بدأ الاقتصاد السوري يحبو نحو التعافي، وبدأت العديد من الأبواب المغلقة منذ سنوات تنفتح أمامه، وكون النظام الاقتصادي تغير إلى اقتصاد السوق الحر، فالقانون الضريبي الحالي لم يعد مناسبًا، ويجب تعديله للوصول إلى العدالة المنشودة التي ضلَّت طريقها عن الدوائر الضريبية خلال السنوات الماضية.
اجتماعات متتالية مع الجهات الحكومية، ونشاط محموم تقوم به غرف الصناعة والتجارة في مختلف المحافظات السورية، والهدف هو تعديل النظام الضريبي الذي أثار رعب أرباب العمل وأفرغ الجيوب وأغلق المنشآت.
المطالب تنوعت بين تصفير الضريبة وتخفيضها وبين الإعفاء، في وقت صرَّح وزير المالية في الحكومة المؤقتة محمد أبازيد، أنه يتم العمل على نظام ضريبي جديد، بمشاركة الفعاليات الاقتصادية بهدف الوصول لنظام ضريبي عادل، مشيرًا إلى أن معدلات الضريبة ستكون قريبة من نسبة الزكاة.
نظام ضريبي متخلف… أوجد أزمة ضريبية مزمنة
في قراءة سريعة حول النظام الضريبي المعمول به في سوريا، حيث كانت تتصف الحكومات المتعاقبة للنظام البائد خلال السنوات الـ 14 الماضية، بأنها حكومات جباية وليست حكومات رعاية، لكثرة الضرائب و”التفنن” في فرضها على مختلف شرائح المجتمع.
ويمكن القول إن النظام الضريبي المعمول به في سوريا أصبح باليًا ومتخلفًا، فهو يتَّبع نظام الضرائب النوعية الذي تخلَّت عنه جميع دول العالم، واستبدلته بنظام الضريبة الموحدة على الدخل، وبالرغم من أن سوريا أعلنت تخليها عن الضرائب النوعية بصدور القانون رقم 130 لعام 1961، إلا أن هذا التخلي لم يكن واقعيًا.
في عام 2003 صدر القانون رقم 24، الذي اعتبرته وزارة المالية في زمن النظام البائد خطوة في الإصلاح الضريبي، حيث أُجري تعديل بالقانون رقم 60 لعام 2004، ثم تعديل بإصدار القانون 41 لعام 2005، ثم القانون 51 لعام 2006.
ورغم كل هذه التعديلات، إلا أن القصور لا يزال يحكم القوانين الضريبية الصادرة، حيث نقل القانون 41 لعام 2005 بعض الشركات المساهمة من ضريبة الأرباح الحقيقية إلى ضريبة الدخل المقطوع (مثلًا الجامعات الخاصة)، أي أصبحت هذه الشركات المساهمة الضخمة التي تحقق أرباحًا كبيرة تُعامل مثل أي محل صغير يبيع الفلافل ضريبيًا، وهذا لا يمكن أن تجده في أي دولة في العالم إلا في سوريا.
كما أن أصحاب الدخل المقطوع من الموظفين كانوا يدفعون ضرائب تفوق بنسبتها الضرائب على الشركات الكبيرة، ويمكن القول إن الموظف هو الأكثر دفعًا للضرائب في سوريا، حيث فُرضت ضريبة دخل على الأجور والرواتب بنسب تصاعدية تصل إلى 22%، وأصبح أعلى معدل ضريبي 18% بدلًا من 22%، بينما تصل نسبة الضريبة على دخل بعض الشركات المساهمة إلى 14%كما فرض رسم الإنفاق الاستهلاكي على الجميع من غني وفقير، أي مساواة الفقير بالغني ضريبيًا.
ومما سبق يمكن القول إنه لم يكن يوجد عدالة ضريبية في سوريا، بل فساد ومزاجية، تقوم على رأي اللجان والمراقب الضريبي الذي بيده القلم، والذي سيخط به رقم التكليف الضريبي، ما أسهم في إغلاق إغلاق الكثير من المنشآت والمحال التجارية، التي عانت من ضرائب بأرقام فلكية وصلت لعشرات المليارات.
