منذ تأسيسها قبل 70 عامًا، زادت تجارة الصين واستثماراتها مع العالم بشكل كبير. اليوم، الأول من أكتوبر/تشرين الأول، تحتفل البلاد بتحولها إلى قوة اقتصادية عظمى، في الوقت الذي تتصاعد فيه مخاوف واسعة النطاق من أن تؤدي حرب تجارية مع الولايات المتحدة إلى عرقلة هذا النمو وسحب الاقتصاد العالمي معه إلى أسفل.
هذه الاحتفالات – التي ستتضمن عرضًا عسكريًا يضم 15 ألف جندي وعرض نحو 160 طائرة حربية و580 دبابة وأسلحة أخرى – تُوصف باعتبارها لحظة مهمة في تاريخ الصين من الانتصار على الغزو الأجنبي والإمبريالية، وتُستخدم كفرصة لإظهار القوة حيث تواجه الجمهورية الشعبية معارضة متزايدة لشكل أكثر مركزية من الحكم في عهد الرئيس شي جين بينغ.
الإصلاح على الطريقة الصينية
عندما سيطر الحزب الشيوعي على الصين، كانت الصين “دولة فقيرة للغاية”، إذ يدور الاقتصاد في الغالب حول زراعة الكفاف التي تعتمد على الاكتفاء الذاتي، ويركز فيها المزارعون على زراعة الأطعمة التي تكفيهم لإطعام أنفسهم وعائلاتهم، ولم يكن هناك شركاء تجاريون ولا علاقات دبلوماسية، وكانوا يعتمدون على الاكتفاء الذاتي.
كانت السنوات التي تلت ثورة زعيم الحزب الشيوعي الصيني ماو تسي تونغ كارثية بالنسبة للاقتصاد الصيني، حيث شهدت فترة الخمسينيات إحدى أكبر الكوارث الاقتصادية البشرية في القرن العشرين، حين حاول “ماو” تحقيق “قفزة عظيمة للأمام”، فبدأ الفلاحون في كثير من الأحيان في التخلي عن الزراعة للعمل في إنتاج المواد الصلبة أو العمل في الإنتاج الصناعي.
كان الناتج المحلي الإجمالي للفرد في الولايات المتحدة عام 1952 يبلغ 2349 دولارًا، أي 44 ضعف نظيره في الصين
وعُرفت السنوات الثلاثة بين عامي 1959 و1962 باسم “الثلاث السنوات المريرة”، و”ثلاث سنوات من الكوارث الطبيعية” (على الرغم أنه الآن نادرًا ما يستخدم هذا الاسم في الصين)، وتمثلت الكارثة الكبرى في المجاعة، حيث عانى الشعب الصيني من نقص حاد في الطعام، وتوفي ما بين 10 إلى 40 مليون شخص خلال تلك الفترة التي كان لها تأثير كبير على تاريخ الحياة الريفية في الصين.
ووفقًا لمكتب الإحصاء الوطني الصيني، بلغ حجم اقتصاد الصين عام 1952، وهو أول عام متاح لمثل هذه البيانات، نحو 119 يوان للشخص الواحد، كان ذلك يعادل 54 دولارًا بسعر الصرف في ذلك الوقت، وفقًا لشركة الاستشارات “برايس ووتر هاوس كوبرز” (PwC).
كان الناتج المحلي الإجمالي للفرد في الولايات المتحدة عام 1952 يبلغ 2349 دولارًا، أي 44 ضعف نظيره في الصين، بحسب PwC، وبحلول عام 2018، ضاقت تلك الفجوة إلى حد كبير، إذ يبلغ نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة الآن 6.4 أضعاف نظيره في الصين.
أعقب ذلك الاضطراب الاقتصادي للثورة الثقافية في الستينيات، وهي حملة أطلقها “ماو” لتخليص الحزب الشيوعي من منافسيه، لكنها انتهت بتدمير جزء كبير من النسيج الاجتماعي في البلاد.
بعد وفاة ماو عام 1976، بدأت الإصلاحات التي قادها دنغ شياو بينغ – أحد أبرز وأقوى قادة البلاد في السبعينيات – في إعادة تشكيل الاقتصاد، التي أخرجت البلاد من العزلة الاقتصادية، ويعتبر الانتقال من الاقتصاد الموجه إلى اقتصاد السوق واحدًا من أهم إنجازات دينغ شياو بينغ التي ساهمت في أن تتبوأ الصين مكانتها الحاليّة.
