عام على الاغتيال.. طيف خاشقجي يلاحق السعودية رغم جهود ترميم الصورة

khashoggi-1280x720

“عندما تحدث حادثة ضد مواطن سعودي من موظفين في الحكومة السعودية، كقائد لا بد أن أتحمل المسؤولية، هذا خلل حدث، ولا بد لي من اتخاذ جميع الإجراءات لتجنب مثل هذا الشيء في المستقبل”.. بعد عام تقريبًا على الواقعة ها هو ولي العهد السعودي يقر ولأول مرة بمسؤوليته عن جريمة اغتيال الصحفي السعودي جمال خاشقجي، وذلك خلال مقابلة له في برنامج “60 دقيقة” الذي بثته قناة “CBS” الإخبارية الأمريكية، فجر الإثنين 30 من سبتمبر الماضي.

الـ2 من أكتوبر 2018.. تاريخ لن ينساه السعوديون عامة وولي العهد وفريقه على وجه خاص، وذلك حين واجه الصحفي السعودي واحدة من أبشع جرائم القتل في العصر الحديث، على أيدي مسؤولي وطنه، وذلك عقب استدراجه لمقر قنصلية بلاده في إسطنبول.

جريمة شكلت علامة فارقة في تاريخ المملكة، ليس فقط لمجرد وقوعها، لكن تفاصيلها كانت أكثر رعبًا،  فما كان قبلها بالطبع يختلف جملة وتفصيلاً عما آلت إليه الأمور بعدها، وذلك رغم الجهود المضنية التي تبذلها الرياض لطي هذه الصفحة المخجلة التي باتت وصمة عار في جبين النظام الحاليّ بكل أطيافه، خاصة أنها أسقطت القناع عن الكثير من الشعارات الواهية التي ترفعها السلطات باسم الإصلاح والانفتاح وارتكزت عليها لسنوات لتعزيز مكانتها الإقليمية والدولية.

اليوم يمر عام كامل على هذه الجريمة، حيث فتحت المملكة أبواب خزائنها كاملة لترميم صورتها المهشمة، دوليًا وأمميًا، ورغم ما حققته من تقدم نسبي في هذا الملف، فإن طيف الواقعة لا يزال يلاحق السعودية على المستويات كافة، ليبقى السؤال: ماذا خسرت الرياض بعد عام على مقتل خاشقجي؟

شروخ في العلاقات الدولية

واجهت المملكة حملة دولية كبرى للضغط من أجل كشف هوية المتورطين في الحادث، خاصة بعدما استبق ولي العهد والخارجية السعودية نتائج التحقيقات التي أجرتها تركيا لينفوا الجريمة من البداية، غير أن الأمور بعد أن تكشفت تباعًا، تراجعت الرياض عن موقفها وهو ما وضعها في موقف حرج دوليًا.

ونتجية هذه الجريمة تعرضت علاقة المملكة ببعض الدول لشروخات قوية، على رأسها تركيا، التي كانت الرقم الأول في حمل أعباء تلك القضية التي أثارت الرأي العام على مدار العام الماضي بأكمله، إذ تولت الجهات التركية التحقيق بعد أن استحوذت على المعلومات والتسجيلات، ومارست أداءً أرهق الأعصاب السعودية، وجرّها إلى الاعتراف بالجريمة بعد الإنكار.

الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أعاد القضية إلى ساحة الأضواء مرة أخرى رغم مرور عام كامل على القضية، وذلك خلال كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة قبل أيام حين أشار إلى أن العدالة لا تزال معطلة، في إشارة إلى التقصير السعودي، وهو تجسيد واقعي لما وصلت إليه العلاقات بين البلدين.

ربما مرت العلاقات التركية السعودية على مر التاريخ بموجات من المد والجذر غير أنها في نفق خاشقجي وصلت إلى مرحلة تكسير العظام، فالجانب التركي يستميت دفاعًا من أجل إظهار الحقيقية فيما يعتبره السعوديون محاولة للي الذراع غير المقبول، وهو ما يفسر الحملات السعودية الممنهجة للهجوم على تركيا وحث المستثمرين السعوديين على سحب أموالهم من هناك.