الأزمة الضريبية المزمنة دفعت قطاع الأعمال بعد سقوط النظام للمطالبة بنسف تلك القوانين أو تعديلها، فهل يمكن تحقيق ذلك في ظل ما يواجه الاقتصاد السوري من تحديات تتمثل بضعف الموارد؟ وهل يمكن تحقيق ما يشتهيه قطاع الأعمال بتطبيق ضرائب صفرية ومخفضة وعادلة؟
الخبير الاقتصادي والمصرفي إبراهيم نافع قوشجي، أوضح في تصريح لموقع “نون بوست”، أن الضريبة الصفرية هي نظام ضريبي يتم فيه فرض ضريبة بقيمة 0% على سلع أو خدمات معينة، وهذا يعني أن هذه السلع أو الخدمات معفاة تمامًا من الضرائب، ويتم تطبيق هذا النظام عادةً على السلع الأساسية أو الضرورية التي تعتبر حيوية لمعيشة الأفراد، مثل المواد الغذائية الأساسية، الأدوية، والخدمات التعليمية والصحية.
وتأتي أهمية الضريبة الصفرية في تخفيف العبء المالي على الفئات الفقيرة وأصحاب الدخل المحدود، وفق قوشجي، حيث يتم إعفاء السلع الأساسية التي يحتاجونها من الضرائب وإعفاء الرواتب والأجور منها أيضًا، مما يؤدي إلى زيادة الدخل المتاح للاستهلاك، ويشجع الأفراد على شرائها، ويزيد من الطلب عليها.
وبحسب تعبير قوشجي، فإن الضريبة الصفرية تعتبر أداة فعالة لتحقيق العدالة الاجتماعية ودعم الفئات ذات الدخل المحدود بهدف تحسين مستوى المعيشة.
أما الأستاذ في كلية الاقتصاد بجامعة دمشق عابد فضلية كان له رأي آخر، حيث وجد أن المطالبة بالإعفاء الضريبي أو كما يسميه البعض “تصفير الضرائب” على التجار والصناعيين، سواء كانت ضرائب مقطوعة (برقم محدد)، أم بحسب حجم الأعمال والأرباح الحقيقية، هي مطالب غير موضوعية وغير ممكنة التحقق في أي دولة في العالم.
وأشار فضلية في تصريحه لموقع “نون بوست”، إلى أن معظم موارد الخزينة العامة للدولة تأتي من الضرائب والرسوم بكافة أنواعها، وبالتالي فإن تصفير الضرائب على هذين القطاعين ليس واردًا على الإطلاق، ولا توجد دولة في العالم أقرت بذلك عدا سلطنة بروناي.
وأكد أن تصفير الضرائب يُحدث عجزًا في الموازنة العامة السنوية للدولة، خاصة وأن الأرباح المحققة من بعض أنشطة أو منشآت القطاع العام الرابحة عمومًا هي ضئيلة، وأقل من الخسائر التي تحققها الأنشطة والمنشآت الأخرى.
من جانبه أمين سر غرفة صناعة حمص الصناعي عصام تيزيني، اعتبر أن مطالب الصناعيين والتجار بتصفير الضرائب غير محقة، والأجدى تخفيض الضرائب بشكل جزئي ولمدة محددة، مشيرًا إلى أن الضرائب هي آخر موارد الدولة في ظل الظروف الحالية التي يمر بها الاقتصاد السوري، حيث إن العديد من المنشآت متوقفة عن العمل، وبما أن الاقتصاد السوري غير مستقر، فإن اعتماد الخزينة على الضرائب لا يأتي في المرتبة الأولى.
الضريبة والزكاة
أثار تصريح وزير المالية في الحكومة المؤقتة محمد أبازيد حول جعل معدل الضرائب متقاربة مع نسبة الزكاة وهي (2.5%) جدلًا بين السوريين، حيث أوضح قوشجي أن هذه النسبة لا تكفي لمتطلبات إعادة بناء المؤسسات الحكومية، وإعادة إعمار البنية التحتية الضرورية، وزيادة الرواتب والأجور في القطاع العام.
في حين يرى فضلية أن المطارح الضريبية تختلف عن مطارح الزكاة، ولكن مقارنة نسبة الضريبة بنسبة الزكاة تجعل المكلَّف يشعر بأريحية نفسية عند تسديد الضريبة، وبشكل عام، يدل تصريح وزير المالية على أن الحكومة ستقوم بتخفيض الضرائب، وأعتقد أن ذلك سيحدث بعد تشكيل الحكومة قريبًا.
الصناعي تيزيني أكد أن نسبة الزكاة لا يمكن تطبيقها على نسبة الضرائب، فهناك مواد أرباحها عالية جدًا، كالأدوية، وفرض نسبة الزكاة عليها كضريبة هو إجحاف بحق الخزينة، ولا يتوافق مع مبدأ العدالة الضريبية التي تحفظ حقوق الطرفين: المكلَّف والخزينة العامة، فالضريبة يجب أن تكون محددة وفق نسبة الأرباح الحقيقية، وهذه تختلف من نشاط اقتصادي لآخر.
