ترجمة وتحرير: نون بوست
في مقتطف من كتابه الجديد، يقدّم جايمس فيريني رؤيته المباشرة للصراع الغامض والقاتم مع تنظيم الدولة سنة 2016.
“الذنب والعار”: يتحدث الصحفي جيمس فيريني عن الدور الأمريكي في تدمير العراق
كان من الواضح أن الجهاديين في الموصل سيتخذون خطوتهم الحاسمة الأخيرة، حيث ستتلاحق المعارك الصغرى ولكنها ستكون عرضًا مبهرًا. لن تكون هذه المعركة الأكبر والأكثر تدميرًا فحسب، بل ستكون المعركة النهائية لما كان يعرف في السابق باسم الحرب على الإرهاب. لقد وصف متحدث باسم البنتاغون القتال في الموصل عندما كان في النصف تقريبًا، بأنه “القتال الحضري الأكثر أهمية منذ الحرب العالمية الثانية”. كنت حاضرًا في الموصل عندما قرأت هذا، لقد ذهبت إلى العراق لأول مرة في صيف 2016، للكتابة عن الحياة عقب تنظيم الدولة. ويضيف فيريني “حصلت على تأشيرة لمدة شهر، ولكن انتهى بي الأمر بالبقاء لمدة سنة”.
كان كل موقع زرته تابع لجهاز مكافحة الإرهاب العراقي في الموصل غير آمن مثلما هو الوضع في مدينة الزهراء شرقي المدينة. لم يكن هناك أي نقاط تفتيش أو حراس دوريين حتى على الحدود. لقد كان السكان المحليون يتجولون داخل المنطقة وخارجها. كان الجنود ودودين. بالقرب من محطة الفرز في غوغجالي، على منحدر يطل على شرق الموصل، كان هناك حي ناشئ، مشتت إلى هياكل قائمة بذاتها، ومنازل غير مكتملة، وأساسات معدنية منعزلة. كان يسكن هذه المنازل مالكوها أو بعض اللاجئين، بينما هُجرت المنازل الأخرى.
من بين هذه المنازل كان هناك منزل متواضع مكوّن من طابق واحد، كان في السابق من طابقين، وقد كان يأوي المقاتلين والخادمين في صفوف العدو، أو يُستخدم كموقف لهم أثناء محاولتهم الفرار من المدينة. كان هناك حزام صدر روديسي من الذخيرة تم التخلص منه على الأرضية الإسمنتية للفناء الصغير، وكومة من الشعر يبدو أنها بقايا لحية. في بعض الأحيان، قد تقع عيناك على مثل هذه اللوحات المثالية.
كان جهاز مكافحة الإرهاب العراقي قد توغل في المدينة. ومن وجهة نظري، بدا هذا في البداية وكأنه مجرد مركز قيادة آخر في منزل تم الاستيلاء عليه مثل منزل الزهراء. لكن شخصا آخر على دراية بوسائل حرب التكنولوجيا الفائقة كان ليفهم المغزى من الهوائيات الكبيرة على الأسطح، والناقلات الفردية المدرعة التي تقف في المقدمة.
في الواقع، كان كل ما لاحظته هو الجنود الجالسين في الطابق الأرضي على الأريكة المحشوة بجانب الحائط، يدخنون ويشربون الشاي ويتصفحون هواتفهم. ومثلما كانوا ليفعلوا في أي مركز قيادة، كانوا يلقون نظرات فضولية على السلالم، على الرغم أنه لم يكن يسمح لهم بذلك. لم أكن لأستوعب الأمر، حتى صعدت السلالم لأكتشف حقيقة ما يبدو عليه المستوى الثاني، الذي أصبح الآن أشبه بشرفة، كان يمثل غرفة قيادة الائتلاف للمراقبة الجوية المتقدمة. من هنا كان يتم توجيه الحرب الجوية على الموصل.
لقد كان عملا ضعيفا ومثيرا للقلق. من الجنوب، كانت الرؤية من الشرفة محجوبة من خلال جدار، أو بالأحرى الجدار الوحيد، بينما كانت من بقية الاتجاهات محاطة بحاجز مرتفع إلى حد الخصر، ما يعني أنها كانت مكشوفة من ثلاثة جهات. كان من الممكن مراقبة المكان، أو إطلاق النار عليه، أو قصفه سواء من الشمال، أو الغرب أو الشرق. لم يكن هناك وجود لمثل هذه الأفضلية، ولكن بعد ذلك لم يعد هناك أي شيء ذا أهمية، ذلك أن الجو كان مملوءا بالدخان والغبار. إنها لمعجزة حقا أن الجهاديين لم يفجروا هذا المكان.
