موريس بلانشو الكاتب الفرنسي والناقد الأدبي الذي يعمل متخفيًا في فلسفة اختارها لتصاحب أسلوبه في الكتابة، معروف أنه منظر أدبي أكثر من مبدع روائي، ومتأثر جدًا بكل من نيتشه الفيلسوف الألماني الشهير وجورج باتاي ومارتن هايدغر، فكتابات بلانشو أثرت كثيرًا في الحركة ما بعد البنيوية وأصحابها جيل دولوز وميشيل فوكو وجاك دريدا.
بلانشو وأسئلة الكتابة
في كتابه الشهير (أسئلة الكتابة) الذي يعتبر رغم عدد صفحاته القليلة التي كانت في الأصل مقالات كُتبت على فترات متباعدة، مدخلاً مهمًا لا غنى عنه لأي كاتب وناقد ومُترجم.
موريس المتوفي عام 2003، عاش أكثر من 95 عامًا، وظل لفترة طويلة أحد أكثر الشخصيات الغامضة في الأدب المعاصر، ولم يُعرف إلا القليل حتى وقت قريب عن حياته
تُرجم الكتاب للغة العربية على يد كل من نعيمة بنعبد العالي وعبد السلام بنعبد العالي، في دار توبقال للنشر، ضمن سلسلة المعرفة الفلسفية، ترجمة سلسة ومُراعية للمصطلحات وأسلوب بلانشو والاحتياج الكبير للرجوع للكثير من المصادر لفهمه ولإخراج ما كتبه مماثلًا للغته الأصلية.
موريس المتوفي عام 2003، عاش أكثر من 95 عامًا، وظل لفترة طويلة أحد أكثر الشخصيات الغامضة في الأدب المعاصر، ولم يُعرف إلا القليل حتى وقت قريب عن حياته، في كتابه، ترك مقالين كاملين عن الترجمة، الأول معنون بـ(مترجم عن) والثاني (فعل الترجمة)، عارضًا فيهم نظرته ورؤيته للترجمة والمترجمين، كذلك بعض الآراء الأخرى لكُتَّاب وفلاسفة ونقاد.
إن مهمة الترجمة، مهمة محفوفة بالألغاز، والمترجمون كما قال موريس بلانشو في كتابه (أسئلة الكتابة) هم معلمو الخفاء لثقافتنا، واعترافنا بفضل أولئك لا يعطيهم حقهم، ذلك لأن اعترافنا يظل صامتًا، لا يقدر مدى تفانيهم لإخراج النص لنا، مماثلًا للغته الأصلية.
محاولة إيجاد تعريف للأدب
يحاول دائمًا الروائيون والشعراء والنقاد، إيجاد معنى الأدب وأن يعطوا تعريفًا له يشبعهم ويرضيهم، ذلك من منطلق أنهم مُنشغلون به ومهتمون بكل جديد فيه، وما يطرأ عليه من أحوال وما يدخله من كتابات جديدة ومختلفة، ومدارس تظهر وأخرى تختفي، ونحن نقع في خطأ كبير حين لا نُشرك المترجمين مع هؤلاء المهتمين بإيجاد تعريف للأدب، فهم شركاء بكل الأحوال لإيجاد معنى له مع باقي المنشغلين به.
هناك بعض الكُتَّاب الذين يرفضون أن يُترجم أدبهم للغات أخرى، لكثير من التخوفات، يعبرون عنها أحيانًا ويرفضون الإفصاح عنها في أحيان أخرى
البعض يعتبر فعل الترجمة درب من الخيانة، وهي نظرية لا يتبناها الكثير، إذ بالترجمة يطلع الآخرون على لغات وتراث شعوب أخرى، وبالتأكيد هذا الادعاء ادعاءً شيطانيًا، يماثل السخرية، إذ كيف ترفض أن يطلع الآخرون على لغتك وتراثك؟
أيضًا هناك بعض الكُتَّاب الذين يرفضون أن يُترجم أدبهم للغات أخرى، لكثير من التخوفات، يعبرون عنها أحيانًا ويرفضون الإفصاح عنها في أحيان أخرى، على النقيض يوجد من يسمح ويرحب أن يترجم أدبه، لأن في ذلك شهرته ووصول ما كتبه ليد أخرى في بلد بعيد أو قريب، وتحقيق غاية ما كتبه، الأول هو شخص يرفض أن يشارك منتجه مع باقي البشر، والثاني يرحب أن يشارك منتجه مع الكل، حتى يتثنى للجميع حبه أو رفضه ونقده أيضًا، بهذا يتكون الفكر عن طريق المشاركة.
فالتر بنيامين ومهمة المترجم
فالتر بنيامين الأديب والناقد وعالم الاجتماع الألماني، له مقالة بعنوان (مهمة المترجم) تناوله موريس بلانشو في كتابه (أسئلة الكتابة) مُعلقًا عليها، وآخذًا برأي فالتر، ويضيف عليها أحيانًا أخرى.
