احتلَّت الأندلس مكانةً هامّةً وحظيت باهتمام كبير من قِبَل الباحثين والكُتّاب والروائيين، لما تمثله في الوجدان الإنساني، خاصةً بالنسبة للعرب والإسبان، فقد اعتُبرت عربيًا، كما وصفها أمين السر الدائم لأكاديمية المملكة المغربية، عبد الجليل لحجمري، “رمزًا للهوية المثالية ومصدرًا للحنين والتأمل في أسباب السقوط، كما أنها تحضر في الأدب والفن باعتبارها صورة لثنائية الأمل والخيبة، حين تتشابك معاني الحنين والأسى بهُوية ثقافية تجمع بين استذكار الازدهار واستيعاب دروس الانهيار”. كذلك، تعدّ الأندلس صلة وصل جوهرية في العلاقة بين الشرق والغرب.
تناولت العديد من الروايات تاريخها، متطرقةً إلى حياة الأندلسيين وإنجازاتهم، إضافةً إلى مأساتهم الكبرى بعد سقوطها، حيث وجدوا أنفسهم أمام خيارين لا ثالث لهما: التنصّر أو الرحيل.
ولعلّ المتفحص لروايات الأندلس – رغم كثرتها – يلحظ أنها تتناول الموضوع من خلال مرحلتين: الأولى تنطلق من حقبة ازدهار الأندلس حضاريًا وفكريًا وعمرانيًا، حين كانت نموذجًا للتعايش الديني والثقافي النادر، أما الثانية فترصد تاريخ تراجعها وانهيارها والأوضاع التي أعقبت سقوطها، وهي المرحلة التي تطغى على النصوص العربية والإسبانية.
وتبرز في الرواية العربية رغبة في إظهار المأساة الأندلسية الناتجة عن القمع والتعذيب والطرد الجماعي، وهو ما يصطدم برغبة الرواية الإسبانية في الاحتفاء باستعادة الأندلس من المسلمين بعد قرون طويلة، امتدت من عام 711م إلى غاية عام 1492م مع سقوط غرناطة.
بين وفرة النصوص الروائية وتواضع المواكبة النقدية
على الرغم من وفرة الروايات التي اتخذت من الأندلس موضوعًا لها، وسعت إلى استعادة تاريخها تخييليًا، إلا أن هناك فراغًا ملحوظًا في مواكبتها نقديًا.
يلاحظ الناقد المغربي سعيد الفلاق في هذا السياق، أن الساحة النقدية العربية تفتقر إلى دراسات مماثلة لدراسة “الحياة الأخرى للأندلس: أيبيريا الإسلامية في السرود العربية والإسبانية المعاصرة”، التي سعت من خلالها الأستاذة المشاركة في قسم اللغات والآداب الحديثة بجامعة ميامي في ولاية فلوريدا، كريستينا سيفانتوس، إلى دراسة حضور الأندلس في نماذج من النصوص العربية والإسبانية.
يُستثنى من ذلك دراسة وحيدة لدكتور الأدب والنقد والأدب المقارن بجامعة الإسكندرية، مراد حسن، عباس بعنوان “الأندلس في الرواية العربية والإسبانية”، إذ تُعنى معظم الكتب النقدية بدراسة روايات الأندلس بشكل منفرد.
مثال على ذلك، كتاب “التخيل التاريخي: السرد والإمبراطورية والتجربة الاستعمارية” لعبد الله إبراهيم، حيث تناول في الفصل الثالث رواية “ثلاثية غرناطة” لرضوى عاشور، ولكن بشكل مقتضب، كما نجد كتاب “التأريخي والسردي في الرواية العربية” لفاضل ثامر، الذي توقف فيه عند ثلاثين رواية، من بينها خمس تتناول موضوع الأندلس.
سعى الناقد المغربي سعيد الفلاق، الحاصل على الدكتوراه في الآداب، من خلال إصداره الجديد “تخييل الأندلس: سرد التاريخ بين الواقع والإيديولوجيا في الرواية العربية والإسبانية”، الذي يندرج ضمن ما يمكن تسميته بـ “نقد رواية الأندلس”، إلى دراسة تمثيلات تاريخ الأندلس في الرواية العربية والإسبانية.