أفراد من القوات العراقية يلتقطون صورة في الوقت الذي تتقدم في القوات في حي انتصار شرقي الموصل سنة 2016.
كان ممكنا يوميا رؤية العديد من القادة العراقيين عند الشرفة إلى جانب مجموعة من الضباط تضم على الأقل ثلاثة عسكريين وطنيين مختلفين. عموما، تمحورت العملية حول عقيد عراقي كان المسؤول عن مراقبة الهجوم النهائي المشترك. كان هذا العقيد نقطة الوصل بين القادة الميدانيين لجهاز مكافحة الإرهاب والقيادة العراقية العليا والتحالف. وبالنسبة للجميع، كان هذا العقيد من أفضل الضباط في جهاز مكافحة الإرهاب، كما أنه المفضل لدى القوات الأجنبية وخاصة بالنسبة للأمريكيين. يتحدث هذا العقيد الإنجليزية الأمريكية بطلاقة، كما يجيد اللغة العسكرية الأمريكية المهنية بلكنة أمريكية مثالية، قد يكون تعلمها إما في قاعدة أمريكية دولية، أو أنه حصل على جائزة هيغنز – إيسكي للتقليد.
ناقش هذا العقيد عيارات الذخيرة والعدو بثقة تامة، ومن السهل عليه التعامل مع زوجين من أجهزة الراديو ثنائية الاتجاه ومجموعة رباعية من الهواتف الذكية. في بعض الأحيان، يسلّم هاتفا إلى أحد المراقبين الجويين الجالسين على الطاولات المطوية قبالة المدينة، اللذان يرتديان اللباس الموحد لجهاز مكافحة الإرهاب العراقي، ولكن الأمر برمته مجرّد خدعة.
بغض النظر عن ملامحهم وغطرستهم، كان من الممكن ملاحظة أنهم أوروبيون، وعلى وجه التحديد غاليك، عن طريق إحدى الطائرات المسيرة المستدقة التي تحلق على ارتفاع 20 ألف قدم. فضلا عن ذلك، يتحدث هؤلاء الجنود الفرنسية بسلاسة فيما بينهم، بينما لا يجيدون الإنجليزية والعربية في تواصلهم مع الآخرين.
في قمة انشغالهم، كان كل فرد يقوم بمهامه ويقدّر عمل الآخرين أيضا، كانت طلبات الهجوم ترد بشكل متتال، ثم يتم تمريرها عبر سلسلة القيادة، ويتم منحها، ثم تأتي القنابل لتهزّ المدينة
راقب هؤلاء الجنود جهاز كمبيوتر لوحي يعرض صور الكاميرا من الطائرات دون طيار، وطبعوها على كمبيوتر محمول تم تجميد شاشته بنوافذ الدردشة. بمساعدة هذه العملية، نقلت ونوقشت طلبات الضربات. وكان يسمع عبر الراديو لهجات بريطانية وأسترالية وأمريكية من مكاتب وطائرات التحالف المختلفة.
في قمة انشغالهم، كان كل فرد يقوم بمهامه ويقدّر عمل الآخرين أيضا، كانت طلبات الهجوم ترد بشكل متتال، ثم يتم تمريرها عبر سلسلة القيادة، ويتم منحها، ثم تأتي القنابل لتهزّ المدينة. كان المشهد من الشرفة عصيبا ووديا في ذات الوقت، وهو ما يعطي لمحة عن عظمة هذه الحرب، إن صح التعبير.
من ناحية أخرى، لم يكن هناك أي مكان مرتفع أفضل من هذه الشرفة يمكن من خلاله أن نشهد على السرعة الهائلة للقتال الآلي الرقمي في القرن الحادي والعشرين. في هذا المكان، تتحول الكلمات إلى قذائف، والخطاب إلى موت. ربما اعتقد الجهاديون أنهم كانوا ينفذون مشيئة الله، لكن الرجال على هذه الشرفة يمكنهم استدعاؤها.