الوصول إلى العدالة الضريبية
من خلال ما سبق فإن إلغاء الضرائب بالكامل ليس حلاً منصفًا، وتحديد نسبة الضريبة لتقترب من نسبة الزكاة لا يعد كافيًا أو عادلًا لكافة الأنشطة الاقتصادية. ويبقى التحدي الأهم: كيف يمكن الوصول إلى العدالة الضريبية؟
الخبير المصرفي نافع قوشجي اعتبر أن الإبقاء على معدلات ضريبية عالية في ظل الظروف الحالية أمر غير عادل، بل يجب أن تُخفَّض، وأن يكون هناك نظام شرائح لتحقيق العدالة بين دافعي الضرائب، مع ضمان تزويد خزينة الدولة بالإيرادات الكافية، وبعد ذلك يمكن مكافحة التهرب الضريبي بعد معالجة الاعتلالات الإدارية بين الوزارة والمكلَّف.
في حين أوضح فضلية إنه حتى تكون الإجراءات الضريبية أكثر موضوعية، وبالتالي أكثر عدالة، فلا بد من أن تقوم وزارة المالية بتطوير الربط الإلكتروني والتوسع في استخدامه، مع تطوير تقنياته الفنية.
ومن المهم الإشارة إلى أن النظام الضريبي لا يكون دائمًا عادلًا، حيث يعاني من ثلاث مشكلات رئيسية، أولًا وجود أنشطة لا تخضع للضرائب أو تتهرب منها، مما يؤدي إلى فقدان الدولة لإيرادات مستحقة، أو فرض ضرائب أقل من اللازم على بعض الأنشطة، مما يجعل مساهمتها الضريبية غير متناسبة مع أرباحها الفعلية، أو تحمل بعض الأنشطة ضرائب أعلى من المفترض، مما يشكل عبئًا إضافيًا قد يعيق نموها واستمراريتها.
لذا، فإن فرض الضرائب على المجموعة الأولى من الأنشطة، ورفع نسبة تكليف المجموعة الثانية، يزيد من الإيرادات الضريبية، أما تخفيض نسب التكليف للمجموعة الثالثة فسيحقق المزيد من العدالة الضريبية. وهنا تستطيع وزارة المالية تخفيض النسب الضريبية على الأنشطة التي تراها تستحق التخفيض، الأمر الذي يعكس نوعًا من العدالة الضريبية.
ونوّه فضلية إلى أن العدالة الضريبية تتحقق عندما يتم إعفاء بعض أهم السلع والمواد الغذائية والطبية والخدمات الصحية والتعليمية من كافة أنواع الرسوم والضرائب، حيث يتحقق بذلك: العدالة الضريبية والعدالة الاجتماعية.
وفي الوقت ذاته، يمكن رفع نسب الرسوم والضرائب على بعض السلع والمواد الكمالية لتعويض العجز الذي قد يسببه الإعفاء. أما الأمر الذي لا يقل أهمية، فهو الشفافية لدى كلٍّ من الطرفين: المكلَّف والدائرة الضريبية.
من جانبه، أشار الصناعي تيزيني إلى أنه للوصول إلى العدالة الضريبية، يجب أن تكون القوانين شفافة، وغير قابلة للتأويل، وبعيدة عن الثغرات. كما يجب الابتعاد عن التسعير المركزي، والحد من التهرب الضريبي، فليس من العدالة أن تكلَّف أنشطة دون أخرى، مع أهمية دراسة كل القوانين المتعلقة بالصناعة والتجارة.
ختامًا.. لا يمكن إغفال أهمية العدالة الضريبية في كونها أحد أهم عوامل توزيع الثروة وتخفيف الفروق الطبقية بين فئات المجتمع، أي تحقيق العدالة الاجتماعية. ورغم أن المعادلة الضريبية في سوريا معقدة للغاية وتحتاج إلى فك الشيفرة الخاصة بها، لتراكم الفساد وترهل الأدوات، إلا أن المهمة ليست مستحيلة إن وجدت العزيمة.
كما يبقى على الحكومة المقبلة أن تسعى لتحقيق الرضا الضريبي للمكلفين، أي جعل المكلف يدفع الضريبة دون تذمر أو تهرب، لعلمه ويقينه أن هذه الضريبة هدفها تحسين خدماته ومعيشته ورفع مستواها. وهذا ما فقده المواطن السوري عبر السنوات الماضية، حيث دفع الكثير من الضرائب، إلا أن خدماته كانت في تراجع دائم، ولم يكن يلمس أي أثر إيجابي، فترسخ له فكر التهرب والمراوغة في دفع الضرائب.