التناطح السعودي أمام الأتراك وشخصنة القضية، ربما أفقدهم دعم واحدة من أكثر القوى التي كانت داعمًا في مواجهة المملكة للنفوذ الإيراني في الشرق الأوسط، الأمر الذي دفع الأخير لمزيد من التمدد على حساب الخصم التقليدي “السعودية” في ظل انفراط عقد الداعمين للرياض حبة تلو الأخرى جراء سياسات العاهل وولي عهده.

أوروبيًا.. تعرضت العلاقات السعودية مع دول أوروبا لتصدع كبير في أكثر من جدار، فبعد أيام قليلة من الواقعة توالت ردود الفعل المنددة بمقتل خاشقجي، إذ اتصل الرئيس الفرنسي ورئيسة وزراء بريطانيا بالملك السعودي للتعبير عن موقفيهما من الحادثة، في حين دعا الاتحاد الأوروبي إلى إجراء تحقيق دولي محايد في القضية.

القيادة السعودية وأمام تلك الشروخات في علاقاتها مع الغرب، ارتأت لنفسها تغيير قبلتها السياسية أو تنويع خريطة علاقاتها في محاولة لسد هذه الثغرة، فكان التحول شرقًا لدول لا تنتقد الرياض في هذا الملف

من جهتها، أدانت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل ما وقع للصحفي السعودي، بينما سحبت التشيك أحد دبلوماسييها من الرياض بعدما استدعت السفير السعودي لديها، بينما حذّر رئيس المجلس الأوروبي دونالد توسك دول الاتحاد من مغبة السقوط في “دائرة النفاق” في ملف مقتل خاشقجي، مؤكدًا أنه يتوقع من دول الاتحاد ومؤسساته تجنب أي “لعبة غامضة”، في إشارة إلى مخاوفه من تغليب المصالح الاقتصادية على الحقيقة.

ورغم تراجع حدة التوتر بعد مرور عام على الجريمة، فإن العلاقات لا يزال يشوبها الكثير من المناوشات، وهو ما تجسده الضغوط الممارسة على حكومات بعض العواصم الأوروبية على رأسها لندن وبرلين وباريس لوقف أي دعم عسكري أو لوجستي للمملكة، لأسباب عدة من بينها قضية خاشقجي.

القيادة السعودية وأمام تلك الشروخات في علاقاتها مع الغرب، ارتأت لنفسها تغيير قبلتها السياسية أو تنويع خريطة علاقاتها في محاولة لسد هذه الثغرة، فكان التحول شرقًا لدول لا تنتقد الرياض في هذا الملف، أو على الأحرى غير معنية به في المقام الأول، على رأسها الصين والهند، وهو ما تجسده الجولات المكوكية التي قام بها العاهل السعودي ونجله لتلك الدول بجانب عواصم جنوب شرق آسيا.

فتح الباب أمام الابتزاز الأمريكي

كانت الولايات المتحدة الرهان الذي استندت إليه الرياض لتخفيف حدة الضغوط الدولية عليها، فمع الأيام الأولى للقضية كانت كل المؤسسات الأمريكية بما فيها البيت الأبيض مع ضرورة كشف ملابسات الجريمة وتقديم المتورطين فيها للمحاكمة، ودفعت ببعض رجالها لمساعدة جهات التحقيق التركية.

غير أن الأمور سرعان ما تبدلت مع مرور الوقت، حيث انقسم المشهد في واشنطن إلى قسمين: الأول: مؤسسات تشريعية “ديمقراطيين وجمهوريين”، وإعلام واستخبارات ومؤسسات حقوقية ورأي عام، يدين السعودية وقيادتها، ويعتبر ابن سلمان مسؤولاً مباشرًا عن القضية، وقسم آخر يقوده ترامب الذي بات يدافع عن الأمير الشاب.

موقف ترامب أثار شكوكًا أخرى لدى تلك المؤسسات عن العلاقة المشبوهة المحتملة والشخصية بينه وبين السلطات السعودية، هذا بجانب مطالبة تلك الكيانات بمراجعة العلاقة الإستراتيجية مع المملكة، وتعالت أصوات أخرى طالبت بتحميل وليّ العهد المسؤولية الكاملة عن قتل خاشقجي.