عرفت لاحقا أن تبادل طلبات الهجوم وقع في الحقيقة على تطبيق واتساب، حيث تم تنظيم كل من الجيوش، والقوات الجوية، وعدد هائل من الذخائر، عبر تطبيق دردشة مجاني تستطيع تنزيله على هاتفك خلال خمس ثوان. في الحقيقة، لم أكن أعلم ما إذا كنت أشعر بالذهول أو الفزع، لكنني شعرت بكليهما. لقد كان ذلك أمرا مضحكا، وعبقريا، أو ربما المثال الوحيد الأكثر تعقيدا لتيار تكنولوجي مستعمل في الحرب، الذي لا أفكر إلا في وصفه على أنه غامض.
يمتلك الجنود تطبيق خرائط سحري لتحديد الموقع على هواتفهم، كما لو كان طاولة رملية خلوية تعمل ذاتيا، كما توفرت مقاطع فيديو يتم إرسالها وتحميلها بشكل فوري، خصّصت لتمكين جنود إحدى الجبهات من مشاهدة جنود الجبهة الأخرى والتفاعل معهم. من جهة أخرى، ينشر الجهاديون والجنود على حد سواء مقاطع فيديو مسجلة سرا، توثّق عمليات الإعدام والتعذيب، وتُنشر على تطبيقات واتساب وسيجنال وتيليجرام، التي ساهمت في تقليص عدد أشرطة الفيديو الرسمية التي ينشرها مركز الحياة للإعلام، ودرجة الرعب التي توثقها هذه الأشرطة أحيانا.
إلى جانب كل الأحداث الواقعة على هذا الموقع، كان فيسبوك يستضيف نوعا من اقتصاد الحرب السري
من المؤكد أن الجميع عرفوا شخصا قُتل على الإنترنت، أو صادفتهم صور على موقع فيسبوك تتضمن جنودا برفقة سجناء، أو بجانب حطام، أو حاملين أعضاء بشرية، أو بجانب جثث، أو برفقة أمريكيين، أو برفقة أمهاتهم، أو أي شيء من هذا القبيل.
لقد أراني أحد المشاة صورة له في بايجي، حيث يظهر فيها واقفا أمام سيارته العسكرية بجانب منظر المدينة المدمر، حاملا دمية دب عملاقة زرقاء اللون. كما أظهر لي رجل آخر صورة لابنه البالغ من العمر ثلاث سنوات، حاملا مسدس، وعبّر قائلا: “أريده أن يتعلم القتال”.
إلى جانب كل الأحداث الواقعة على هذا الموقع، كان فيسبوك يستضيف نوعا من اقتصاد الحرب السري. في هذا السياق، قابلت امرأة يزيدية تم أسرها من قبل الجهاديين وجُلبت إلى سوريا، حيث هربت بمساعدة مهرب أشخاص وَجده زوجها على موقع فيسبوك. ويمكنك الجلوس لساعات في نقطة تفتيش أو في مركز قيادة مع القوات، ذلك لأنهم يبحثون من تطبيق إلى آخر متصفحين الصفحات الإلكترونية الخاصة بالحرب، وهو أمر أعترف بفعله عديد المرات.
يمكن أن تتجاوز التكنولوجيا كل الحدود، حيث كانت وظيفة ضابط مخابرات كنت أعرفه، الوقوف بين صفوف مواطني الموصل الفارين من الأحياء المحاصرة، والتأكد من أسمائهم. في حال أشفق أحدهم عليه، يقوم الضابط بالبحث عن اسمه في قاعدة بيانات تضم الجهاديين المشتبه بهم، التي يحتوي عليها جهاز الآي باد الذي بحوزته. ذات يوم، رأيته وسألته عن عدد الأسماء المسجلة في قاعدة البيانات، أجابني قائلا: “ثمانية وثلاثون ألفا”. فسألته: “كم عدد المشتبهين الذين كشفَتْهم؟”، فقال “أربعة”.
القوات الخاصة العراقية تراقب مواقع تنظيم الدولة من داخل جامعة الموصل في كانون الثاني/ يناير في سنة 2017.
يشمل الحديث كذلك الهاتف، الذي يعتبر أكثر الإنجازات التكنولوجية إذهالا من أي وقت مضى. منع تنظيم الدولة استعمال الهواتف، وعطّل أبراج الشبكات الخلوية والتلفزيون في الموصل. وفي الأحياء المحررة، رُسم على الجدران علامات في شكل دوائر خضراء بها خطوط تعني أنه تم تعطيل أو مصادرة أطباق القمر الصناعي في تلك المنطقة.