أسفرت “القفزة العظمى إلى الأمام” عن تجويع الملايين في المجتمعات الريفية
بدأ في عهد “بينغ” الإعجاز الاقتصادي الأكثر إثارة للإعجاب في أي اقتصاد في التاريخ بحسب وصف البنك الدولي، حيث مُنح الفلاحون حقوقًا في زراعة أراضيهم وتحسين مستويات المعيشة وتخفيف النقص في الغذاء، وفُتح الباب أمام الاستثمارات الأجنبية.
كما أخرج الصين من عزلتها الدولية المزمنة، حيث أعادت الولايات المتحدة والصين إقامة علاقات دبلوماسية في يناير/كانون الثاني 1979، وحرصًا على الاستفادة من العمالة الرخيصة وتكاليف الإيجار المنخفضة، وتدفقت الأموال، وتمكن من انتزاع اعتراف واشنطن رسميًا ببلاده.
ومن ثمار أفكاره الانفتاحية التوقيع على معاهدة السلام والصداقة مع اليابان عام 1978، وحقق حلمًا طالما انتظره مواطنوه، وهو التفاوض الناجح مع البريطانيين لإعادة هونغ كونغ للحضن الصيني عام 1997، ولم يبعده اقترابه الكبير من واشنطن والقوى العالمية الكبرى كثيرًا عن الدول النامية، ولم يؤثر على موقفه في دعم حركات التحرر الوطني.
وعلى مدار الأربعين عامًا الماضية، أدخلت الصين سلسلة من الإصلاحات السوقية البارزة لفتح طرق التجارة وتدفقات الاستثمار، مما أدى في النهاية إلى انتشال مئات الملايين من براثن الفقر.
وخلال التسعينيات، بدأت الصين في تسجيل معدلات نمو سريعة وانضمت إليها منظمة التجارة العالمية عام 2001. تم تخفيض الحواجز التجارية والتعريفات الجمركية مع الدول الأخرى، وسرعان ما كانت البضائع الصينية في كل مكان.
إليك هذه الأرقام من كلية لندن للاقتصاد: عام 1978، بلغت الصادرات 10 مليارات دولار، أي أقل من 1% من التجارة العالمية. وبحلول عام 1985، بلغت قيمة الصادرات 25 مليار دولار، وبعد أقل من عقدين بقليل، بلغت قيمة الصادرات 4.3 تريليون دولار، مما يجعل الصين أكبر دولة تجارية في العالم في مجال السلع.
حسَّنت الإصلاحات الاقتصادية ثروات مئات الملايين من الشعب الصيني، وفي هذا الشأن، يقول البنك الدولي إن أكثر من 850 مليون شخص قد خرجوا من براثن الفقر، والبلاد تسير على الطريق الصحيح للقضاء على الفقر المدقع بحلول عام 2020.
في الوقت نفسه، بدأ تطوير التعليم منذ بدء الانفتاح الاقتصادي وارتفعت معدلاته، لكن الصينين ما زالوا يطمحون للوصول به إلى مستوى العالمية، وبحلول عام 2030، من المقرر أن يكون نحو 27% من القوى العاملة في الصين حاصلين على التعليم الجامعي، وهذه تقريبًا نفس نسبة ألمانيا اليوم.
صُنع في الصين
قطعت البلاد شوطًا طويلًا على مدار العقود السبع الماضية، حيث وسَّعت حجم اقتصادها بأكثر من 450 مرةً، وتفوقت الصين على اليابان باعتبارها ثاني أكبر اقتصاد في العالم عام 2010، وفقًا لمقياس الأسعار الحاليّة أو من حيث القيمة الأسمية (وليس مقياسًا بالتضخم)، وفقًا لبيانات البنك الدولي ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، وظلت منذ ذلك الحين في هذه المكانة، في المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة.
تسارع النمو في السنوات الأخيرة، حيث بلغ متوسطه ما يقارب 10% قبل التباطؤ إلى ما متوسطه 7.1% في عهد الرئيس الحاليّ شي جين بينغ، ومع ذلك، قدَّرت دراسة صدرت في مارس/آذار من معهد “بروكينغز” أن الصين ربما تكون قد بالغت في تقدير نمو الناتج المحلي الإجمالي من 2008 إلى 2016 بنسبة 1.7 نقطة مئوية.
في تقرير “ماكينزي” الذي حلل 186 دولة، وجد أن الصين أكبر وجهة تصدير لـ33 دولة وأكبر مصدر للواردات لـ65 دولة
من منظور الأسواق، هناك الكثير على المحك، فقد كشف تقرير أصدره معهد ماكينزي العالمي للاستشارات الإدارية في شهر يوليو/تموز أنه بناءً على ارتباط الصين بالعالم في السنوات المقبلة، يمكن إضافة أو طرح قيمة اقتصادية تتراوح بين 22 تريليون دولار إلى 37 تريليون دولار من الاقتصاد العالمي بحلول عام 2040.
