بعد نحو ستة أشهر من اندلاع المعارك في ليبيا على أطراف العاصمة طرابلس بين قوات اللواء المتقاعد خليفة حفتر الموالية لبرلمان طبرق (شرق)، وقوات حكومة الوفاق المعترف بها دوليًا، بات تحقيق الحسم العسكري عسيرًا، خاصة أن الحرب تراوح بين الهدوء والتصاعد بسبب توازن القوى على الأرض، فيما ساهم جمود المسار السياسي في تفاقم الأزمة وتعقيدها.
وعلى الرغم من التحركات الدولية باتجاه البحث عن حلول لوقف الحرب وإعادة الفرقاء السياسيين إلى طاولة المفاوضات، وآخرها اجتماع الدول الكبرى بما فيها إيطاليا وألمانيا والدول الخمسة دائمة العضوية في مجلس الأمن، على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، بهدف كسر الجمود وتمكين خطة المبعوث الأممي من تحقيق السلام والاستقرار السياسي، فإنها اصطدمت بتمسك طرفي النزاع بالحوار المشروط.
وتأتي الخطوة في إطار دفع جهود غسان سلامة لحل الأزمة وممارسة نوع من الضغط السياسي على جميع الأطراف الرئيسية التي تدعم أطراف النزاع، من أجل إيقاف الاقتتال والحرب بالوكالة، وضمن التحضير لقمة ألمانية مرتقبة في الأيام القادمة.
يرى مراقبون أن لألمانيا أدوارًا ديناميكية عبر دبلوماسيتها “الهادئة والجادة” في تسوية نزاعات معقدة في منطقة شمال إفريقيا، عبر مبعوثين ضمن مهمات أممية في الأزمة الليبية
وكان سفير ألمانيا لدى ليبيا، أوليفر أوفكزا، كشف أن بلاده تهدف إلى استضافة مؤتمر عن ليبيا هذا العام بالتعاون مع الأمم المتحدة لمحاولة إرساء الاستقرار في هذا البلد، وقال: “بدأت ألمانيا من أجل ذلك عملية تشاور مع أطراف دولية رئيسية مع وجود أعمال تحضيرية كافية قد تقود هذه الجهود إلى حدث دولي مهم هذا الخريف”.
وفي ذات السياق، يرى مراقبون أن لألمانيا أدوارًا ديناميكية عبر دبلوماسيتها “الهادئة والجادة” في تسوية نزاعات معقدة في منطقة شمال إفريقيا، عبر مبعوثين ضمن مهمات أممية في الأزمة الليبية، ولها دراية بالملف الليبي وتعقيداته من خلال قراءات وتقارير حملها في وقت سابق “مارتن كوبلر” المبعوث الأممي إلى ليبيا (17 من نوفمبر/تشرين الثاني 2015 – 1 من يوليو/تموز 2017)، ستمكنها من إنجاح المبادرة عبر توافقات الحد الأدنى.
آفاق مؤتمر برلين
وفي تصريح لـ”نون بوست” قال المحلل السياسي الليبي عصام الزبير: “المبادرة الألمانية لافتة للأنظار خاصة أن دبلوماسيتها لم تنحاز لأي طرف في الصراع ولم تدعم جهة على حساب أخرى والتزمت بالشرعية الدولية وقرارات الأمم المتحدة”، مضيفًا: “باريس متخوفة من دخول برلين على الخط لذلك سارعت إلى التقارب مع روما وسعت لإقامة مؤتمر لحل الأزمة الليبية قبيل انعقاد اجتماعات ألمانيا من أجل تشتيت الجهود الدولية وفرض أجندتها الداعمة لحليفها حفتر، وهي تعلم جيدًا أن ألمانيا قوة كبيرة في الاتحاد الأوروبي ولها ثقلها السياسي وهي قادرة على تقريب وجهات النظر وإعادة المسار الانتقالي في ليبيا”.