وقد اعتمد في دراسته على نموذجين عربيين هما رواية “ثلاثية غرناطة” لرضوى عاشور، و”البيت الأندلسي” لواسيني الأعرج، بالإضافة إلى نموذجين إسبانيين هما رواية “المخطوط القرمزي” لأنطونيو غالا، و”قبر المنفي” لخوسيه ثونيغا.
الأندلس بين الرواية العربية والإسبانية
عملت الرواية التاريخية على استيعاب التاريخ دون أن تنطلق من المرجعية ذاتها التي يعتمدها. فإذا كان التاريخ، كما يقول سعيد الفلاق، “يمجّد الوثيقة والمرجع”، فإن الرواية، بوصفها “مملكة الشك” كما ألمح إلى ذلك خوان غويتيسولو، رغم استفادتها مما تتيحه مدوّنات التاريخ من أحداث وشخصيات، فإنها نزعت عنه قدسيته وجعلته محلّ شك، باعتباره مكتوبًا من قِبَل المنتصرين.
واستنادًا إلى المنجز السردي للروائية المصرية رضوى عاشور، التي بدأت في كتابة التاريخ سرديًا منذ بداية الثمانينيات، يشير الفلاق إلى أنها كانت واعيةً بأن الرواية هي النوع الأدبي الأكثر اشتباكًا بالتاريخ، حيث “يقدر على اختراق خطابات لا حصر لها، وتمثيل التاريخ وتقديمه في قالب محبوك يتجاوز تأثيره ودقة وصفه ما قد يقدّمه المؤرخ نفسه”.
كما يلاحظ الناقد المغربي الحاصل على جائزة كتارا سنة 2022، أن المنجز الروائي للأديب الجزائري واسيني الأعرج يغلب عليه حضور التاريخ، خاصة في “كتاب الأمير” و”البيت الأندلسي” و”ميْ”، إذ يظهر في هذه النماذج –حسب الفلاق- “ميله الواضح إلى تأليف التاريخ وتخييله، وإعادة كتابته من جديد.”
بالإضافة إلى ذلك، يؤكد سعيد الفلاق أن التاريخ – وتاريخ الأندلس خاصة – شكّل مجالًا خصبًا للكتابة السردية والتاريخية الإسبانية، موضحًا أن “أكثر ما أُلّف عن الأندلس يعود أساسًا إلى الكُتّاب الإسبان، الذين يعتبرون هذا الفضاء الجغرافي والتاريخي جزءًا لا يتجزأ من الوجود الإسباني”.
يلاحظ الفلاق أيضًا أن أغلب الكتابات الإسبانية حول الأندلس والموريسكيين “يطبعها الانحياز والتعصّب والمغالاة في الحسّ والهوية الوطنية، بما ينافي أي اعتراف بأحقية وجود المسلمين في شبه الجزيرة الإيبيرية”.
المأساة الموريسكية من زاويتين
في محاولته دراسة سرد التاريخ بين الواقع والإيديولوجيا في الرواية العربية والإسبانية، توقّف سعيد الفلاق عند أربع روايات من الأدبين العربي والإسباني، مقدّمًا خلاصاته واستنتاجاته بشأنها.
ففي الوقت الذي عملت فيه روايتا “ثلاثية غرناطة“ و“البيت الأندلسي“ على تمثيل المأساة الموريسكية منذ سقوط غرناطة إلى غاية الطرد الأكبر و“ما صاحب ذلك من مراسيم وقوانين هدفت إلى تذويب الهوية والحضارة الإسلامية، وتحويل الشعب الأندلسي إلى مسيحيين جدد” عن طريق دمج عناصر متخيلة بأخرى تاريخية، أو إدراج حدث تاريخي في نسيج متخيّل، أو التقاط معلومات وردت في دراسة تاريخية لتتحول إلى مشهد مفصل.
في المقابل، تعيد رواية “المخطوط القرمزي” لأنطونيو غالا تخييل السيرة الذاتية لأبي عبد الله الصغير، آخر ملوك غرناطة، عبر تتبّع مختلف المراحل والتحوّلات التي مرّ بها منذ صغره حتى لجوئه إلى فاس بعد سقوط غرناطة.