بالطبع فإن موقف الرئيس الأمريكي لم يكن من باب الإيمان ببراءة ولي العهد أو لدواعٍ سياسية وأخلاقية، إذ إن الثمن والمقابل لهذا الموقف هو ما كان ينتظره التاجر الأمريكي الكبير، وفي هذا الشأن قال كارنيلوس الذي عمل سفيرًا لإيطاليا في عدد من الدول العربية بمقال فيMiddle East Eye: “حين تتعارض القيم الأمريكية، مثل الدفاع عن حقوق الإنسان وسيادة القانون، مع المصالح الأمريكية، فإنَّ ترامب سيختار الأخيرة بكل تأكيد”.

ويرى أن الغرض الرئيسي من بيان ترامب الذي أصدره في 21 من نوفمبر/تشرين الثاني بشأن الوقوف بجانب السعودية وقيادتها في هذه القضية، كان في الواقع تحديد ثمن هذا الدعم، والرسالة الضمنية التي بعث بها البيان إلى الديوان الملكي السعودي هي أنَّ إنقاذ ولي العهد السعودي من المتوقع أن يُكلِّفهم 450 مليار دولار من الاستثمارات، بحسب ما ذكرت صحيفة “الغارديان“.

صورة مشوهة لولي العهد

نجح ولي العهد في تصدير صورة مشرقة لنفسه عبر بوابة الإصلاحات التي تعهد بها على المستوى الداخلي، فبات رجل الإصلاح الأول في المملكة وفق ما كانت تصفه وسائل الإعلام السعودية والخارجية المدعومة، كان ذلك قبل الثاني من أكتوبر من العام الماضي.

تأرجح ابن سلمان في التعاطي مع الجريمة، ابتداءً من إنكارها أول الأمر خلال لقاء له مع “بلومبيرج” وسخريته من الاتهامات الموجهة له، والاعتراف – مجبرًا – فيما بعد بما حدث، بعد كشف الأدلة، وصولاً في نهاية الأمر إلى الإعلان رسميًا عن تحمل المسؤولية، كلها محطات ساعدت بشكل كبير في تشويه صورة القائد المصلح.

تحولت قضية خاشقجي إلى مادة خصبة في التراشق الأمريكي المحتمل في أثناء الانتخابات الرئاسية، وتشير التقديرات إلى احتمالية جعل الديمقراطيين هذا الملف ذخيرة للنيل من ترامب

ورغم ثقل الملفات التي يعاينها الأمر، وكانت محل اتهام دولي، كحرب اليمن وحملة الاعتقالات الواسعة، فإن اغتيال خاشقجي في قنصلية بلاده وضع الأمير الشابّ في مرمى الانتقادات، خاصة مع تسريبات الـ”سي آي إيه” التي استنتجت أن العملية جرت بموافقته.

الحضور الدولي لولي العهد بعد تكشف الأدلة بشأن القضية كان حضورًا باهتًا، رصدته كاميرات الإعلام بشكل لا يقبل الشك ولا التأويل المضاد، ورغم مساعي الأمير لمقاومة الضغوط التي يتعرض لها، بجانب الدعم الكبير من جانب ترامب لترميم الصورة، لا تزال مؤسسات واشنطن ترى في مقتل خاشقجي ذريعة منطقية لإعطاء السعودية صورة قاتمة تستحقّ المقاطعة والإدانة، وهو ما يدعو للتساؤل عن مستقبل العلاقات بين البلدين حال خروج ترامب بعيدًا عن المشهد.

اهتزاز مكانة المملكة

هزة عنيفة تعرضت لها صورة المملكة دوليًا، فالأمر لم يقف عند حاجز توتر في العلاقات مع بعض الدول، لكنها مكانة وضعت على طاولات الإدانة الأممية، الأمر الذي وضع الرياض في صورة حرجة أمام شعارات العدالة التي طالما رفعت ألويتها طيلة عقود طويلة مضت.

أنييس كالامار، خبيرة حقوق الإنسان لدى الأمم المتحدة التي أجرت تحقيقًا مستقلّاً في مقتل خاشقجي، حثت الولايات المتحدة على التحرك بناءً على النتائج التي توصلت إليها وخلصت إلى أن مقتل الصحفي السعودية في قنصلية بلاده بإسطنبول في أكتوبر/تشرين الأول كان “إعدامًا خارج نطاق القانون” من المملكة الخليجية، منتقدة تقاعس واشنطن عن التحرك.

