ترجمة وتحرير: نون بوست
في بلدة تتأرجح “على كف عفريت” مثلما يقول المثل العربي، بات صوت الرصاص والانفجارات مألوفا أكثر من الخبز، لن تتوقع أن يهتم المواطنون هناك بالقراءة، ناهيك عن المخاطرة بحياتهم من أجل الكتب. لكن خلال سنة 2013، أنقذت مجموعة من الشباب القراء المتحمسين في مدينة داريا، الواقعة على بعد خمسة أميال جنوب غرب دمشق، آلاف الكتب من المنازل المدمرة، ولفوها في بطانيات تماما مثلما يفعلون مع ضحايا الحرب المحيطين بهم.
وضعوا الكتب في طابق أرضي لمبنى حطّمت القنابل طوابقه العليا وأنشأوا فيه مكتبة. وفي الوقت الذي يروي فيه مايك طومسون هذه القصة غير المتوقعة في “المكتبة السرية في سوريا”، تبرز مجموعة الكتب الموجودة تحت الأرض المُحاطة بأكياس رملية، “كواحة للحياة الطبيعية على جزيرة في بحر الدمار”، على حد تعبير أحد رواد على المكتبة.
يُدوّن أمجد، البالغ من العمر 14 سنة الذي عين نفسه كبير أمناء المكتبة، أسماء الأشخاص الذين استعاروا الكتب في ملف كبير، ثم يعود إلى مقعده لمواصلة القراءة. كان بحوزة أمجد جل الكتب التي يرغب في قرائتها، باستثناء الكتب المتواجدة على الرفوف العالية التي لا يستطيع الوصول إليها.
في هذا الصدد، قال أمجد لأصدقائه: “ليس لديكم تلفزيون لمشاهدته الآن، فلماذا لا تأتون إلى المكتبة وتُثقّفون أنفسكم؟ إنه أمر ممتع”. أسبوعيا، كانت المكتبة تستضيف ناديا للكتاب إلى جانب دروس في اللغة الإنجليزية والرياضيات والتاريخ ومناقشات حول الأدب والدين.
أمجد، كبير أمناء مكتبة داريا السرية.
لقد كانت الدعاية لأنشطة المكتبة دون المساس بأمنها بمثابة معضلة، لذلك اعتمد روادها الاتصال الشفوي خوفا من أن يستهدفها الجيش العربي السوري. وبحلول الوقت الذي أنشئت فيه المكتبة، كانت مدينة داريا، مركز الانتفاضة المناهضة للحكومة ودعوات الإصلاح، تحت الحصار من قبل الجيش لأكثر من سنة. وواجه سكانها 8000 المتبقين من عدد سكان كان يقدر بحوالي 80 ألف قبل الحرب، قصفا شبه مستمر ونقصا في الغذاء والماء والطاقة.
سنة 2014، تفاقم الوضع عندما جعل تنظيم الدولة من الرقة عاصمته الحاليّة وواصل غزو مناطق شاسعة من سوريا والعراق. كان الجهاديون يدفعون الأموال للناس للانضمام إليهم، وكان العديد من الآباء يجهلون حقيقة الوظائف التي يشغلها أبناؤهم حتى فوات الأوان. وأفاد همام، وهو متطوع في المكتبة، لطومسون: “الجهل هو دائمًا عدو للإنسانية”. وفي سنة 2016، رفع الحصار بعد احتجاجات عديدة على مواقع التواصل الاجتماعي، بما في ذلك رسالة مفتوحة موقّعة من قبل 47 امرأة في داريا، والتي كشفت عن مدى يأسهم، إلى جانب حقيقة أن المدينة كانت مليئة بالمدنيين وليس بالإرهابيين، كما تدعي الحكومة.
يستطيع كتاب طومسون أن يساعد العالم الخارجي على فهم السوريين بشكل أفضل أيضا. في الواقع، طغت اضطرابات الحرب الأهلية على التاريخ الأدبي الثري للبلاد
كرّس طومسون، وهو مراسل إذاعي وتلفزيوني عمل على تغطية الحرب في سوريا لصالح هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي”، أشهرًا لإجراء مقابلات مع مؤسسي المكتبة وأصدقائهم عبر السكايب ومواقع التواصل الاجتماعي. وحتى عندما تعطلت الإنترنت في داريا، سجل مساعدوه أقوال الأشخاص على هواتفهم في شكل مذكرات صوتية يمكنهم إرسالها إلى طومسون ما إن يستعيدوا الاتصال بالأنترنت. ووفقًا لأحد المؤسّسين، كان كتاب طومسون بمثابة صورة ملهمة لمدينة كانت فيها “الطاقة من أجل الروح” ضرورة أساسية.
علاوة على ذلك، قال مؤسس آخر، وهو طالب طبّ أسنان محلي، إن الكتب “تساعدنا على فهم العالم الخارجي بشكل أفضل”. وبالمثل، يستطيع كتاب طومسون أن يساعد العالم الخارجي على فهم السوريين بشكل أفضل أيضا. في الواقع، طغت اضطرابات الحرب الأهلية على التاريخ الأدبي الثري للبلاد، وكانت مكتبة داريا السرية بمثابة دليل على سعي الشعب السوري الطويل لاكتساب المعرفة في الأوقات الجيدة والسيئة. وكتب طومسون أن السوريين، مثل العديد من السكان الآخرين في مناطق الصراع، يحلمون “بمكان يبنون فيه مستقبلا يخلو من الرصاص والقنابل”.
الفنان أبو مالك بجوار صورته الجدارية وسط أنقاض داريا سنة2014.
في إطار تكديس الكتب تحت شوارع داريا المحطمة، رسم بعض الفنانين المحليين رسومات على جدران المباني المدمرة. وفي صورة متحركة رسمها أبو مالك، وهو فنان محلي يطلق عليه اسم بانكسي، تقف فتاة صغيرة على كومة من الجماجم بينما تكتب كلمة “أمل” عاليا على الحائط.
المصدر: نيويورك تايمز