فالتر في مقالته هذه، التي تناولها موريس، يذكر بأن اللغات جميعها تشير إلى الواقع نفسه، بأنحاء مختلفة، وإذا اعتبرنا كل لغة على حدة، فإنها تبدو ناقصة، وهذا يجعلنا نعود إلى نقطة أن اللغات جميعها حين تتلاقى من خلال الترجمة والحوار، تصنع الفكر، فالمترجم يعيش على الاختلاف بين اللغات، كل ترجمة تقوم على هذا الاختلاف، حتى إن بدت ترمي إلى حذفه وإلغائه.
الاقتراب من الكمال
حين نعبر عن عمل مترجم متقن، نقول إنه من الاتقان بحيث لا يبدو مترجمًا، أو نقول إنه العمل نفسه. في هذه اللحظة حين نورد هذه الجملة أو تلك، نعطي المترجم أرفع شهادة ووسام من الممكن أن يقلد به، فهو أعطانا شيئًا يقترب من الكمال أو هو الكمال نفسه، قائلين: هذا هو الأصل في لغته، وهذه هي الترجمة، انظر لا فرق!
فالتر في مقالته هذه، التي اعتبرها كثيرون من بعده، بمثابة نظرية في الترجمة، بين فيها أن الترجمة تعبر بشكل أساسي عن الرغبة العميقة المسكونة في كل لغة من اللغات من أجل تجاوز فرديتها وتاريخيتها، وتحقيق المصالحة الشاملة والكلية للغات
طبقًا لما قاله فالتر في المقالة، وما تكلم عنه موريس في مقالته، فإن في الحالة الأولى أُلغي أصل العمل لفائدة اللغة الجديدة، وفي الثانية نضحي بأصالة اللغتين معًا لفائدة العمل، فالتر هنا يؤكد أن في الحالتين هناك ضياع لشيء جوهري.
المهمة الأساسية للترجمة
فالتر في مقالته هذه، التي اعتبرها كثيرون من بعده، نظرية في الترجمة، بين فيها أن الترجمة تعبر بشكل أساسي عن الرغبة العميقة المسكونة في كل لغة من اللغات من أجل تجاوز فرديتها وتاريخيتها، وتحقيق المصالحة الشاملة والكلية للغات، فهو يرى أن المهمة الأساسية للترجمة، هي تحرير اللغة الصافية والآدمية المحتجبة والمستترة وراء اللغات.
وفالتر مهتم منذ بداية كتابته باللغة، فالناقد راينير روشليتز يصف نظرية فالتر عن اللغة، بأنها مثالية البنية وغيبية الاستلهام ورومانسية المصدر، وهي ـ إلى جانب كونها وسيلةً للتعبير ـ تتمتع بـ”القدرة على كشف جوهر الإنسان، فكلمة الشاعر ونثر الكاتب اللذان يسميان الأشياء في حقيقتها، هما إذًا الشكل الأصيل للغة”.
مقالة مهمة المترجم لدى فالتر لا تبحث في آليات ومشكلات الترجمة بمعناها المعروف، بل يعالج من خلالها قابلية النصوص العظيمة، على أن تحمل دائمًا معنى جوهري يمثل التحدي والحافز الحقيقي للترجمة.
المشكلة أو المشقة التي واجهها فالتر في مقالته، هو إيجاد طريقة توافق بين اللغات.
أداة للتقريب بين اللغات
الترجمة تبدو لي كثيرًا أداة للتقريب بين لغتين، ومحاولة جادة للمساعدة على قراءة الأصل في اللغة التي تنطق بها، ولا يستطيع فعل ذلك إلَّا مترجم عارف باللغتين، لغة العمل الأصلي ولغته التي ينطق بها، فضياع واحدة يعمل على ضياع الأخرى.
بالترجمة تتحول اللغات إلى لغات حية، وإذا لم يكن داخل هذا العمل جديدًا ومختلفًا، فلماذا ينظر إليه ويوليه أحد اهتمام كي تتم ترجمته
موريس بلانشو سأل سؤالًا مهمًا وهو: متى نحدد أن هذا العمل أهلاً للترجمة؟ وأجاب عن هذا قائلًا: يكون العمل أهلاً للترجمة إذا أفصح عن استعداد للاختلاف، سواء أومأ إلى لغة أخرى أم وفر إمكانات مخالفة ذاته والغربة عن نفسه، وهذه الإمكانات هي التي تتمتع بها كل لغة حية.
حين تتحول اللغات إلى لغاتٍ حية
بالترجمة تتحول اللغات إلى لغات حية، وإذا لم يكن داخل هذا العمل جديدًا ومختلفًا، فلماذا ينظر إليه ويوليه أحد اهتمام كي تتم ترجمته.
فنحن بحاجة ماسة للتعرف عما هو مختلف عنا، والترجمة دائمًا مشدودة للأصل الذي لا ينفك عن الحركة، فهي (تترجمه) وتعمل على تحقيقه، بمعنى آخر أن تظهر هذه الحركة كما هي موجودة في الأصل.
المترجم هو الشخص الذي يُلقي بكل أدواته وغناه اللغوي، لكي يوجد بين اللغات تفاهمًا وانسجامًا، مُقلصًا الفجوة بينهم، كي نجد نحن الراحة في أثناء القراءة ولا نجد أي عناء.