وأشار الزبير إلى أن باريس فقدت مكانتها كوسيط يحظى بثقة الليبيين بعد دعمهم المفضوح للواء المتقاعد من خلال الأسلحة التي عُثر عليها في مدينة غريان، والاتهامات المباشرة التي ساقها رئيس حكومة الوفاق فايز السراج أمام الجمعية العمومية للأمم المتحدة، في المقابل فإن المبادرة المرتقبة التي ستطرحها ألمانيا قد تكون طوق نجاة لليبيين وفرصة أخيرة لإعادة بناء دولة متماسكة من الجنوب إلى الشمال”.
أكد الكاتب والمحلل السياسي الليبيي فرج أحميد في تصريح لـ”نون بوست” أن تعدد المبادرات والوساطات أضر كثيرًا بآفاق الحل في ليبيا، إضافة إلى كثرة الفاعلين والداعمين لطرفي الصراع
وأوضح المحلل السياسي الليبي أن “ألمانيا من أكثر الدول الراعية لحقوق الإنسان ورافضة لمشروع عسكرة ليبيا بتشجيعها على تنظيم انتخابات ديمقراطية، وإقامة مؤسسات دستورية تحفظ كيان الدولة من التقسيم، ومبادرتها ستلقى قبولًا على المستويين المحلي والدولي، وستضع حفتر وداعميه (فرنسا الإمارات السعودية ومصر) في زاوية وستفضح مخططهم (وأد ثورة 17 فبراير وزرع سيسي جديد في ليبيا)”.
وفي سياقٍ ذي صلة، أشار الزبير إلى أن “برلين لها سياسة واضحة في التعامل مع الملفات الساخنة داخل الاتحاد الأوروبي كالهجرة غير الشرعية، وتعتبر أن حل هذه المعضلة يكمن أساسًا في استقرار وأمن ليبيا، وذلك عكس التصور الإيطالي والفرنسي، والأخيرة تُعول على الفوضى ودعم الحرب بالوكالة”.
من جانبه، أكد الكاتب والمحلل السياسي الليبيي فرج أحميد في تصريح لـ”نون بوست” أن تعدد المبادرات والوساطات أضر كثيرًا بآفاق الحل في ليبيا، إضافة إلى كثرة الفاعلين والداعمين لطرفي الصراع، مضيفًا أن الوضع يختلف تمامًا مع ألمانيا التي أبدت حيادها الكامل في الملف والتزمت بقرارات الأمم المتحدة والشرعية الدولية.
وبحسب أحميد، فإن مؤتمر برلين المرتقب هو امتحان للدبلوماسية الألمانية “الجادة” وللفاعلين الدوليين كإيطاليا وفرنسا بدرجة أولى ثم الإمارات ومصر وتركيا، ومدى التزامهم بمخرجاته.
ورقات برلين الـ5
يرى مراقبون أن مبادرة ألمانيا المرتقبة لن تختلف عن مسار بعثة الأمم المتحدة إلى ليبيا وخطة رئيسها غسان سلامة المتمثلة في 3 نقاط إعلان هدنة (وقف الأعمال العسكرية)، ثم عقد اجتماع دولي يضم البلدان المعنية بالوضع الليبي، يعقبه اجتماع ليبي يضم شخصيات بارزة ومؤثرة من جميع أنحاء البلاد للاتفاق على عناصر الاتفاق الشاملة، إلا أن برلين ستدفع بكل ثقلها لإيجاد حل للأزمة عبر القنوات الدبلوماسية وموقعها داخل الاتحاد الأوروبي.
ستلعب برلين بورقة الحياد وعدم انخراطها في الصراع لبناء جسور الثقة مع الفرقاء الليبيين وإقناعهم بالجلوس إلى طاولة المفاوضات دون شروط مسبقة، وضم ما يكفي من الحلفاء لضمان تطبيق المبادرة
وفي خطوة أولى، ستحاول برلين عن طريق ممارسة ضغوطها لتقريب وجهات النظر بين الدول المتعارضة من خلال العلاقات القوية التي تتمتع بها ألمانيا مع كل من تركيا ومصر، وهما طرفان فاعلان لكنهما يقفان على طرفي نقيض في الأزمة الليبية.