أما رواية “قبر المنفى” لخوزيه ثونيغا، فتعمد إلى تحرير تاريخ ثورة الموريسكيين في جبال البشرات عقب سقوط غرناطة، وما أعقب ذلك من مراسيم وقرارات ملكية هدفت إلى تقويض الوجود الموريسكي في شبه الجزيرة الإيبيرية بشكل تام ونهائي، بعد فرض اعتناق المسيحية على المسلمين واليهود.
وإذا كانت الروايتان العربيتان اللتان درسهما الفلاق قد سعتا إلى كتابة تاريخ موازٍ لم تتطرق إليه أغلب المصادر الإسبانية، بهدف التعريف بمعاناة الموريسكيين في المقاومة والتهجير والشتات، بعيدًا عن القومية الضيقة، فإن الناقد المغربي لاحظ، في المقابل، أن النموذجين الإسبانيين عملا على أدلجة التاريخ، ففي روايته، يمرر أنطونيو غالا “الكثير من المعطيات والمعلومات التي تهدف إلى تقويض الوجود العربي في الأندلس”.
ويضيف الفلاق أن غالا سعى إلى محو الشخصيات التاريخية العربية والأمازيغية، إما بإرجاعها إلى أقوام آخرين، أو بحذفها من التاريخ نهائيًا، معتبرًا إياها مجرد “اختراع عربي لإضفاء الشرعية على انتصارات وهمية”.
كما يشير الباحث إلى أن الكاتب الإسباني لا يتوانى عن التحامل على العرق العربي والأمازيغي، مقابل الإعلاء من الهوية الإسبانية المنغلقة، التي لا تؤمن بآثار الأمم الأخرى، وذلك من خلال “إنشاء ذاكرة تاريخية سردية ضيقة، تتماشى مع الإيديولوجيا القومية الإسبانية المتعصبة، الساعية إلى تأسيس ذاكرة جمعية قوامها الإقصاء، والتملك، والتلاعب بالتاريخ”.
يواصل سعيد الفلاق تحليله لرواية “قبر المنفى” لخوزيه ثونيغا، ليخلص إلى أن استعادة التاريخ فيها بقيت رهينة بإعادة قراءة الماضي وفق رؤية إسبانية لا ترى في الموريسكيين سوى متمردين ومجرمين، مشيرًا إلى أن ثونيغا تغاضى عن ممارسات المسيحيين أو قدمها بليونة، بل وسعى إلى تبريرها”.
مما أثار انتباه سعيد الفلاق في هذه الرواية أيضًا أن كاتبها يحمل الموريسكيين “مسؤولية القضاء على التعايش المشترك بين المسلمين والمسيحيين”، حيث يركّز على “انتهاكات الموريسكيين الذين يحرقون الكنائس، ويقتلون المقيمين في مناطقهم بغض النظر عن جنسهم أو أعمارهم أو حالتهم”.
ولتفادي التعميم، يقول الفلاق في كتابه: “لئن كان غالا وثونيغا يمثلان الاتجاه المتعصب، وإن بنسب متفاوتة، فإن كُتّابًا إسبانيين آخرين يقفون على النقيض، أبرزهم خوان غويتيصولو، الذي يدعو إلى فكّ العُقد، وإقامة علاقات بعيدة عن العداء التاريخي”.
ويضيف الفلاق: “ولن يتحقق ذلك إلا من خلال الاعتراف بالتاريخ المظلم للإسبان المسيحيين في العصور الوسطى ضد الموريسكيين، وما تخلّله من جرائم عنف وإبادة جماعية وتهجير قسري، إضافةً إلى تقديم تمثيل سردي وتاريخي منصف للقضية الموريسكية بجميع أبعادها”.
تظل الأندلس في الرواية العربية والإسبانية فضاءً مشحونًا بالتاريخ والهوية والصراع السردي بين الحقيقة والتخييل، ففي حين تسعى الرواية العربية إلى استعادة المأساة الموريسكية وتوثيق المعاناة، تعمل الرواية الإسبانية في كثير من الأحيان على إعادة تأويل التاريخ وفق رؤى قومية، وبين هذين السردين، يبقى الأدب مرآةً للصراع بين الذاكرة والإيديولوجيا.