موجة جديدة من الاحتجاجات الغاضبة شهدتها العاصمة اللبنانية بيروت وبعض المدن الأخرى، بسبب ما آلت إليه الظروف المعيشية من تدهور غير مسبوق، هذا بجانب تفاقم الفساد الذي تمكن من الفتك بمرتكزات الدولة، في الوقت الذي رفعت فيه الحكومة شعارات التهدئة والوعود المعتادة.
مثل هذه التظاهرات لم تكن الأولى من نوعها خلال الأونة الأخيرة، إذ شهدت شوارع البلاد موجات من المد والجذر بين الحكومة والشعب في ظل التراجع المستمر في مؤشرات الحياة العامة، وهو ما أنَ منه المواطن اللبناني الذي حمًل سلطات بلاده مسئولية الوصول إلى هذه المرحلة الحرجة.
الاحتجاجات الغاضبة تجاوزت حاجر الاكتفاء برفع الشعارات المنددة بسياسة الحكومة إلى التصعيد عبر وجوه عده، على رأسها قطع الطرق الرئيسية وإضرام النيران في إطارات السيارات، هذا فيما وقعت اشتباكات بين قوى الأمن الداخلي والجيش من جانب والغاضبون من جانب أخر.
احتجاجات تعم بيروت وضواحيها
البداية كانت من ساحة الشهداء، وسط العاصمة بيروت، حيث نظم المئات تظاهرات حاشدة، جابت شوارع المدينة وصولا إلى مقر الحكومة، وذلك استجابة لدعوات أطلقها نشطاء على مواصل التواصل الاجتماعي، وقد ردد المشاركون في المسيرة عددًا من الهتافات المنددة بسياسات الحكومة منها “بدنا حكومة اختصاصيين مش مصاصين”، أي “نريد حكومة كفاءات”.
وقد شهدت المظاهرات مناوشات بين المتظاهرين وقوات الأمن بلغت ذروتها مع الظهيرة حين أقدم الغاضبون على قطع الطريق من مبنى النهار وسط العاصمة في اتجاه جامع الأمين، واتجهوا إحدى المجموعات للدخول إلى ساحة المجلس النيابي عبر أحد الممرات الفرعية.
وفي شمال شرقي البلاد، وتحديدًا في منطقة بعلبك، أقدم المتظاهرون على قطع الطريق الدولية في بلدة دورس لجهة مدخل المدينة الجنوبي، أما في قضاء الهرمل (أقصى شمال شرق) فقد اعتصم العشرات أمام سرايا الهرمل الحكومي، رافعين شعارات تندّد بالفساد والإهمال، وسط إجراءات مشددة للقوى الأمنية
وحسب وكالة الأنباء اللبنانية، ردد محتجون في ساحة النور بطرابلس هتافات منددة بالفقر وتردي الأوضاع الاقتصادية وبالحرمان من بعض الخدمات، كما طالبوا بالعمل سريعا على تحسين الأوضاع المعيشية ومحاسبة الفاسدين، وضرورة الاستماع لصوت الشارع الذي يئن من الحال التي وصل إليها.
نسبة البطالة في لبنان بلغت 36%، أي 660 ألف شخص عاطلون عن العمل، يضاف إلى هذ العدد 800 ألف سيدة ربة منزل من حاملي الشهادات من دون عمل
وأظهرت مقاطع مصورة بثتها قناة الجديد التلفزيونية محتجون في طرابلس، ثاني أكبر مدن لبنان، يضرمون النار في صورة لرئيس الوزراء سعد الحريري. وقالت إن محتجين تجمعوا قرب منزل نجيب ميقاتي وهو رئيس وزراء سابق، فيما قالت مهى يحي مديرة مركز كارنيجي للشرق الأوسط في بيروت إن احتجاجات يوم الأحد ليست إلا قمة جبل الجليد. وأضافت لـ “رويترز” ”أنها انعكاس للكثير من القلق المكبوت الذي نستشعره على كافة الأصعدة“.
مناوشات بين قوات الأمن والمتظاهرين اللبنانيين
وفي تعليقها على ما حدث قالت وزيرة الداخلية والبلديات في الحكومة اللبنانية ريا الحسن “أتفهم تذمر الناس من الوضع الاقتصادي والمالي الصعب”، وتابعت “أنا مع حرية التظاهر والتعبير لكن ما لا يمكن فهمه هو صور الحرق والتكسير والتمزيق والشتم التي تشوه أي تحرك مطلبي”.
الحسن أثنت في حديثها على “عمل الاجهزة الامنية خلال هذا اليوم(الاحد) الامني الطويل والمتعب”، واعتبرت ان “هذه الجهود لم تسمح لاحد بأخد التظاهرات الى أمكنة اخرى بعيدة عن غايتها”، وتابعت “كما لا اقبل ان يعتدي اي رجل امن على اي مواطن”.
