“يقدم نفسه كقائد شاب تقدمي، وداعم للنساء في مكان العمل، وعلى نحو معروف، خلف مقود السيارة. لكنه أيضًا يخوض حربًا دموية في اليمن، ومُتهم باستهداف المدنيين والأطفال وتوظيف المجاعة كسلاح ويحتجز معارضين سياسيين. وتعتقد وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية أنه يقف وراء القتل الوحشي للكاتب بصحيفة واشنطن بوست جمال خاشقجي، أحد أبرز منتقدي ولي العهد”، هكذا قدمت المذيعة نورا أودونيل ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، خلال مشاركته في برنامجها الشهير “60 دقيقة” الذي بثته قناة “CBS” الإخبارية الأمريكية، فجر الإثنين.
يأتي هذا الحوار في وقت يواجه فيه الأمير السعودي موجة انتقادات لاذعة جراء الانتهاكات الممارسة في اليمن وتصعيد التوتر مع إيران فضلاً عن الإدانات التي يتعرض لها على المستوى الداخلي بسبب الوضع الحقوقي المتأزم، لا سيما ضد الناشطات المدافعات عن المرأة السعودية وحقوقها.
لقاء بالطبع لم يكن مفاجئًا، وإجابات من المؤكد أنه تم الإعداد والتجهيز لها مسبقًا وعلى أكمل وجه، وبرنامج طالما عرف بدوره في تحسين صورة ضيوفه الذين هم في الغالب صناع قرار وقادة رأي، هذا بخلاف الجماهيرية الكبيرة التي يتمتع بها وتسهل انتشار الرسالة المراد توصيلها وبأقصى سرعة.
جدير بالذكر أن هذه ليست المرة الأولى التي يحل فيها ولي العهد السعودي ضيفًا على هذا البرنامج تحديدًا، إذ كان له لقاء سابق في مارس 2018 وذلك على هامش جولته للولايات المتحدة في هذا التوقيت واستمرت ما يزيد على 3 أسابيع كاملة، وصفت حينها بأنها ضمن حملة “علاقات عامة” واسعة لترميم صورته التي تضررت بسبب حرب اليمن وموجات الاعتقالات الأخيرة.
مقتل خاشقجي
“هل أمرت بقتل خاشقجي؟”، بهذا السؤال استهلت أودونيل حوارها، ليجيب ابن سلمان بالنفي طبعًا، مستطردًا “الحادثة مؤلمة جدًا، لكن أتحمل المسؤولية بالكامل كقائد في المملكة العربية السعودية، خاصة لأن الحادث من مسؤولين سعوديين”، وأوضح أن ما يقصده بتحمله للمسؤولية أنه “عندما تحدث حادثة ضد مواطن سعودي من موظفين في الحكومة السعودية، كقائد لا بد أن أتحمل المسؤولية، هذا خلل حدث، ولا بد لي من اتخاذ جميع الإجراءات لتجنب مثل هذا الشيء في المستقبل”.
وفيما يتعلق بتبرئة نفسه من تهمة معرفته بالحادث مسبقًا، أجاب “البعض يتوقع أنني يجب أن أعرف ما يفعله 3 ملايين موظف في الحكومة السعودية يوميًا! من المستحيل أن يرسل الثلاثة ملايين تقاريرهم اليومية إلى القائد أو ثاني أعلى مسؤول في الحكومة السعودية”.
المذيعة ألمحت إلى عزل العاهل السعودي لاثنين من أقرب مستشاريه، المتهمين بالتخطيط لتلك المؤامرة، وخروجهما من دائرته المقربة، لتسأله: “كيف لم تكن تعرف أن هذا نفذه أشخاص مقربون منك؟”، فأجاب ولي العهد “اليوم التحقيقات كلها جارية، وبمجرد إثبات تهم على أي شخص، على أي مستوى، سيحاكم دون استثناء”.
أما عن اعتقاد الحكومة الأمريكية بتورطه في هذه الجريمة، وفق ما ذكرته أودونيل، رد قائلاً “أعتقد هناك كلمات مغلوطة في كلامك، لا يوجد بيان رسمي من الحكومة الأمريكية في هذا الشأن، ولا توجد معلومات أو أدلة واضحة على أن شخصًا مقربًا مني فعل شيئًا بهذا المعنى. هناك اتهامات ويجري التحقيق فيها، لكن مرة أخرى لا يمكنك تخيل الألم الذي نعاني منه، خاصة الحكومة السعودية، من حادثة مثل هذه”.