وكان تطور الموقف التركي من الصراع الليبي، الذي أعلنه في وقت سابق المتحدث باسم الرئاسة إبراهيم قالن عقب اجتماع دعت إليه المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بتأييد بلاده وقفًا لإطلاق النار، شرط مراقبته دوليًا، وتأكيده إمكانية تحقيق الحل السياسي في ليبيا بمشاركة جميع الأطراف، إشارة على تجاوب أنقرة مع الخطة التي وضعها الساسة الألمان، فيما قال الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي: “آن الأوان لوقفة حاسمة تعالج جذور المشكلة الليبية بشكل كامل من خلال الالتزام بالتطبيق الكامل لجميع عناصر خطة الأمم المتحدة”.
ثانيًا، التركيز على بناء مواقف توافقية بشأن وقف الأنشطة الدولية المغذية للحرب وكبح محفزاتها وخلق كتلة تساهم لاحقًا في دعم وساطة غسان سلامة.
ثالثًا، ستعمل ألمانيا على اختيار توقيت طرح مبادرتها ومن المرجح أن يكون إعلانها خلال مؤتمر قمة الاتحاد الأوروبي المقررة يومي 17 و18 أكتوبر تشرين الأول، وعكس مبادرة باليرمو (إيطاليا) ستكون الأزمة الليبية على جدول أعمالها من أجل إيجاد توافق داخل التكتل ورسم سياسة موحدة تُنهي تنافس فرنسا وإيطاليا أصحاب مصالح النفط والغاز في ليبيا.
رابعًا، ستلعب برلين بورقة الحياد وعدم انخراطها في الصراع لبناء جسور الثقة مع الفرقاء الليبيين وإقناعهم بالجلوس إلى طاولة المفاوضات دون شروط مسبقة، وضم ما يكفي من الحلفاء لضمان تطبيق المبادرة.
يأتي تحرك ألمانيا في وقت يشهد فيه الاتحاد الأوروبي تجاذبات على المستوى الداخلي (خروج بريطانيا من التكتل) وضعف كبير على الصعيد الخارجي
أخيرًا، فإن تزايد دعوات داعمي حفتر للوصول إلى حل دبلوماسي بعد عجزه على تحقيق الحسم العسكري إضافة إلى تقهقر قواته جنوبًا وضعفها شرقًا، وإعلان دول أخرى في شمال إفريقيا قلقها بشأن الاستقرار في ليبيا، ودعوة “المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا” بوضوح إلى حل عاجل، قد تُعطي المبادرة الألمانية زخمًا دوليًا ودفعة نحو إحياء المسار السياسي.
إلى ذلك، يأتي تحرك ألمانيا في وقت يشهد فيه الاتحاد الأوروبي تجاذبات على المستوى الداخلي (خروج بريطانيا من التكتل) وضعف كبير على الصعيد الخارجي (فسح المجال لقوى إقليمية وعالمية أخرى لعب أدوار أكثر فعالية).
كما يهدف أيضًا، وفق خبراء ومراقبين، إلى إحياء مكانتها كقوة كبرى لها وزن سياسي مؤثر في محيطها الأوروبي والعالمي، ويأتي في سياق اهتمامها المتزايد بالقارة الإفريقية وانفتاحها الاقتصادي رغم شراسة المنافسة التي تفرضها قوى عالمية وإقليمية بدءًا من الولايات المتحدة والصين ووصولاً إلى تركيا، وترى برلين ليبيا بوابة نحو إفريقيا التي تمثل مستقبل اقتصاد واعد (ثمانية من أسرع 12 اقتصادًا نموًا في العالم توجد في إفريقيا، كما تفيد بذلك تقارير مؤسسات اقتصادية دولية).