نتائج التحقيق ربما لم تلزم الكثير من الدول لاتخاذ موقف ما تجاه الرياض، لكنه أسقط القناع عن الكثير من الشعارات والتوجهات التي كانت محل تقدير من الشعوب قبل الحكومات، إذ بات يقينًا أن المصالح ستظل أعلى شأنًا من القيم العامة التي يتغنى بها الغرب ويعزف على أوتارها ليل نهار.

ومع مرور الوقت، وبعدما بات الوصول إلى محطة اتخاذ قرار بالتحرك لإدانة المملكة رسميًا أمرًا صعب المنال، فإن الزخم الذي أحدثته الجريمة فرض نفسه على موائد النقاش الإعلامي في أمريكا والعواصم الأوروبية، خاصة أنها باتت مادة دسمة للاستخدام السياسي لدى تيارات سياسية معارضة للأنظمة الحاليّة.

إذ تحولت قضية خاشقجي إلى مادة خصبة في التراشق الأمريكي المحتمل في أثناء الانتخابات الرئاسية، وتشير التقديرات إلى احتمالية جعل الديمقراطيين هذا الملف ذخيرة للنيل من ترامب، وسيجعلونها قنطرة لإحياء ملف علاقته مع ولي العهد السعودي، وهو المتوقع في كل من باريس وبرلين ولندن على حد سواء.

الصورة التي حاول الأمير تصديرها داخليًا على مدار سنوات، كونه الشاب المصلح والقائد المحنك الذي أخذ على عاتقه تعزيز الحراك الحقوقي والمجتمعي والسياسي في مملكته، متخلصًا في ذلك من الإرث المتشدد، سقطت هي الأخرى سقوطًا مدويًا مع سقوط خاشقجي

وعلى الأرجح فإن الصورة المشوهة التي رسمها الإعلام الأمريكي والغربي للرياض وولي عهدها، من الصعب محوها بسهولة، خاصة أن القضية قادرة على الإطلال برأسها بين الفينة والأخرى، وهو ما يجعلها كرة ثلج متدحرجة من الصعب السيطرة عليها دون كشف الضالعين فيها بشكل كامل.

صورة قيادة المملكة المهزوزة لم تقتصر على الخارج فحسب، بل إن جريمة كهذه بتفاصيلها المفزعة ألقت هي الأخرى بظلالها القاتمة على المشهد الداخلي، خاصة أنها تزامنت مع حملة الاعتقالات المسعورة التي قادها ولي العهد ضد بني عمومته وعشرات رجال الأعمال والسياسيين بدعوى محاربة الفساد في محاولة للابتزاز المالي.

الصورة التي حاول الأمير تصديرها داخليًا على مدار سنوات، كونه الشاب المصلح والقائد المحنك الذي أخذ على عاتقه تعزيز الحراك الحقوقي والمجتمعي والسياسي في مملكته، متخلصًا في ذلك من الإرث المتشدد، سقطت هي الأخرى سقوطًا مدويًا مع سقوط خاشقجي.

ماذا عن الاقتصاد؟

مر الاقتصاد السعودي منذ حادثة الاغتيال وحتى مررو عام عليها بـ3 مراحل متفاوتة كان كلمة السر فيها “مؤتمر دافوس الصحراء” الذي ينظمه صندوق المملكة السيادي سنويًا، لجذب الاستثمار الأجنبي، إذ كان مؤشرًا على حقيقة التأرجح في اقتصاد المملكة الذي تأثر بالطبع بتداعيات الجريمة.

المرحلة الأولى: كانت مع الأيام التالية لكشف ملابسات اختفاء خاشقجي وترجيح التحقيقات التركية أنه قُتل داخل قنصلية بلاده، حين خسر مؤشر السوق المالية السعودية في الأسبوع الأول للحادث كل المكتسبات التي حققها منذ بداية العام.

ففي جلستي يومين فقط قدرت خسائر السوق المالية السعودية – وهي الأكبر في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا – بنحو خمسين مليار دولار وفق وكالة الأنباء الفرنسية، فيما قالت وكالة بلومبيرغ في تقرير لها 14 من أكتوبر/تشرين الأول 2018 إن الأوضاع الجيوسياسية هبطت بالبورصة السعودية، واستمرار إصرار المملكة على موقفها النافي لأي علاقة لها باختفاء خاشقجي لن يكون في صالح السوق.

