بدأت عمليات توريد النفط والغاز الطبيعي من الحقول التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية “قسد” شمال شرقي سوريا إلى مصفاتي حمص وبانياس، الخاضعتين لسيطرة حكومة تصريف الأعمال السورية في دمشق، خلال الأسبوع الماضي، لأول مرة منذ سقوط النظام السابق في 8 كانون الأول/ ديسمبر 2024.
ويعد إحياء اتفاقية توريد النفط والغاز تطورًا لافتًا في مسار العلاقات بين “قسد” ودمشق، في ظل المفاوضات المستمرة بين الجانبين، لكنها في الوقت ذاته تثير تساؤلات عديدة حول تعاطي الحكومة مع ملف “قسد”، التي لم تُبدِ تفاعلًا ملموسًا يمكن البناء عليه في مسار المفاوضات. فهل تعد الاتفاقية اعترافًا بشرعية “قسد”، أم أنها ضرورة ملحّة لتلبية احتياجات السوق المحلية؟
اتفاق قديم متجدد
مسؤول العلاقات العامة في وزارة النفط والثروة المعدنية في حكومة تصريف الأعمال، أحمد السليمان، كشف في 22 شباط/ فبراير الجاري، عن بدء استجرار مادة النفط والغاز الطبيعي من شمال شرقي سوريا إلى مناطق سيطرة الحكومة.
وأوضح، في تصريحات نقلتها وكالة الأنباء الرسمية “سانا“، أن استئناف توريد النفط والغاز جاء وفق عقد كان معمولًا به سابقًا، أثناء حكم النظام السابق، لكن الوزارة أعادت دراسته قانونيًا وأجرت عليه تعديلات بما يتناسب مع مصلحة الشعب السوري، مشيرًا إلى أن مدة الاتفاقية صالحة لثلاثة أشهر.
وكان النظام البائد يعتمد على ميليشيا “القاطرجي” في نقل النفط والغاز من مناطق “قسد” عبر الصهاريج إلى مصفاتي حمص وبانياس. إلا أنها توقفت عن العمل بعد سقوطه، لتعود الاتفاقية من جديد بعد إجراء تعديلات عليها.
وطرحت وزارة النفط والثروة المعدنية عدة مناقصات في كانون الثاني/ يناير الماضي لاستيراد النفط والغاز الطبيعي، إلا أنها لم تحظَ باهتمام كبار تجار النفط بسبب المخاطر المالية الناتجة عن العقوبات الأوروبية والأمريكية المفروضة على سوريا، ما دفعها إلى الاستيراد عبر وسطاء محليين، إلا أن هذه الكميات لا تغطي احتياجات السوق.
ويتواجد في سوريا 106 حقول نفط وغاز؛ حيث يبلغ عدد حقول الغاز 28 حقلًا، تقع 23 منها تحت سيطرة حكومة تصريف الأعمال السورية، و5 تحت سيطرة “قسد”، أما عدد حقول النفط فيبلغ 78 حقلًا، 35 منها تحت سيطرة حكومة تصريف الأعمال، و43 تحت سيطرة “قسد”، وفقًا لمركز جسور للدراسات.
وتعد الآبار النفطية التي تقع تحت سيطرة “قسد” من أكبر الحقول وأكثرها إنتاجًا. ففي محافظة دير الزور، يوجد حقل العمر قرب بلدة البصيرة، وحقل التنك الذي يقع ضمن بادية الشعيطات، بينما في محافظة الحسكة، يعد حقل الرميلان، الذي يضم نحو ألف و322 بئرًا، من أكبر الحقول النفطية، إلى جانب حقول السويدية، الشدادي، الجبسة، الهول، واليوسفية.
في المقابل، يعد حقلا التيم والورد في محافظة دير الزور من أبرز الحقول الواقعة تحت سيطرة حكومة تصريف الأعمال، لكنهما حقلان متوسطان؛ إذ كان كل منهما ينتج نحو 50 ألف برميل يوميًا، إلا أن إنتاج التيم انخفض إلى 5 آلاف برميل فقط، بينما انخفض إنتاج الورد إلى 2500 برميل، بعدما أعادت الحكومة تأهيلهما، إلا أنهما لا يغطيان احتياجات السوق المحلية.