أزمة اقتصادية طاحنة
يعاني لبنان من أزمة اقتصادية طاحنة، ساعدت الأوضاع السياسية الملتهبة والتلكؤ في إتمام ركائز الاستقرار في إشعالها بصورة لم يسبق لها مثيل، إذ بلغ إجمالي الدين العام 86.2 مليار دولار في الربع الأول من 2019، وفق بيان صادر عن وزارة المالية في أيار/ مايو الماضي.
حزمة من المظاهر الكاشفة للوضع الاقتصادي المتردي تلقي بظلالها القاتمة على المشهد، وهو ما تجسده قيمة العملة المحلية والتي تعطي بعض الدلالات على مدى قوى منظومة الاقتصاد، إذ تراجعت الأسبوع الماضي مسجلة 1650 ليرة للدولار، في متاجر الصرافة، بعد أن ظلت ثابتة عند قيمة 1500 ليرة للدولار منذ عام 1997.
كما شهدت معدلات التضخم في السنوات الاخيرة ارتفاعات مضطردة بلغت في حدها الاقصى في العام الماضي (6.1%)، وقد عمل مصرف لبنان منذ العام 2014 على ضبط ايقاع التضخم وحصره ضمن حدود معينة كي لا ينعكس ذلك على الوضع الاقتصادي والاجتماعي في مرحلة صعبة ومعقّدة. وعليه، نجح في تأمين معدلات تضخم معتدلة في العامين 2018 و2017 بينما نجح بتأمين نسبة تضخم ثابتة في العام 2016 (نحو 0.8%).
وفي دراسة أجرتها جمعية “مبادرات وقرارات” تبين أنّ نسبة البطالة في لبنان بلغت 36%، أي 660 ألف شخص عاطلون عن العمل، يضاف إلى هذ العدد 800 ألف سيدة ربة منزل من حاملي الشهادات من دون عمل، أما وفقا للتقديرات التي أصدرها البنك الدولي فإن معدل البطالة في البلاد بلغ في العام 2018 نسبة 25 % وتجاوزت النسبة 36 % في صفوف الشباب.
حرق إطارات وقطع طرق خلال احتجاجات الأحد
الحكومة اللبنانية تسعى جاهدة لمحاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه وذلك عن طريق إسراع الخطى لإقرار مشروع الموازنة العامة والموازنات الملحقة لسنة 2020، في سباق مع الزمن، في ظل الإشارات المتزايدة عن صعوبة الأوضاع المالية والاقتصادية التي يخشى كثيرون من أن تُفضي إلى انهيار شامل.
وكانت الهيئات الاقتصادية اللبنانية قد عقدت الثلاثاء الماضي، اجتماعاً برئاسة رئيسها وزير الاتصالات محمد شقير، تم خلاله بحث الأوضاع العامة مع بدء مناقشة مشروع موازنة الـ2020، واستباقاً لأي حلول قد تأتي على حساب الاقتصاد والقطاع الخاص، وأصدرت بيانا أبدت فيه “تخوفها من مسلسل التراجعات التي تصيب مفاصل الاقتصاد الوطني كافة من دون استثناء”، معتبرة أن “هذه الأزمة العميقة والخطرة لم يمر فيها لبنان بتاريخه”
الجمعية اللبنانية لتعزيز الشفافية قد أعلنت في دراسة أعدتها للعام 2019 أن لبنان يحتل المرتبة مئة وستة وثلاثين على مؤشر الفساد من بين مئة وثمانين دولة في العالم
الفساد.. كلمة السر
الأكاديمية اللبنانية خديجة مصطفى في مقال لها بصحيفة “النهار” اتهمت المجتمع اللبناني بشتى أطيافه بالفساد، لافتة إلى أن “الفساد في لبنان ليس فساد أفراد بل فساد وضع ناتج عن تناقض بين القوانين وفلسفتُها المواطن الفرد، وبين ممارسةٍ في الواقع تأخذ طابعاً طائفياً”
وعليه – ووفق الباحثة- ” لا يوجد فرد، شخص على أرض الجمهورية اللبنانية إلّا وهو فاسد، جميعنا فاسدون دون استثناء، سواء أكان ذلك عبر مشاركتنا الفعلية في الفساد أو عبر الاستفادة من الوضع الفاسد بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. وليعد كل منّا إلى نفسه ويتأمل ويرى كيف توظّف وحصل على عمل، ترقية، فتح مشروع، مؤسسة، زفت طريق… ولنبحث جيداً، نعم جميعنا فاسدون دون استثناء، جميعنا مستفيدون من الفساد أو مشاركون فيه. كلٌّ له طريقته التي تتوافق مع ممارسة طائفته. في لبنان الفساد ليس فساد فرد وأفراد إنما فساد وضع ككل”
وكانت الجمعية اللبنانية لتعزيز الشفافية قد أعلنت في دراسة أعدتها للعام 2019 أن لبنان يحتل المرتبة مئة وستة وثلاثين على مؤشر الفساد من بين مئة وثمانين دولة في العالم، وأن هذا الرقم مرجح في الصعود في ظل عدم وجود غطاء تشريعي قادر على تحجيمه.