في تقرير “ماكينزي” الذي حلل 186 دولة، وجد أن الصين أكبر وجهة تصدير لـ33 دولة وأكبر مصدر للواردات لـ65 دولة، ومع ذلك، فإن النطاق العالمي للصين في تجارة الخدمات ليس بنفس أهمية السلع، فقد أصبحت الصين خامس أكبر دولة مصدرة للخدمات في العالم، حيث بلغت صادراتها 227 مليار دولار عام 2017، أي ثلاثة أضعاف القيمة عام 2005.
كما استوردت الصين 468 مليار دولار من الخدمات عام 2017، مما يجعلها ثاني أكبر مستورد للخدمات في العالم، ومع ذلك، فإن حصة الصين من تجارة الخدمات العالمية تبلغ 6.4 % أي نحو نصف حصة تجارة السلع.
حجم تجارة الصين مع دول العالم – المصدر:CNBC
بالإضافة إلى هيمنتها على التجارة، نمت الصين أيضًا على مر السنين لتصبح لاعبًا رئيسيًا في تدفقات الاستثمار العالمية، فمنذ عام 2015 إلى عام 2017، كانت ثاني أكبر مصدر للاستثمار الأجنبي المباشر في الخارج وثاني أكبر متلق للاستثمار الداخلي، وفقًا لـ”ماكينزي“.
ويتنبأ بعض الاقتصاديين بأن الاقتصاد الصيني سيتفوق على الاقتصاد الأمريكي بحلول عام 2030، ولكن عند الأخذ في الاعتبار مستويات المعيشة المختلفة في مختلف البلدان – المعروفة أيضًا باسم التكيف مع القوة الشرائية – أصبح الاقتصاد الصيني هو الأكبر في العالم منذ عام 2014، وفقًا لما ذكره موقع “بي بي سي”.
ويتكشف الفصل التالي من بناء الدولة عن طريق موجة من التمويل في مشروع البنية التحتية العالمي الضخم، مبادرة الحزام والطريق، المعروف باسم “طريق الحرير الجديد”، ويهدف إلى ربط ما يقرب من نصف سكان العالم وخمس الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وإقامة روابط تجارية واستثمارية تمتد في جميع أنحاء العالم.
المعجزة الاقتصادية الصينية يعترف بها العالم الذي يعيش حقبة “صُنع في الصين”، لكن النجاح الاقتصادي ثوب أبيض لا يخلو من بقعة سوداء
من بين العوامل الرئيسية وراء النهوض الاقتصادي في الصين شبكتها الضخمة من المصانع التي أدت إلى أن تكون عبارة “صنع في الصين” واحدة من أكثر العلامات التجارية شهرة في دول العالم، لا سيما الدول العربية وشمال إفريقيا ومنطقة الشرق الأوسط والخليج العربي.
ولا يزال “التنين الصيني” يتخذ خطوات هائلة في جميع أنحاء العالم، سواء كانت الهواتف المحمولة المصنعة في الصين أم استثمارات رؤوس الأموال الصينية أم الألعاب الرخيصة في كل مكان، فلا يمكن إنكار وجودها.
في المقابل، تعد التعريفات الأمريكية الجديدة محاولة لإعاقة هيمنة الصين على سوق التصنيع وجذب رجال الأعمال مرة أخرى بتخفيض ضرائب الشركات وعقوبات الاستبعاد المفروضة على أكبر دولة مصدرة في العالم، لكن على الرغم من هذا التغيير، لا تزال الصين مرغوبة كمركز تصنيع.
وعلى الرغم من أن الناس يشعرون بالقلق من الرسوم الجمركية المفروضة على البضائع الصينية، فإنها ما زالت تشكل شريحة ضخمة من الاستهلاك المحلي في الكثير من دول العالم، ويشير إلى ذلك تقرير منصة sourcify إلى أن أفضل 10 منتجات مصنعة في الصين تشمل أجهزة الكمبيوتر الشخصية والهواتف المحمولة ومكيفات الهواء والخلايا الشمسية والأحذية والمصابيح الموفرة للطاقة والسفن.
في مواجهة الرياح المعاكسة
عادة ما تكون بكين واحة من الهدوء خلال عطلة الأسبوع الذهبي السنوية التي تبدأ في الأول من أكتوبر/تشرين الأول، لكن هذا العام مختلف، فالصين لا تستعد فقط للاحتفال بحدث مهم – الذكرى الـ70 لحكم الحزب الشيوعي الصيني – ولكنها تفعل ذلك في وقت مضطرب للغاية من عدم الاستقرار الاقتصادي واختبار سلطتها.