في اليوم التالي لقتل خاشقجي تنبأ الأمير محمد بن سلمان بحدوث انتعاشةٍ في الاستثمار الأجنبي كان من المنتظر أن تبدأ بصفقة كبيرة غير نفطية مُرتقبة في مؤتمر “دافوس الصحراء” الذي عقد في منتصف أكتوبر/تشرين الأول الماضي، في محاولة للإيهام بعدم تأثر المملكة بتلك الجريمة، لكن جاءت الأمور صادمة للجميع.

لم تسعف خطوات ابن سلمان المتسارعة لإصلاح الوضع في هذا التوقيت، إذ أطلق حملات علاقات عامة من أجل جذب المستثمرين الأجانب مرة أخرى، مع تسريع ما يصفه المحللون بـ”الميل نحو الشرق” عبر تعزيز التحالف مع دول لا تنتقده، ولكن هذه الخطوة لم تحقق نجاحًا كبيرًا

عشرات المصرفيين والمديرين التنفيذيين أعلنوا الانسحاب من المؤتمر الذي تحول إلى حدث متواضع، ولم يُعلن بالطبع عن تلك الصفقة قط، فيما قال أحد المستثمرين الإقليميين، رئيس إحدى الشركات التي تديرها أسرة عربية ثرية استثمر أموالاً في المملكة من قبل، إنه لا يعتزم فعل ذلك مرة أخرى. وقال: “السعودية خارج خريطتي الآن”، وطلب عدم كشف هويته خوفًا من تعريض أعماله الحاليّة للخطر، وكانت حجته: “إذ رأيتُ الناس يسحبون أموالهم خارج السعودية رغم الفرص المتاحة هناك، فلمَ أستثمر أموالي هناك؟”.

إيلين والد التي ألفت كتابًا عن السعودية قالت في تعليقها على الوضع الاقتصادي السعودي في ذلك الوقت قائلة: “قبل عملية القتل، كانت السعودية في طريقها لتسريع الشراكات التجارية الخارجية”، ولكنها أشارت إلى أنه بعد مقتل خاشقجي هناك تباطؤ.

الملياردير ريتشارد برانسون كنموذج لعشرات أباطرة المال في العالم، انسحب من مشروعين سياحيين، وأوقف المناقشات مع الحكومة السعودية بشأن استثمار بقيمة مليار دولار في شركات فيرجن الفضائية، ولم يتم الإعلان عن أي صفقات كبيرة مع الشركات الأجنبية منذ ذلك الحين.

لم تسعف خطوات ابن سلمان المتسارعة لإصلاح الوضع في هذا التوقيت، إذ أطلق حملات علاقات عامة من أجل جذب المستثمرين الأجانب مرة أخرى، مع تسريع ما يصفه المحللون بـ”الميل نحو الشرق” عبر تعزيز التحالف مع دول لا تنتقده، ولكن هذه الخطوة لم تحقق نجاحًا كبيرًا.

وفي هذه الأثناء كان ترامب حاضرًا وبقوة في انتظار المقابل، وهو المقدر كما ذُكر سابقًا بـ450 مليار دولار، وهو ما أكده وزير الخارجية التركي مولود تشاويش أوغلو في تصريحاته الصادرة الجمعة 23 من نوفمبر/تشرين الثاني 2018، لتليفزيون (سي. إن. إن ترك)، حين قال إن ترامب يريد دفن القضية والتغاضي عنها، وأن موقفه بالتعامي عن الجريمة ليس مقبولاً، وليست كل الأمور تتعلق بالأموال، في تلميح منه إلى حرص ترامب على العلاقة مع الرياض، لأنها تملك الثروة.

المرحلة الثانية: دافوس أبريل 2019.. أسفرت الجهود المبذولة سعوديًا لتخفيف حدة التوتر عبر استغلال النفوذ المالي في تراجع موقف العديد من الاقتصاديين ومديري الكيانات المالية العالمية بشأن قضية خاشقجي، خاصة بعدما تعهدت الرياض بتقديم من أسمتهم بالمتورطين لمحاكمات عاجلة دون ذكر اسم ولي العهد.