وتراجع إنتاج النفط السوري من 385 ألف برميل يوميًا عام 2010 إلى ما يقارب 110 آلاف برميل في الوقت الحالي، بينما تراجع إنتاج الغاز السوري من 30 مليون متر مكعب يوميًا عام 2010 إلى 9.1 مليون متر مكعب فقط في الوقت الحالي.
كيف تنعكس على السوريين؟
اعتمدت مناطق سيطرة حكومة تصريف الأعمال السورية، بعد سقوط النظام، على المحروقات المستوردة من السوق الأوروبية بهدف تغطية احتياجات السوق، وفقًا للتسعيرة العالمية، إلا أن تكاليفها المرتفعة انعكست آثارها على حياة المواطنين، ما تسبب في ارتفاع أسعار السلع وأجور النقل، فضلًا عن تراجع خدمات القطاعات العامة.
وتهدف الاتفاقية مع “قسد” إلى تلبية احتياجات السوق المحلية، وتعزيز تشغيل محطات توليد الطاقة الكهربائية، في إطار مساعي الحكومة لتحقيق الاستفادة من الموارد الطبيعية لصالح الشعب السوري، وفقًا للمسؤول الإعلامي في وزارة النفط، أحمد السليمان.
كشفت تصريحات السليمان لوسائل الإعلام أن مضمون الاتفاق يقضي بتسلم وزارة النفط والثروة المعدنية نحو 150 ألف برميل من مادة النفط الخام من محطة تل عدس في ريف المالكية، ومليون متر مكعب من الغاز الطبيعي.
ويرى الباحث في الاقتصاد السياسي، يحيى السيد عمر، أن الاتفاقية تسهم في توفير مادة المحروقات في السوق بسعر أدنى من المحروقات المستوردة، فضلًا عن دورها في زيادة ساعات التغذية الكهربائية للمناطق الصناعية والمدن السكنية السورية، وبالتالي تحسين جودة الخدمات.
وقال السيد عمر خلال حديثه لـ “نون بوست”: “إن الكميات المتفق عليها يمكن أن تغطي احتياجات السوق المحلية من مادة المحروقات، كون المصانع والمعامل لا تعمل بالطاقة القصوى، وبالتالي لا يوجد استهلاك كبير، لكن في حال عودة قطاع المنشآت الصناعية إلى العمل، لن تكون الكميات كافية، وقد يشهد السوق ارتفاعًا في سعر المادة”.
وأضاف أنه لا يمكن الجزم بانخفاض أسعار المحروقات لسببين، أولهما أن الاتفاق لم يوضح السعر المتفق عليه، وعلى الأغلب سيكون أقل بكثير من الأسعار العالمية، كون ميليشيا “قسد” لا تستطيع تسويق النفط في السوق الدولية. وثانيهما أن تسعير المحروقات في سوريا لا يخضع لقوى السوق من عرض وطلب، بل يخضع لتسعير مركزي من قبل الحكومة، لذلك من غير المرجح حدوث تغيير جذري في الأسعار.
وبخصوص كميات الغاز الطبيعي، اعتبر الباحث أن وصول مليون متر مكعب من الغاز الطبيعي يوميًا إلى محطات الكهرباء يزيد ساعات التغذية الكهربائية، ومن الممكن أن تصل إلى ثماني ساعات يوميًا، وبالتالي يتحسن عمل القطاع الصناعي الإنتاجي، إضافة إلى تحسن جودة الخدمات من خلال توفير الكهرباء.
لكن كمية الغاز لا يمكن أن تسد الاحتياجات كافة، لأن مشكلة الكهرباء لا تتعلق بتوفر الغاز فقط، وإنما تتعلق بمحطات توليد الكهرباء التي تحتاج إلى صيانة وإعادة تأهيل.