وعن تأثر العلاقات بين المملكة والولايات المتحدة جراء هذه الواقعة، أكد ولي العهد أن”العلاقة أكبر بكثير، وما حدث أمر بشع ومؤلم لنا جميعًا، دورنا أن نعمل ليلاً ونهارًا لتجاوز ذلك، والتأكد من أن مستقبلنا أفضل بكثير من أي شيء حدث في الماضي”.
عما إذا كان مستعدًا للتفاوض على إنهاء تلك الحرب قال “نحن نقوم بذلك كل يوم، لكن نحاول أن ينعكس هذا النقاش إلى تطبيق فعلي على الأرض. وإعلان الحوثيين قبل بضعة أيام وقف إطلاق النار من جانبهم، نعتبره خطوة إيجابية للدفع للأمام نحو حوار سياسي أكثر جدية ونشاطًا”
الملف الإيراني
كانت حادثة استهداف منشآت شركة أرامكو وإيران هي الملف الثاني في جدول المقابلة، حيث اعتبر ابن سلمان أن الإيرانيين “أثبتوا حماقتهم للعالم” بالهجوم على منشأتي نفط الشركة السعودية، مؤكدًا أن ما حدث “عمل حربي”، إلا أنه أعرب عن أمله في ألا يكون الرد على إيران “عسكريًا”.
وفي رده على سؤال بشأن أن الهجوم ضرب قلب صناعة النفط السعودية، قال: “أختلف معك قليلاً، هذه الضربة ضربت قلب إمدادات الطاقة العالمية، أكثر من قلب إمدادات الطاقة في المملكة العربية السعودية، لقد عطلت تقريبًا 5.5% من احتياجات العالم من الطاقة، واحتياجات الولايات المتحدة والصين والعالم بأكمله”.
كما برر فشل المملكة في التصدي لمثل هذه الهجمات رغم تصدرها قائمة مستوردي الأسلحة والمعدات العسكرية في العالم وإنفاقها مليارات الدولارات على شرائها بقوله: “السعودية تقريبًا بحجم قارة، فهي أكبر من أوروبا الغربية، والتهديدات موجودة من 360 درجة، ويصعب تغطية كل هذا بشكل كامل”.
وعن التأثير الذي قد تسببه حرب بين السعودية وإيران على المملكة، قال: “المنطقة تشكل تقريبًا 30% من إمدادات الطاقة في العالم، ونحو 20% من المعابر التجارية العالمية، ونحو 4% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي. تخيل كل هذه الأشياء الثلاث تتوقف، هذا يعني انهيارًا كاملاً للاقتصاد العالمي وليس فقط للسعودية أو دول الشرق الأوسط”.
وعما إذا كان يرى أنه على الرئيس ترامب الأمريكي دونالد ترامب ونظيره الإيراني حسن روحاني الجلوس وصياغة اتفاق جديد، علق بقوله: “بلا شك، هذا ما يطلبه الرئيس ترامب، وهذا ما نطلبه جميعًا. ورغم ذلك، الإيرانيون هم الذين لا يريدون الجلوس على الطاولة”.
صور من داخل شركة أرامكو توضح آثار الانفجار
حرب اليمن
حلت الكارثة الإنسانية في اليمن بدورها على طاولة اللقاء، خاصة أنها كانت سببًا لموجة إدانات حقوقية وعالمية تعرض لها ولي العهد خلال السنوات الخمسة الماضية، وبسؤاله عن رؤيته لحل “أسوأ أزمة إنسانية في العالم” – بحسب وصف مقدمة البرنامج – الناجمة عن حرب اليمن، قال: “أولاً، إذا أوقفت إيران دعمها لميليشيات الحوثيين، فسيكون الحل السياسي أسهل بكثير. اليوم، نفتح جميع المبادرات لحل سياسي في اليمن، ونتمنى أن يحدث هذا اليوم قبل الغد”.
وعما إذا كان مستعدًا للتفاوض على إنهاء تلك الحرب قال “نحن نقوم بذلك كل يوم، لكن نحاول أن ينعكس هذا النقاش إلى تطبيق فعلي على الأرض. وإعلان الحوثيين قبل بضعة أيام وقف إطلاق النار من جانبهم، نعتبره خطوة إيجابية للدفع للأمام نحو حوار سياسي أكثر جدية ونشاطًا”.
