ترجمة حفصة جودة
بينما كانت السماء الغاضبة تمطر وتهدد برعدها، كان هناك رجل يمشي وحيدًا بين أنقاض مركز احتجاز ذمار شمال اليمن حيث يسيطر الحوثيون، رغم أن أخيه أحمد – أحد حراس المكان – مات هنا في أثناء قصف الموقع مؤخرًا، فإن مصطفى العدل ما زال موظفًا هنا لحراسة الأنقاض، في المساء ينام مصطفى في أقل المباني ضررًا ويقول مصطفى إنه لا يعبأ بالمطر فقد غسل دمائه.
يقول مصطفى – 22 عامًا: “يمكنك أن ترى بطانية أحمد الزرقاء معلقة هناك حيث المكان الذي كان يبيت فيه الحراس، كان هناك 200 شخص في هذا المكان والآن لم يعد هناك إلا الأشباح”، تبدو المعاناة واضحة في كل مكان، لكن في المناطق التي يسيطر عليها المتمردون شمال اليمن تقع أسوأ أزمة إنسانية في العالم وتلوح في الأفق أشباح الكوليرا والجوع والضربات الجوية السعودية.
كان الهجوم الليلي الذي وقع في ذمار يوم 1 من سبتمبر هو الأسوأ من بين هجمات التحالف السعودي، فحتى بمقاييس الصراع التي يحددها القصف العشوائي للمدنيين في الأسواق وحفلات الزفاف والمستشفيات، كان العنف مروعًا للغاية.
يشير مصطفى العدل إلى المكان الذي قتل فيه أخيه مصطفى
توفي على الأقل 100 شخص في 7 ضربات دمرت المنطقة حسب شهود عيان، وتطلب الأمر 5 أيام لإزالة الجثث العالقة في أسياخ الحديد بين الجدران المتحطمة، منذ أن تحول الحرم الجامعي لكلية المجتمع إلى مركز اعتقال غير قانوني، كان من المفترض أن تتحول ذمار إلى قائمة المواقع التي لا يمكن للتحالف ضربها.
يقول علي أحمد العباسي – 39 عامًا – أحد الناجين، إن نصف السجناء جنود عبد ربه منصور هادي والنصف الآخر مدنيون اعتقلهم الحوثيون، عند مدخل المكان تنتشر صور وجوه الموتى المحترقة والملطخة بالدماء على إحدى الحوائط لتراها الأسر وتتعرف عليها، وفي بعض الحالات لا يوجد وجه.
يضيف العباسي: “لقد زارنا الصليب الأحمر قبل 3 أشهر، من المستحيل أن لا يعلم التحالف بوجودنا هنا”، كان التحالف السعودي قد أنكر أنه قصف مركز احتجاز، وقال إنه قصف موقعًا عكسريًا يستخدمه الحوثيون لإعادة تخزين الصواريخ والطائرات دون طيار.
صنعاء عاصمة اليمن
هذه الضربات على ذمار التي قد تعد جرائم حرب تضرب شمال اليمن بانتظام بشكل مثير للقلق، أما محافظة صعدة التي تعد معقل الحوثيين على الحدود اليمنية السعودية فهي تتعرض لقصف أشد، فبالكاد تستطيع أن تجد شارعًا في المدينة لم يصبه القصف، لقد دُمرت منازل المدنين والسوق الرئيسي ومكتب البريد.
هنا يأتيك الموت من أعلى، ففي وقت الغداء بأحد المطاعم لم يحفل الناس بأزير الطائرات السعودية حتى عندما دارت عائدة وقصفت المكان للمرة الثانية والثالثة والرابعة، على كل حال فالحوثيون – المعروفون رسميًا بأنصار الله – حركة تعمل في حرب العصابات منذ عقود وبمساعدة طهران أصبحوا يمتلكون تكنولوجيا متطورة من الطائرات دون طيار وبإمكانهم شن هجوم عابر للحدود يضرب في عمق السعودية ويستهدف أصولًا مثل حقول النفط والقواعد العسكرية والمطارات.
تنتشر الصور البطولية للحوثيين على قناتهم التليفزيونية “المسيرة” بالإضافة إلى أغاني المعارك الحوثية المعروفة باسم “زوامل” التي تجذب حتى قوات التحالف لسماعها، هذه الأغاني تسخر من ابن سلمان وتعده بالمزيد من الهدايا الحوثية عبر الحدود.
محركات القنابل العنقودية بريطانية الصنع
يطلق البعض على اليمن الآن “فيتنام السعودية”، لكن في الحقيقة من دون إمدادات السلاح الثابتة والمركبات والخبرة التقنية التي تقدمها المملكة المتحدة والولايات المتحدة وبقية الدول الغربية، فإن الوضع الحاليّ سيكون أسوأ للرياض.
يدرك اليمنيون جيدًا مصدر الصواريخ التي تسقط على رؤوسهم، فمن السهل تتبع البيانات التقنية والأقام التسلسلية من بقايا الصواريخ الناجية من الانفجار ومعرفة مصانعها في الغرب.
في وكالة إزالة الألغام والقنابل بصنعاء كانت أجزاء الأسلحة التي نجت من الانفجار تلمع في الشمس، من بينها أجزاء محرك لأربع مستشعرات خاصة بقنابل عنقودية التي تعد محرمة وفقًا للقانون الدولي لأن ذخائرها الصغيرة تنتشر بشكل عشوائي على نطاق واسع، تقول البيانات إن الصواريخ من صنع شركة “Goodrich” الأمريكية لكنها مصنعة في مصنع ولفرهامبتون في المملكة المتحدة.