لكن، حصلت هذه الأحداث في سنة 2016، ولحسن الحظ، ليس من السهل التخلص من جميع الهواتف المحمولة في مدينة الموصل، حيث تمكن مواطنو الموصل من الحفاظ على هواتفهم واستعمالها، من خلال الاستلقاء تحت الحواجز في جوف الليل، والهمس، أو الاختباء بين الشجيرات في الحدائق. كان من المستحيل حقا استعباد أي شخص في بلد كانت فيه شبكات الجيل الثالث للهاتف الخلوي أمرا أساسيا.
التقط الجهاديون صورا أيضا، حيث شملت نسبة عالية منهم صورا للقطط المنزلية. ويعود سبب حبهم للقطط إلى أن النبي عرف بحبه للقطط. من غير المحتمل أن لا تجد صورة لرجل ملتح يرتدي عمامة موجها بندقية هجومية إلى الأعلى بإحدى يديه من جهة، ومشيرًا إلى السماء بإصبع السبابة من جهة أخرى، بينما بجانبه قطة تحدق في عدسة الكاميرا.
في بعض الأحيان، عندما ينتقل الرجال على الشرفة من التحدث والكتابة لمشاهدة المدينة المشتعلة، أتساءل عن الشعور الذي يخلفه هذا المشهد، هل هو إحساس بالنصر، أم بالتبرئة، أو بالرعب، أو بالإهانة
أود أن أعرف ماهية الأفكار الغريبة التي جالت بخاطر أبو بكر البغدادي الخجول من الكاميرا، وقائد تنظيم الدولة في العراق، حتى يفرض كل هذا. في الحقيقة، لقد كان يعرف أن الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي ضرورية لنجاحه، بينما كان متظاهرا بالقداسة وكبيرا في السن، (من مواليد سنة 1971، كما نعتقد)، وهو ما جعل الاطمئنان لها صعبا. كيف سيكون اللقاء؟ ستكون الوضعية، حسب اختياراتك أيها الخليفة، كأننا في القرن السابع، باستثناء وجود التطبيقات.
في بعض الأحيان، عندما ينتقل الرجال على الشرفة من التحدث والكتابة لمشاهدة المدينة المشتعلة، أتساءل عن الشعور الذي يخلفه هذا المشهد، هل هو إحساس بالنصر، أم بالتبرئة، أو بالرعب، أو بالإهانة. في الحقيقة، لن يتمكنوا من رؤية الموت الذي تسببوا فيه، حيث أنه من النادر رؤية شخص يموت بسبب غارة جوية، ذلك أنه عادة ما تدمر الغارات الجوية المباني. أما إذا أصاب الصاروخ سيارة جهاديين أو فريق مدافع هاون في العراء، فقد تلتقط كاميرات الطائرات دون طيار جسما أو أحد أعضاء الجسم، إلا أن ذلك نادر الحصول. يستطيع المُشاهد رؤية قطع كبيرة من الشظايا المتطايرة في الهواء، والإحساس بكثافة الهواء.
أنقاض جامعة الموصل بعد استعادتها في سنة 2017.
بطبيعة الحال، ادعت واشنطن أن دقة هذه الحرب الجوية لم يكن لها مثيل، كما أكد المسؤولون العسكريون الأمريكيون للصحافيين أن الضربات المتعمدة على مواقع وممتلكات تنظيم الدولة، التي كانت نتيجة لعمليات المراقبة والاستخبارات، قد خضعت للفحص بدقة شديدة لدرجة أن الإصابات في صفوف المدنيين تكاد تكون معدومة. حتى أن الضربات الديناميكية والاستجابات التلقائية لطلبات الإغارة التي دعا إليها القادة الميدانيون، كانت تتطلّب الحصول على الموافقة من قبل سلسلة من الجنرالات والمحامين المتواجدين في الموصل وبغداد وفلوريدا.
إن كنت ضمن قائمة الرسائل الإلكترونية للقيادة المركزية للولايات المتحدة، فإنك تتلقى من قاعدة ماكديل للقوات الجوية في تامبا، بريدًا إلكترونيًا يوميًا تحت عنوان “إطلاق الغارة”، يذكر أهداف اليوم السابق في العراق وسوريا. أحيانا هناك عدة أهداف وأحيانًا بعض العشرات، لكن بغض النظر عن عددها، مع نقص أي معلومة، تنجح القيادة المركزية خلافا لذلك في تنفيذها بشكل مبهر. يضرب الصاروخ هدفه لا غير، مدمرا أية قطعة من معدات الجهاديين أو أية مساحة من البنية التحتية التابعة لهم ويقتل عددا غير محدد منهم.