وفي مطلع شباط/ فبراير الجاري، حددت وزارة النفط أسعار المشتقات النفطية في سوريا، حيث بلغ سعر لتر المازوت 0.95 دولار أمريكي، بينما بلغ سعر لتر البنزين (أوكتان 90) 1.1 دولار أمريكي، والبنزين (أوكتان 95) 1.23 دولار أمريكي، وأسطوانة الغاز المنزلي 11.8 دولار أمريكي.
ورغم تحديد أسعار المشتقات النفطية في الأسواق المحلية، إلا أن الأسعار تشهد تخبطًا واضحًا بسبب عدم التزام الباعة بالتسعيرة الرسمية، مما تسبب في تأرجح الأسعار من منطقة إلى أخرى، وانعكس بشكل سلبي على حياة المواطنين.
اعتراف بالشرعية أم ضرورة؟
تزامنت الاتفاقية مع مسار المفاوضات المتواصلة منذ مطلع كانون الثاني/ يناير الماضي بين دمشق و”قسد”، والتي تهدف إلى دمج الأجنحة العسكرية والسياسية والمدنية لـ “قسد” ضمن الحكومة السورية وفق شروط محددة، ما جعلها خطوة تسير باتجاه دفع المفاوضات عبر البوابة الاقتصادية.
وكشفت تقارير إعلامية عن وساطة سعودية بين “قسد” ودمشق ساهمت في نجاح الاتفاقية، بعدما تكفلت السعودية سابقًا بتقديم النفط لسوريا، إلا أنها واجهت عراقيل عديدة، ما دفعها إلى الدخول في وساطة بهدف كسر الجمود بين الطرفين عبر بوابة التعاون الاقتصادي، بضوء أخضر أمريكي.
في حين أثارت تصريحات المسؤول الإعلامي لوزارة النفط، أحمد السليمان، جدلًا واسعًا بعدما وصف مناطق سيطرة “قسد” بمناطق شمال شرقي سوريا، ما اعتُبر اعترافًا ضمنيًا بشرعية “قسد”، وبالتالي تحولًا جديدًا في مسار العلاقات في ظل عدم ظهور نتائج ملموسة للمفاوضات.
ويرى الباحث يحيى السيد عمر، أن الاتفاقية ضرورة ملحّة في ظل الظروف الاقتصادية والمعيشية التي تعيشها البلاد، كون الحكومة بحاجة ماسة إلى استجرار النفط والغاز بهدف تأمين موارد الطاقة، نظرًا لكونها شريان الحياة لمختلف القطاعات الحيوية في سوريا، كالمستشفيات، المخابز، الدوائر الرسمية والحكومية، محطات توليد الكهرباء، والمدن الصناعية.
ويتفق الباحث في مركز جسور للدراسات، وائل علوان، مع السيد عمر في أن الاتفاق يهدف إلى تلبية احتياجات المحافظات السورية الخاضعة لسيطرة حكومة دمشق من موارد الطاقة، من خلال تشغيل الكهرباء وتوفير المحروقات، في إطار الاستفادة من الموارد الوطنية وتخفيف الأعباء الاقتصادية عن السوريين، مما يسهم في استعادة الاستقرار.
ويستبعد علوان خلال حديثه لـ “نون بوست”، أن تكون الاتفاقية اعترافًا ضمنيًا بشرعية “قسد”، التي تسيطر على مناطق شرق الفرات ككيان مستقل منفصل عن الأراضي السورية، إذ يمكن اعتبارها خطوة في تحسن مسار المفاوضات بين دمشق و”قسد”، وليس اعترافًا.
وأضاف أن المفاوضات لا تسير بمرونة نتيجة العراقيل والتحديات، لكن من الواضح أن حكومة دمشق تصر على استمرار مسار التفاوض والحوار مع كل الفاعلين السوريين للحفاظ على وحدة سوريا.
ختامًا، يبدو أن الحاجة الملحّة إلى توفير موارد تشغيل الطاقة بهدف إنعاش العجلة الاقتصادية، في ظل العقوبات الأجنبية المفروضة على سوريا، التي حالت دون القدرة على استجرار النفط والغاز من السوق الخارجية بكميات وفيرة لتغطية الاحتياجات، دفعت حكومة تصريف الأعمال السورية إلى تجديد الاتفاقية مع “قسد”.