سعدية إبراهيم في قسم سوء التغذية بمستشفى السبعين
توقفت “Goodrich” عن عملياتها في 2012 لكن وقت تصنيع الأسلحة الذي قد يسبق تاريخ حظر الأسلحة ليس معروفًا وليس معروفا أيضًا إذا ما كانت الأجزاء معدة للاستخدام في القنبلة أم تم استخدامها لاحقًا، وما زالت شركة “Collins Aerospace” التي تشكلت بعد “Goodrich” تُنتج من موقع “ولفرهامبتون”.
وبغض النظر عن الغارات الجوية، فالحياة في صنعاء – المشهورة بمعمارها الساحر الذي يعود لـ2500 عام – تبدو طبيعية من على السطح، فقد قام الحوثيون بعمل جيد في إبعاد القاعدة عن أراضيهم وأصبحت الشوارع أكثر نظافة ونظامًا عن أي مكان آخر في البلاد.
لكن هذا الهدوء النسبي له ضريبته، فوفقًا لمنظمة حقوق الإنسان “مواطنة” يتعرض المعارضون للتعذيب والسجن بشكل منتظم، كما تتعرض الأقلية الدينية البهائية للاضطهاد باعتبارهم عملاءً لـ”إسرائيل”.
صور شهداء الحوثيين على جدران أحد مساجد البلدة القديمة في صنعاء
أدى الحصار السعودي الجوي والبري والبحري على الحوثيين إلى إبقاء الشمال على الحافة، لكن بحسب مصدر دبلوماسي فإن قادة الحوثيين تمكنوا من توفير خط إمدادات من سلطنة عمان، أما المواطنون فقد ازدادت معاناتهم، فرغم أن الأسواق في صنعاء مليئة بالمنتجات، فإن انهيار الاقتصاد أدى إلى تضاعف أسعار الوقود والطعام عما كانت عليه قبل الحرب.
يعتمد 80% من السكان الآن – البالغ عددهم 24 مليون نسمة – على الإعانات للبقاء على قيد الحياة، كما أن نصفهم على شفا المجاعة، تقول الأمم المتحدة إنه بنهاية العام سيصل عدد الوفيات نتيجة القتال والأمراض إلى 230 ألف نسمة أي 0.8% من سكان البلاد.
تكتظ مستشفيات المدينة بمرضى سوء التغذية والكوليرا من الأسر في المحافظات المجاورة حيث يرسلون أحبابهم لتلقي العلاج المناسب هناك، في مستشفى السبعين للمرأة والطفل تقول جميلة محمد – 36 عامًا – إن الكوليرا تصيب أسرتها كل عام عندما يبدأ موسم الأمطار، وفي الصيف الماضي فقدت طفلتها ذات الثلاث سنوات، والآن عادت إلى المستشفى لعلاج ابنة أختها ذات العامين.
رجال يجلسون أمام جدارية في وسط مدينة صعدة
هناك يموت الرجال أيضًا، فالملصقات الخضراء والوردية لصور القتلى والأبرياء الذين ضربتهم الغارات الجوية تغطي جدران المنازل والشركات والسيارات والشوارع على غرار حزب الله، وتتميز صور الشهداء بصرخة الحوثيين المرسومة باللونين الأحمر والأخضر ومكتوب على كل صورة: “الله أكبر، الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل، اللعنة على اليهود، النصر للإسلام”.
بدأ الحوثيون حياتهم في التسعينيات كحركة دينية لمواجهة محاولات الرياض لنشر الوهابية، وخلال محادثات السلام كانت أجندتهم السياسية مشوشة، لكنهم تطوروا إلى منظمة عسكرية متطورة، ومع اشتداد الحصار السعودي والضربات الجوية تعاطف سكان الشمال مع معاناة الحوثيين، وبسبب ندرة العمل اضطر بعض الرجال للقتال في صفوف الحوثيين والحصول على راتب مقاتل 100 دولار في الشهر.
يوسف الأمير يقفز من على بقايا حافلة المدرسة التي تفجرت العام الماضي
لا يوجد مكان يعبر عن الظلم أكثر من قرية ضحيان في صعدة التي تعرضت قبل عام إلى قصف جوي سعودي استهدف حافلة مدرسية وتسبب في مقتل 44 طفلاً، يقول الخبراء إن قطع الصواريخ تشير إلى صنعها في شركة “لوكهيد مارتن” الأمريكية، وفي موقع الحادث ترفرف لافتة تحمل صور الضحايا الأطفال مكتوب بجوارهم “أمريكا تقتل أطفال اليمن”.
في مقبرة القرية أصبحت قبور الأطفال مزارًا، ويزور الطفل يوسف الأمير – 12 عامًا – قبور أصدقائه بعد المدرسة عادة كل يوم، وفي أثناء حديثه عن افتقاده لأصدقائه تحوم الطائرات السعودية فوق المكان، وفي قسم الشهداء بالمقبرة كان هناك قبران محفوران حديثًا، قال حارس المقبرة إنه لا يتوقع قدوم جنازات اليوم لكنه يعلم أنه المزيد سيأتون في الأيام القادمة.
المصدر: الغارديان