لكن بالوقوف على هذه الشرفة، إن كنت صادقا مع نفسك عليك تقبل هذه القذارة. يتم إطلاق هذه الصواريخ بشكل متواتر، ويتم توجيهها من قبل مجموعة من الرجال يستخدمون الواتساب في مبنى مهجور. إلى أي مدى يمكن أن تكون دقيقة في الحقيقة؟
أسفل كل رسالة إلكترونية يوجد هذا التعريف “الغارة، كما تم تعريفها في إصدار التحالف، تشير إلى التزام حركي يحدث تقريبا في نفس الموقع الجغرافي لإحداث تأثير فردي أو تراكمي”. كما يوجد هذا التنويه: “يتم تنفيذ هذه الضربات في إطار عملية العزم الصلب، وهي عملية تدمير تنظيم الدولة في العراق وسوريا. كما يحد تدمير تنظيم الدولة في العراق وسوريا من قدرة الجماعة على نشر الإرهاب وتنفيذ عمليات خارجية في جميع أنحاء المنطقة وبقية العالم”.
لكن بالوقوف على هذه الشرفة، إن كنت صادقا مع نفسك عليك تقبل هذه القذارة. يتم إطلاق هذه الصواريخ بشكل متواتر، ويتم توجيهها من قبل مجموعة من الرجال يستخدمون الواتساب في مبنى مهجور. إلى أي مدى يمكن أن تكون دقيقة في الحقيقة؟
في الأيام الأولى للمعركة، كان يمكنني وصف الجنرالات العراقيين بأنهم مضيافون لكن أي خبير عسكري في دولة أقل ترحيبا في العالم يمكن أن يصفهم بأنهم لا يلتزمون السرية لأبعد الحدود. لقد سمحوا لي والصحفيين الآخرين بالتسكع على شرفة قيادة الدفاع الجوي طوال اليوم. راقبنا الثنائي الذي يتحدث الفرنسية بلامبالاة، في حين كان الوحيدون الذين أرادوا رحيلنا بوضوح وهو الموقف المنصوح به، هم الأمريكيون، لكنهم مختلفون عن نظرائهم العراقيين.
كل صباح يتم توجيه وحدة قوات خاصة إلى القيادة الجوية في أسطول نشط من المركبات التكتيكية مشتركة الضوء. لم تكن هويتهم واضحة أبدا سواء كانوا ينتمون إلى السيلز أو القوات الخاصة الأمريكية أو قوة دلتا أو فرق أخرى، حيث لا يرتدون أي شارات للوحدات أو ما يدل على الرتب، لكن لم يكن أحد ليسأل.
هم لا يتعرفون عليك إلا عبر نظرة خالية من التعبير أو ربما إيماءة خفيفة جدا إذا فهموا أنك أمريكي
يبدوا هؤلاء الرجال كما هو متوقع منذ تسرب تلك الصور غير الرسمية للقوات الخاصة الملتحية على ظهور الأحصنة إلى غرف الأخبار الأمريكية من هندو كوش سنة 2001: “ما بين منتصف وأواخر الثلاثينات، طويلو السيقان ورشيقون، متيقظون وصعبو المراس وملتحون، وتوحي لحاهم التي نمت لتبلغ بنادق إم بي 5 وإس آر-25 المعدلة على وجوههم بالضراوة”.
هم لا يتعرفون عليك إلا عبر نظرة خالية من التعبير أو ربما إيماءة خفيفة جدا إذا فهموا أنك أمريكي. المرة الوحيدة التي تبادلت فيها بضع كلمات مع أحدهم كانت عندما عرضت عليه شرب القهوة. أفضل محل بقالة يقع على طريق جانبي للطريق السريع، أقتني منه القهوة المعلبة التركية الحلوة، التي تبدو فيها العلب على شكل برميل صغير ثقيل أحمل منها عادة نصف دزينة في حقيبة ظهري، إلى جانب علبتي سجائر على الأقل، لأدخن بعضها وأعرض البعض على الجنود العراقيين لتلطيف الأجواء. “هل تريد القهوة؟” قلت لرجل في الشرفة مربع الذقن أزرق العينين وذو لحية ذهبية. “لا شكرا” أجاب بتهذيب وبطريقة تظهر كمية تفاهة هذه البادرة ومدى احتقاره لي.