وكان مهدي المشاط رئيس المجلس السياسي التابع للحوثيين اليمنيين أعلن، في 20 من سبتمبر/أيلول الحاليّ، وقف كل أشكال استهداف الأراضي السعودية مع الاحتفاظ بـ”حق الرد”، وإطلاق “مبادرة سلام” هدفها إتمام مصالحة “وطنية شاملة” بموجب مفاوضات “جادة وحقيقية” بين مختلف أطراف الحرب، لكن العمليات العسكرية ما زالت جارية خلال الأيام العشر الماضية.
“الأنبياء أخطأوا، فكيف بنا نحن، لكن المهم إذا أخطأنا أن نتعلم من أخطائنا ونتأكد أنها لن تتكرر” محمد بن سلمان
حقوق المرأة السعودية
حرص ابن سلمان على محاولة تقديم صورته كـ”مصلح منفتح” داعم لحقوق المرأة، مرجعًا تدني الوضع في هذا الملف إلى بعض القوانين السعودية التي لا يتفق معها، غير أنه مضطر لاحترامها حتى يتم إصلاحها على حد قوله، وذلك تعليقًا على قضية اعتقال الناشطات السعوديات المحتجزات منذ أكثر من عام.
ففي رده على سؤال عن سبب اعتقال الناشطات اللاتي ناضلن من أجل حقوق النساء وقيادة المرأة للسيارات وحرية السفر، قال: “المملكة العربية السعودية دولة تحكمها القوانين، بعض هذه القوانين قد لا أتفق معها شخصيًا، لكن طالما أنها قوانين موجودة حاليًّا، فيجب احترامها حتى يتم إصلاحها”.
وعن مسألة إطلاق سراح الناشطة لجين الهذلول كمثال أخير للمعتقلات السعوديات، أكد قائلاً “هذا القرار لا يعود لي. الأمر متروك للمدعي العام، وهو مدع عام مستقل”، مضيفًا “إذا كانت قد تعرضت للتعذيب في السجن، كما تدعي أسرتها، فإن هذا أمر بشع جدًا، الإسلام يحرم التعذيب، والقوانين السعودية تحرم التعذيب، والنفس البشرية تحرم التعذيب، وسأتابع هذا الأمر بنفسي.. بلا شك”.
مقدمة البرنامج أشارت في الوقت نفسه إلى تعهد ولي العهد بإصلاحات حقوقية إلا أن ذلك يصطدم بالواقع بشكل كبير، قائلة: “رغم ذلك، هناك حملة قمع للنساء اللاتي يثرن قضايا عن الأشياء التي تحتاج إلى التغيير في المملكة العربية السعودية”، وأضافت: “هذا هو الانطباع، أنك لا تدعم حقوق المرأة وحقوق الإنسان وأن هذه أمثلة ملموسة للنساء اللاتي تعرضن للسجن”.
إلا أنه رد عليها قائلاً “يؤلمني هذا الانطباع ويؤلمني أن البعض ينظر للصورة من خانة ضيقة جدًا، أتمنى أن الجميع يأتي للمملكة العربية السعودية وينظر للواقع ويقابل النساء والمواطنين السعوديين ويحكم بنفسه”، مختتمًا حديثه بالاعتراف بأنه أخطأ وعليه أن يتعلم من خطأه “الأنبياء أخطأوا، فكيف بنا نحن، لكن المهم إذا أخطأنا أن نتعلم من أخطائنا ونتأكد أنها لن تتكرر”.
حملة لترميم الصورة
اختيار ولي العهد السعودي لهذا البرنامج الشهير على وجه التحديد بعد عام ونصف فقط من لقائه الأخير معه يرجح تفسيرات البعض بأنه يأتي في إطار حملة علاقات عامة كان قد بدأها الأمير الشاب قبل عامين تقريبًا، تهدف إلى تسويق صورته وتحسينها للخارج قبل الداخل.
ولي العهد الذي تتعرض بلاده الآن لهزات عنيفة، نتيجة السياسات المتبعة، التي يتحمل هو الجزء الأكبر فيها بصفته الحاكم الفعلي للمملكة وفق ما ذهب الكثيرون، يسعى وبشكل مكثف للدفاع عن نفسه في مرمى الاتهامات المتتالية التي يقذف بها من مختلف وسائل الإعلام والمنظمات الحقوقية.