وفي المؤتمر الذي عُقد على عكس العادة، في أبريل الماضي، بدأت أسماء عدد من كبار المستثمرين والممولين في العالم، بالظهور مجددًا في العاصمة السعودية، الرياض، بعد اختفاء دام لنحو 6 أشهر، إذ ظهر كل من لاري فينك، الرئيس التنفيذي لشركة بلاك روك، وجون فلينت الرئيس التنفيذي لبنك إتش إس بي سي والمدير التنفيذي للعمليات في جي بي مورغان، دانييل بينتو، على مسرح مؤتمر القطاع المالي نظمته الحكومة السعودية، كما حضر المدير الإداري لمورغان ستانلي آسيا، شين تشو.

الجدير بالذكر في هذا المؤتمر أنه لم يُسأل أي من المديرين التنفيذيين الماليين، عن وضع حقوق الإنسان في السعودية خلال المؤتمر، فيما رفض جي بي مورغان ومورغان ستانلي التعليق، ولم يرد إتش إس بي سي وبلاك روك على طلب للتعليق أيضًا، وكانت رسالة واضحة أن الاقتصاد هو الأهم في هذا التوقيت.

المرحلة الحاليّة.. تتواصل جهود إنقاذ الاقتصاد السعودي مهما كانت الكلفة، إذ إنه في غضون أسابيع قليلة، سيشارك أكثر من 150 مديرًا تنفيذيًا، بما في ذلك أكثر من 40 مدير تنفيذي يمثلون شركات أمريكية، في نسخة المؤتمر الجديدة المتوقعة خلال منتصف الشهر الحاليّ، وفق ما ذكرت “واشنطن بوست“.

الاقتصاد حين يتمزج بالسياسة.. هذا هو ملخص المؤتمر القادم، الذي تسعى فيه الرياض تقديم نفسها كقبلة اقتصادية عالمية، بعد الهزة التي تعرضت لها منذ أكتوبر الماضي، إذ من المتوقع أن يحضر جاريد كوشنر، كبير مستشاري البيت الأبيض وصهر الرئيس ترامب، على رأس وفد أمريكي، وفقًا لما قاله شخص اطلع على خططه.

الرئيس التنفيذي لـBlackRock، لاري فينك الذي انسحب في العام الماضي من مبادرة الاستثمار في المستقبل التي دشنتها الرياض، أعلن على صفحته على موقع التواصل الاجتماعي LinkedIn مشاركته في المؤتمر كجهد لتشجيع التغيير في المملكة على حد قوله.

جدير بالذكر أن المؤتمر الحاليّ يأتي في وقت يعاني فيه الاقتصاد السعودي الذي يعتمد في المقام الأول على النفط من أزمة خانقة جراء استهداف منشأتي نفط تابعتين لشركة أرامكو، وهو الأمر الذي أفقد المملكة نصف إنتاجها من النفط والمقدر بـ10% من إجمالي المعروض في سوق النفط العالمي.

محطات في القضية

مرت القضية على مدار عام بالعديد من المحطات التي كانت لها تداعياتها المؤثرة على خريطة المملكة، خارجيًا وداخليًا، بداية من دخول الصحفي السعودي قنصلية بلاده في إسطنبول في 2 من أكتوبر/تشرين الأول 2018 دون أن يخرج فاتصلت خطيبته التي كانت تنتظره بالخارج بصديقه ياسين أقطاي، مستشار رئيس حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا، وأبلغته بالوضع.

وفي اليوم التالي أعلنت السلطات التركية أن المعلومات التي لديها تفيد أن الصحفي السعودي ما زال في قنصلية بلاده، لتصدر القنصلية بيانًا في الرابع من أكتوبر تقول فيه إن خاشقجي اختفى بعد خروجه منها، وبعدها بأقل من 42 ساعة خرج ولي العهد السعودي يقول في تصريحات لوكالة بلومبرغ إن خاشقجي غادر القنصلية السعودية في إسطنبول بعد دخوله بـ”دقائق أو ساعة”.

وفي 6 من أكتوبر/تشؤين الأول نقلت وكالة رويترز للأنباء عن مصادر أمنية تركية قولها إن تقييمها الأولي للقضية يشير إلى أن خاشقجي قُتل داخل القنصلية، وأن جثته قطعت على الأرجح ووضعت في صناديق لنقلها إلى خارج القنصلية السعودية.