مع احتفالات هذا العام، تفوقت الصين رسميًا على طول تلك القوة الشيوعية العظيمة الأخرى، الاتحاد السوفيتي، التي انهارت عام 1991 وسط موجة من الإصلاحات التحررية التي فاقت سيطرة موسكو، لهذا تبدو بكين حريصة اليوم على عدم تقاسم مصير الاتحاد السوفيتي.
لم تُوزَّع ثمار النجاح الاقتصادي بالتساوي بين سكان الصين البالغ عددهم 1.3 مليار نسمة، وتعمقت عدم المساواة إلى حد كبير على امتداد الفجوات الريفية والحضرية
المعجزة الاقتصادية الصينية يعترف بها العالم الذي يعيش حقبة “صُنع في الصين”، لكن النجاح الاقتصادي ثوب أبيض لا يخلو من بقعة سوداء، فعشية عيدها الوطني، تواجه جمهورية الصين الشعبية رياح معاكسة كبيرة في الداخل والخارج.
على سبيل المثال، لم تُوزَّع ثمار النجاح الاقتصادي بالتساوي بين سكان الصين البالغ عددهم 1.3 مليار نسمة، وتعمقت عدم المساواة إلى حد كبير على امتداد الفجوات الريفية والحضرية، حيث توجد أمثلة على الثروة الفاحشة وطبقة وسطى صاعدة إلى جانب المجتمعات الريفية الفقيرة وقوة عاملة متدنية.
يقول البنك الدولي إن دخل الصين للشخص الواحد لا يزال كما لو كان الحال في بلد نامٍ، وأقل من ربع متوسط الاقتصادات المتقدمة، ويبلغ متوسط الدخل السنوي للصين ما يقرب من 10 آلاف دولار، وفقًا لمجموعة خدمات “دي بي إس” المالية الرائدة، مقارنة بنحو 62 ألف دولار في الولايات المتحدة.
على المستوى المحلي، تتراكم التحديات الاقتصادية الهيكلية، حيث ينمو الاقتصاد الصيني بأبطأ وتيرة له منذ ما يقرب من 30 عامًا، فقد دُفعت لسنوات إلى فصل اعتمادها عن الصادرات والاتجاه للنمو المدفوع بالاستهلاك، وظهرت تحديات جديدة، بما في ذلك الطلب العالمي الأقل على سلعها ووباء إنفلونزا الخنازير الذي تسبب في ارتفاع أسعار لحم الخنزير.
المشاة ينتظرون عبور طريق أمام منشأة للزهور تحيي الذكرى الـ 70 لجمهورية الصين الشعبية في بكين
وتتزايد المخاوف من أن تؤدي حرب تجارية طويلة الأمد مع الولايات المتحدة إلى عرقلة النمو الاقتصادي الصيني، مما يؤدي إلى سحب الاقتصاد العالمي معه في الوقت الذي يتوقع أن يتوسع فيه تأثير الصين على هذا الاقتصاد.
وفي الوقت نفسه، ثمة أشهر من الاحتجاجات في هونغ كونغ، التي تحولت في كثير من الأحيان إلى معارك في الشوارع، في مسعى للحصول على تدخل أقل من بكين، ويشكلون تحديًا مباشرًا لسلطة الصين على الأراضي وإحراجًا محتملاً لهالة السيطرة التي تأمل في تعزيزها.
في الجوار، عززت الولايات المتحدة الدعم العسكري لتايوان التي تعهدت الصين “بإعادة توحيدها” بالقوة، إذا لزم الأمر، كما بسبب تزايد الانتقادات الدولية للصين بسبب احتجازها الجماعي ومراقبة الأقليات العرقية المسلمة، وخاصة الإيغور في منطقة شينجيانغ الغربية.
كما تخيم ضغوط التحولات الديموغرافية وشيخوخة السكان أيضًا على النظرة الاقتصادية للبلاد، ومع ذلك، تشير التقديرات إلى أنه حتى إذا انخفض معدل النمو في الصين إلى ما بين 5% و6%، فإن الدولة ستظل المحرك الأقوى للنمو الاقتصادي العالمي.
في مواجهة هذه التحديات، لا يمتلك الصينيون عصا سحرية، فهم يشبهون العرب بماضيهم وحروبهم، لكنهم يختلفون عنهم كثيرًا اليوم، فقد تعلموا كيف يصنعون آلاتهم وأسلحتهم وهواتقهم وسياراتهم بأيدهم، وامتلكوا كذلك مستبديهم، لكنهم ليسوا كمستبدي العالم العربي، لأنهم عرفوا أن الاستحواذ على السلطة بالقوة شيء، وأن نجاح دولهم شيء آخر.