وعن الملف اليمني الذي يعد الأشرس في حملة الإدانات الدولية لا سيما الحقوقية، حمّل ولي العهد مسؤولية ما وصلت إليه الأوضاع إلى الإيرانيين ودعمهم للحوثيين، محاولًا نفي أي مسؤولية لبلاده
الملفات الأربع التي تم اختيارها لتكون محاور اللقاء تغطي الجانب الأكبر من جملة الاتهامات التي يتعرض لها الأمير الشاب، فالرجل ابتداءً تعهد بمحاسبة الضالعين في جريمة مقتل خاشقجي بعد اعترافه بتورط مسؤولين من المملكة في قتله، وهو الذي نفى ذلك في تصريحات سابقة له، إلا أن ما يهم الآن هو نفي التهمة عنه شخصيًا وهو ما أكده.
ثم انتقل لملف استهداف أرامكو على بلاده، مقللاً من تداعيات ذلك في محاولة لطمأنة العالم بقوة اقتصاد المملكة وقدرتها على التعافي سريعًا، مبديًا في الوقت ذاته موافقة السعودية على جلوس أمريكا وإيران إلى طاولة المفاوضات، محملاً الإيرانيين مسؤولية عدم التوصل إلى اتفاق بهذا الشأن، ردًا على ما يثار بشأن تحفظ المملكة على عقد مثل هذا اللقاء الذي بلا شك يضربها في عقيدتها السياسية والعسكرية في المنطقة.
وعن الملف اليمني الذي يعد الأشرس في حملة الإدانات الدولية لا سيما الحقوقية، حمّل ولي العهد مسؤولية ما وصلت إليه الأوضاع إلى الإيرانيين ودعمهم للحوثيين، محاولاً نفي أي مسؤولية لبلاده في تحويل اليمن السعيد إلى واحد من أكثر مناطق العالم بؤسًا وفقرًا وانتهاكًا.
ثم اختتم حديثه بالتطرق للشأن الداخلي مبرئًا ساحته من أي إدانات وجهت له بسبب تردي منظومة الحقوق، رغم الصورة المغايرة التي يسعى لتصديرها خارجيًا، فالرجل يقر بوجود انتهاكات لكنه أرجعها إلى القوانين المعمول بها في المملكة، التي رغم أنه لم يوافق عليها، فهو مضطر لتقبلها لحين تغييرها، وهو ما يأمل فيه خلال المرحلة المقبلة.
في مارس 2018 قام ولي العهد بجولة مكوكية لأمريكا استمرت قرابة 3 أسابيع، زيارة وصفها مقربون حينها بأن الهدف منها تصحيح الصورة السلبية لبلاده دوليًا، التي تأثرت بشكل كبير بسبب الحرب في اليمن وحملة الاعتقالات التي استهدفت مئات الأمراء ورجال الأعمال الذين اضطرهم إلى دفع المال مقابل إطلاق سراحهم، في إطار “تسويات” لفّها كثير من الغموض وواكبتها انتقادات كبيرة.
وخلال تلك الزيارة، ورغم تعدد أطياف المسؤولين الذي حرص ابن سلمان على مقابلتهم، فإن اجتماعاته بالإعلاميين الأمريكيين كانت الأبرز، وشملت وقتها رجل الأعمال الأسترالي الأمريكي، الذي يعتبر قطبًا من أقطاب التجارة والإعلام الدولي، روبرت مردوخ، وكذلك الصحافي المعروف توماس فريدمان، بجانب عدد من كبار الصحافيين في أعرق الصحف والمؤسسات الإعلامية الأمريكية، بينها “نيويورك تايمز” و”واشنطن بوست” و”لوس أنجليس تايمز” و”ول ستريت جورنال” وغيرها.
وبعد مرور أكثر من عام ونصف على حملة غسيل السمعة السابقة التي ثبت بالتجربة فشلها في تلميع صورة ولي العهد وتحسين صورة بلاده في ظل استمرار الإدانات والانتقادات للملفات ذاتها، إلا أن الرجل يبدو أنه على موعد مع حملة جديدة تأتي في ذات الإطار، لكن يبقى السؤال: هل تنجح هذه المرة؟