في العراق، كان لهجوم الموصل تسميتان على الأقل. تمثلت التسمية الأولى في عملية فتح، وهو ما يعني النصر أو الغزو في اللغة العربية وتشير بالتحديد إلى فتوحات القرن الأول من ظهور الإسلام. من جهتها، تُفضّل وسائل الإعلام العراقية استخدام تسمية عملية “نينوى، نحن قادمون” أو في بعض الأحيان عملية “نحن قادمون يا نينوى”.
جعلت كلتا التسميتين الهجوم يبدو وكأنه مقطع من مسرحية غودسبيل الموسيقية، أو على الأقل تجعلانك تشعر بشيء من التضامن كلما تابعت أحداث “نينوى، نحن قادمون” في نشرات الأخبار التلفزيونية العراقية. لا يمكن قول الشيء ذاته بالنسبة للتسمية التي يستخدمها الأمريكيون، حيث أصر البنتاغون على دعوتها “بعملية العزم الصلب” أو المتأصل.
بعد الاستيلاء على الجامعة قبل سنتين ونصف من الآن، أغلق تنظيم الدولة أقسام العلوم الاجتماعية وعلوم الأرض والإنسانيات والأدب والفن وجميع الأقسام الأخرى ما عدا المدارس الطبية والهندسية
بقطع النظر عن التناقض، غالبا ما تكون الأمور نتاج قرار ما أو تكون متأصلة بطبيعتها ولكن من المؤكد أنها لا يمكن أن تكون كلا الخيارين معا، ما يدفع إلى التساؤل حول المعنى الحقيقي لنقيض المتأصل، هل هو عرضي؟ أم مؤقت؟ هل كان هناك أزمة أقل أهمية من هذه الحرب عولجت من خلال العمليات العرضية؟ لطالما اعتقدتُ أن عملية العزم الصلب اتسمت بالغموض كما لو أن واشنطن تقول لبغداد “سنساعدك، لأننا أشخاص من أصحاب المبادئ بشكل استثنائي وليس لأننا لا نلومك على الفوضى التي خلفتها”.
لقد تواصل القتال في شرق الموصل إلى حدود السنة الجديدة. وبحلول منتصف كانون الثاني/ يناير 2017، اقتربت القوات العراقية من دجلة كما استولت على جامعة الموصل في الثالث عشر من الشهر ذاته. يمتد الحرم الجامعي الضخم، الذي بلغت طاقة استيعابه ذات يوم 30 ألف طالب، إلى أسفل منحدر باتجاه النهر.
بعد الاستيلاء على الجامعة قبل سنتين ونصف من الآن، أغلق تنظيم الدولة أقسام العلوم الاجتماعية وعلوم الأرض والإنسانيات والأدب والفن وجميع الأقسام الأخرى ما عدا المدارس الطبية والهندسية. وفي إجابة عن سؤال شاب ما التقيت به والذي كان يختص في دراسة التاريخ، حول سبب منع دراسة حتى التاريخ الإسلامي والهدف وراء ذلك، قال أحد المقاتلين: “نحن نكتب تاريخا جديدا وهو التاريخ الصحيح”.
في سياق متصل، انتشرت شائعات بأن قسم الهندسة الكيميائية بقي مفتوحًا حتى يتسنى لهم تصنيع الأسلحة الكيميائية. وبقطع النظر عن مدى صحة هذا الادعاء، شعر التحالف بضرورة قصف الجامعة. وإثر تأمين الحرم الجامعي من قبل القوات العراقية، سارع الصحفيون بالتوجه إلى هناك على أمل الاطلاع على مزيد التفاصيل بخصوص هذه المسألة.
بدلاً من ذلك، لم يعثروا سوى على الأنقاض في الربع الأكثر دمارا في شرق الموصل. في الواقع، لم ينجح هذا الوضع في إثارة الخوف في نفوس الطلاب والأساتذة الذين طالبوا بالعودة إلى الفصل والحرم الجامعي حيث تحققت مطالبهم في غضون أيام.