في الذكرى الأولى للجريمة التي هزت عرش المملكة، يبدو أن طيف جمال خاشقجي ما زال يطوف فوق سماء السعودية، وتداعيات تلك القضية لن تنتهي في الوقت القريب

في 8 من أكتوبر/تشرين الأول أعرب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، عن قلقه من اختفاء الصحفي السعودي، فيما تنشر صحيفة واشنطن بوست صورة لخاشقجي وهو يدخل القنصلية، والسلطات السعودية توافق على السماح للمحققين الأتراك بتفتيش القنصلية، لتبدأ بعدها وسائل إعلام تركية في نشر صور 15 سعوديًا يُعتقد أن لهم صلة باختفاء خاشقجي.

وفي 11 من الشهر ذاته قالت الصحيفة الأمريكية إن الحكومة التركية أبلغت مسؤولين أمريكيين أن لديها تسجيلات تثبت قتل خاشقجي وتقطيع جثته في القنصلية، لينفي بعدها وزير الداخلية السعودي عبد العزيز بن سعود تلك الاتهامات، بينما يتوعد ترامب السعودية بعقاب شديد لو ثبت تورطها في هذه الجريمة.

14 من أكتوبر/تشرين الأول 2018 ترفض المملكة “التهديدات” السياسية والاقتصادية الموجهة لها، حسبما صرح مصدر سعودي لوكالة الأنباء السعودية الرسمية، وقال المصدر إن السعودية “إذا تلقت أي إجراء فسترد عليه بإجراء أكبر”، فيما وصف الرئيس الأمريكي الوضع بأن “قتلة مارقين” ربما وراء الجريمة.

في 16 من أكتوبر/تشرين الأول التقى وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو، بولي العهد السعودي محمد بن سلمان، في الرياض، ليقول بعدها: “القيادة السعودية تنفي بشدة أي علم لها بما جرى في القنصلية السعودية بإسطنبول”، ويعلق رئيسه قائلاً “مرة أخرى نجد أنفسنا أمام موقف أنت مذنب حتى تثبت براءتك”.

في 20 من أكتوبر/تشرين الأول، أعلن النائب العام السعودي أن التحقيقات الأولية أظهرت وفاة خاشقجي في القنصلية السعودية بمدينة إسطنبول، مفسرًا ذلك بأن “المناقشات التي تمت بين المواطن جمال خاشقجي والأشخاص الذين قابلوه في أثناء وجوده بقنصلية المملكة في إسطنبول أدت إلى حدوث شجار واشتباك بالأيدي مما أدى إلى وفاته”.

وتزامنًا مع إعلان النائب العام، أصدر الملك السعودي سلمان بن عبد العزيز أوامر ملكية بإعفاء أحمد عسيري نائب رئيس المخابرات السعودية من منصبه، وقال ترامب “القيادة السعودية كانت صادقة معنا فيما يتعلق بهذه القضية”، وأكد أن “أطرافًا ثالثة شاركت في التحقيقات السعودية، وأن التفسير السعودي موثوق به” غير أن عاد بعد ذلك ليكذب تلك الرواية.

في 3 من يناير/كانون الثاني 2019 عقدت السعودية أولى جلسات محاكمة 11 متهمًا بقتل خاشقجي والنائب العام السعودي يطالب بإعدام خمسة منهم، فيما بدأت المقررة الأممية أغنيس كالامار تحقيقاتها في الجريمة في 27 من الشهر ذاته، وفي 19 من يونيو/حزيران الماضي أصدرت المفوضية الأممية لحقوق الإنسان تقريرًا حملت فيه السعودية مسؤولية قتل خاشقجي عمدًا.

وفي سبتمبر/أيلول الماضي وبعد ما يقرب من عام تقريبًا أعلن ولي العهد مسؤوليته عن الجريمة كونها وقعت تحت إدارته، متعهدًا بمواصلة التحقيقات لكشف ملابساتها لتجنب تكرارها في المستقبل القريب، وفق ما ذكر خلال حديث أجراه مع عدد من وسائل الإعلام الأمريكية.

وفي الذكرى الأولى للجريمة التي هزت عرش المملكة، يبدو أن طيف جمال خاشقجي ما زال يطوف فوق سماء السعودية، وتداعيات تلك القضية لن تنتهي في الوقت القريب، خاصة أن بعض القوى ربما تجد فيها مادة جيدة للابتزاز، مالي كان أو سياسي أو حتى إعلامي، وليس أمام الأمير الشاب إلا الدفع حتى يصل لكرسي الحكم.