثلاً، وهو معادي للتيار الفارسي الممثل في إيران والتيار السياسي الممثل في تركيا والإخوان، أعلن صراحة معاداته للربيع العربي، واعتمد بقوة على الأنظمة السابقة لضرب الربيع، سواء في مصر عبر دعم الجنرال “عبد الفتاح السيسي” في انقلابه أو في اليمن عبر دعم “عبد الله صالح”، أو عبر ابتزاز السلطات الجديدة في تونس (تحدث عن هذا الرئيس التونسي المنصف المرزوقي مؤخرًا).
وبينما تشير تقارير محلية ودولية عديدة إلى استعانة التيار السعودي بتنظيم القاعدة بطريقة مباشرة أو غير مباشرة لبسط نفوذه في سوريا والعراق على حساب التيار الفارسي، تشير تقارير أخرى إلى استعانة التيار الإيراني بتنظيم القاعدة أيضًا لإرباك الربيع العربي في سوريا وإفشاله من الداخل، كما أعلنت قيادات في حركة النهضة التونسية أكثر من مرة أن حكومتيها (حكومة حمادي الجبالي، وحكومة علي العريض) سقطتا بسبب أفعال تنظيم أنصار الشريعة التابع لتنظيم القاعدة.
وفي المقابل، اعتمد تيار الإسلام السياسي على الربيع العربي، فتجد رئيس الوزراء التركي “رجب طيب أردوغان” يكاد يكون الزعيم الدولي الوحيد الذي لا يزال محافظًا إلى الآن على موقفه العلني من رفض الانقلاب العسكري في مصر ودعم القوى المعادية له، كما قام خلال السنتين الماضيتين بتقديم مساعدات متتالية لحكومتي حركة النهضة في تونس.
وكذلك تقوم دولة قطر بدعم تيار الإسلام السياسي عبر نفوذها السياسي في أوروبا وعبر وسائل الإعلام الخاصة بها مثل قناة الجزيرة وغيرها من القنوات، وكذلك عبر استضافة أبرز قيادات الإخوان المسلمين ونشطاء الثورة المصرية الملاحقين من قبل السلطات الجديدة في مصر.
الحلول الممكنة:
عند حدوث انقسامات مشابهة في أي منطقة جغرافية ضيقة مثل الشرق الأوسط، تكون الحلول التي تذهب لها الأذهان ببداهة هي التوحد والاتحاد أو على الأقل الهدنة، ولكن هذا لا يبدو ممكنًا ولا مأمولاً في الوقت الراهن، لأن أي تحالف بين هذه القوى -مهما كان هشا- سيؤدي بطريقة مباشرة إلى إنهاء دور إسرائيل في المنطقة، ولا إسرائيل ولا القوى الدولية مستعدون للسماح بهذا.
ولكن ما يبدو ممكنًا نسبيا هو حدوث اتحاد ثنائي، حيث اقتربت هذه القوى في لحظات كثيرة من الجلوس على طاولة واحدة، خذ مثلاً الزيارات التركية الإيرانية التي تكثر فجأة وتنقطع فجأة، أو الزيارات الإيرانية الخليجية التي شهدت انفراجة في الأشهر الأخيرة وجعلت المحللين يتحدثون عن حلف سعودي يوشك على التشكل.
غير أن هذه التحالفات تبقى صعبة التحقق حاليا، لأن اتفاقا بين تركيا وإيران مثلاً أو بين إيران والسعودية أو حتى بين السعودية وتركيا، حتى وإن كان قائما على الحد أدنى من التفاهمات، فإنه سيؤدي بشكل مباشر إلى دفع القوة الثالثة إلى التحالف مع القوى الدولية لإفساده لأنه في حال نجاحه سيهمش بشكل كبير القوة الثالثة ويخرجها من دائرة التأثير في المنطقة، وهذا ما يفسر المفاجآت التي تقع كلما اقتربت قوتان من بين القوى الثلاث من عقد تفاهم لا يشمل القوة الثالثة.
وأما الخيار الأسهل من الخيارين الأولين فيتمثل في عقد صفقة بين إحدى القوى المحلية وإحدى القوى العالمية الفاعلة، وهو ما أوشك على الوقوع في الصيف الماضي عندما أعلن الرئيس الأمريكي عن قرب توجيه أمريكا ضربة جوية لسوريا، وعندما تحدثت تقارير إعلامية عن صفقة عقدتها المملكة العربية السعودية مع أمريكا لحسم الصراع لصالح السعودية وممثليها هناك. وهو أيضا ما أوشك على الحدوث بعد تفاهمات القوى الدولية مع إيران حول ملفها النووي. وهو أيضا ما تسعى تركيا إلى فعله عبر محاولاتها المتكررة للاستعانة بحلف الناتو لحسم المعركة في سوريا وكذلك في العراق مؤخرا.
وأما الخيار الواقعي والمطروح دائمًا فهو استمرار الصراع إلى أن تحسم المعركة لصالح إحدى هذه القوى ولن يكون ذلك سوى عبر انهيار إحداها.
ملاحظة: إن أسوأ خلاصة يمكن أن تخرج بها من هذا التقرير هي “الوقوف على الحياد”، وأسوأ منها البحث عن “قوة رابعة”.