حاليا، تدعي كل من حكومة محافظة نينوى، التي تعمل في منأى عن أربيل وبغداد، أنها لا تملك الأموال الكافية للمساعدة في ترميم الحرم الجامعي، لذلك أخذ الطلاّب والأساتذة الأمور على عاتقهم وقاموا بعمليات الإصلاح والتنظيف
من خلال أطلال المباني الأكاديمية المتفحمة، يمكنك أن ترى ما يُحيل إلى سنة 2003، أي خلال تلك الفترة الموصلية -الأمريكية التي تميزت بالعلاقات الودية على قصرها. كانت هناك أجهزة كمبيوتر وكتب وأثاث تبرعت به الولايات المتحدة. في هذا الإطار، تحدث إليّ الأساتذة باعتزاز عن ديفيد بيتريوس [قائد الجيش الأمريكي]، الذي جعل من إعادة بناء الجامعة أولوية.
حاليا، تدعي كل من حكومة محافظة نينوى، التي تعمل في منأى عن أربيل وبغداد، أنها لا تملك الأموال الكافية للمساعدة في ترميم الحرم الجامعي، لذلك أخذ الطلاّب والأساتذة الأمور على عاتقهم وقاموا بعمليات الإصلاح والتنظيف، وجلب اللوازم والأدوات من منازلهم. هنالك، قابلتُ مجموعة من الأشخاص أثناء تجمعهم في رواق مبنى اللغات والأدب، أين أضرم الجهاديون النار في كومة من المكاتب وأرفف الكتب. في الحقيقة، كان المبنى مجهزا بنظام لإطفاء الحرائق، لذلك وقع إخماد النيران بسرعة.
كان الطلاب يكنسون الأرضية باتجاه المدخل، حيث يجرفون المياه وشظايا الخشب. وضع أحدهم مكنسة على الحائط واقترب مني ليسألني هل أود أن أرى المبنى؟ في الواقع كنت أود ذلك. سرنا إلى القاعات، وأشار إلى فصول دراسية فارغة، وأخبرني ما هي الدورات التي يقع تدريسها فيها. أومأتُ برأسي وأصدرت أصواتا عالية تدلّ على الموافقة. بحثنا في مختبر اللغة، حيث كان يعمل أستاذان على إصلاح إطار النافذة.
جندي من القوات الخاصة العراقية يقوم بطمأنة أفراد أسرة لجأوا إلى مبنى تحت سيطرة تنظيم الدولة سنة 2016.
أخبرني طالب اسمه كرم أنه لا يرى سببا يدعو إلى عدم العودة إلى مقاعد الدراسة، خاصة أنّ كلّ شيء موجود على غرار المكاتب والكراسي. لقد كان رائدًا في مجال الأدب الإنجليزي، وبغض النظر عن بعض الأخطاء النحوية الطفيفة في بعض الأحيان، كان يتحدث اللغة الانجليزية بطلاقة حيث كان قادرا على فهم المصطلحات الغامضة، عاكسا نزعة للتباهي ونكران الذات في آن واحد.
“لقد كان هذا فصلي الدراسي. كنت أجلس في المقدمة، بالطبع”.
فسألته: “إذًا كنت التلميذ المدلل لدى الأستاذ؟”.
“ليس حقا. هذا لأنّني ذكي، وليس لأنني أحب المدرسين. أنا أحب الدراسة. كانت دراستنا مثيرة للاهتمام. لم أكن أفضل طالب في المدرسة الثانوية لأنه كانت لدينا عدة مواد على غرار الفيزياء والرياضيات؛ وأنا لا أحب تلك المواد. اللغة الإنجليزية هي حقا شغفي. هل يمكننا أن نذهب؟”.
عندما صعدنا الدرج، جلب انتباهي حضور مهذب إلى جانبي: “هذا أستاذي المفضل”، قال كرم.
“أنا أُدرّس الشعر الإنجليزي”. قال الأستاذ “عصر النهضة، شعر ويات، إيرل سري ووالتر رالي. كان ويات أول من أدخل الشعر الإيطالي إلى اللغة الإنجليزية، كما تعلم. ثم كان أوّل من عرّف السونيتة أو الأغنية القصيرة. لا أحد من الجهاديين يهتم بذلك بالطبع. يقولون إنّ الشعر محظور. حرام”.
على عكس العديد من زملائه الذين عملوا في مناطق أخرى من البلاد، ظلّ هذا الأستاذ في الموصل تحت سيطرة الخلافة. وقد أمضى وقته في ترجمة قاموس الرموز الأدبية وقراءة شعر جون دون. “في الواقع، أعجبتني طريقة تعبيره عن مشاعره انطلاقا من أفكاره”.
لقد أعاد قراءة مكبث، أيضًا، لأنه شعر بأنها تعكس ما يعايشونه، “خاصة وأنّ القصيدة تلائم الوضع الراهن. حيال هذا الشأن، قال “في تنظيم الدولة، توقف تيار الفكر. كل ما يهم هو البقاء على قيد الحياة. لا يمكننا سوى التحرك والأكل والنوم. لقد توقف العقل”.
مسرحية مكبث تعني الكثير لكرم أيضا، مسرحية تراجيدية بنهاية مرعبة. لقد كان يعمل على بحث يتعلق بمسرحية “الدكتور فوستوس” للكاتب كريستوفر مارلو، عندما وقع إغلاق القسم. وقد أخبرني أنه كان مفتونًا بـ “الصفقة التي أبرمها الطبيب. إنّ الفكرة مثيرة للاهتمام، حيث نشاهد كيف يعاني ثم كيف يُسلّم نفسه للشيطان، لتحقيق هدف ما، وأخيرا يفقد كل شيء. لم يكن سعيدا بذلك”. لقد حملت المسرحية رمزية واضحة بما فيه الكفاية لتُحيل على التيار الجهادي، حيث لم يكن على أيّ منا أن يُثير المزيد حولها.
الطلاب العراقيون في جامعة الموصل عند وصولهم لأداء امتحاناتهم في 13 حزيران/ يونيو 2017.
سرنا إلى مكتبة اللغة الإنجليزية. من حسن الحظ، لم يتفطّن الجهادييون إليها. شاهدت العناوين التي كانت تثير اهتمام كرم على غرار رواية “أمير الذباب”، أو رواية “صورة الفنان في شبابه”، للكاتبة جين أير وجوزيف أندروز وغيرهم ….
“كتب مملة جدًا”. عبّر كرم عن شعوره حيال الكلاسيكيات التي كان يُلزم بقرائتها. “لقد قرأنا رواية “مرتفعات ويذيرنغ” في السنوات الأولى، وأعتقد أنا وبعض الطلاب الآخرين أيضا، أنها حقّا مملّة جدّا”. وأثناء انتظاره الجامعة أن تفتح أبوابها، كان قد قرأ 30 رواية، بعضها قد تنفعه في المقررات الدراسية المستقبلية، والبعض الآخر من أجل المتعة فقط.
أما أكثر الكتب إثارة للجدل، الذي قال إنه تعلّم منه معنى الطبيعة البشرية وأعماق غياهب الروح فهو كتاب ستيفن كينغ “بت سيماتاري”. في هذا السياق، تبادر إلى أذهاننا أنا وكرم أوجه التشابه بين هذه الرواية والتيار الجهادي. كان هو وزميله يحاولان إقناع أساتذتهم بتحديث المناهج الدراسية. وفي هذا السياق، قال كرم: “إذا قمنا بدراسة شيء حديث، على غرار رواية “شيفرة دا فينشي”، فسيكون ذلك رائعًا حقًا”.
أينعت بعض الحركات الإسلامية في حرم الجامعات. كان هذا هو الحال مع طالبان، على سبيل المثال. ولكن هذا لا يحدث عادة في جامعة الموصل، إذ أنّ كرم استطاع استحضار طالب واحد فقط من قسمه كان قد انضم إلى تنظيم الدولة. بعد ذلك، عَلم زملاؤه بوفاته، ولم ينتشر النعي على نطاق واسع، إذ أنّ الشاب كان متشددًا ومغرورا وغير مولع بالعلم.
قال كرم: ” في الواقع، لقد كان مترّفعا طوال الوقت”. “لقد قُتل بحلول نهاية سنة 2014. ليس من المفترض أن نكون سعداء بموت الناس، لكننا بعد العلم بوفاته، كنّا كذلك”. كان هو والجهادي السابق، وهو شخص فوضوي عدمي، يملكان صديقًا مشتركًا. وبيّن كرم أنه الآن طالب جيد. فطن جدا. لقد كان توّجه تنظيم الدولة عدميا. وتجدر الإشارة إلى أنّ كرم أخذ بعين الاعتبار هذه المسألة؛ وقال “ربما حزن الصبي المؤمن بنظرية العدمية، على إثر مقتل صديقه الجهادي”.
المصدر: الغارديان