بعد أيام من الترقب لمصير المرحلة الثانية من صفقة التبادل واتفاق التهدئة في قطاع غزة، اتّضحت الصورة من خلال مخرجات الاجتماع التشاوري الذي عقده رئيس وزراء الاحتلال مع المستويين الأمني والسياسي. والذي أفضى إلى إعلان رسمي عن انقلاب أحادي الجانب على ما ورد في اتفاق التهدئة ومراحله، مع التلويح الواضح بعودة الحرب.
كان من المفترض أن تنطلق مفاوضات المرحلة الثانية في اليوم السادس عشر من المرحلة الأولى، على أن يسود الهدوء طوال فترة المفاوضات، إلى حين الاتفاق على جميع التفاصيل اللازمة لتحويل الخطوط العامة الواردة في الاتفاق إلى نصوص مكتملة.
منذ البداية، بدا واضحًا أن مماطلة الاحتلال في الالتزام باستحقاقات المرحلة الأولى، وتهربه من الدخول الجاد في مفاوضات المرحلة الثانية، جاءت نتيجة حسابات دقيقة يجريها نتنياهو داخليًا وخارجيًا، في محاولة للبحث عن الصيغة الأسلم والأكثر تحقيقًا لمصلحته، مهما كان الثمن، حتى إن كان حياة من تبقى من المختطفين.
وفي إطار تعزيز هذا التوجه جاءت تصريحات دونالد ترامب الأخيرة لتشكّل دفعة قوية لخيار التصعيد، مما يضع المرحلة المقبلة أمام سيناريوهات متفجرة ومتعددة.
الانقلاب على الاتفاق والترويج لمقترح بديل
أعلن مكتب رئيس حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، تبني “إسرائيل” لمقترح مبعوث الرئيس الأميركي إلى الشرق الأوسط، ستيف ويتكوف، بشأن وقف إطلاق نار مؤقت في قطاع غزة خلال شهر رمضان، وذلك بعد انتهاء المرحلة الأولى من الاتفاق المبرم مع حركة “حماس” فعليًا يوم السبت.
وجاء هذا الإعلان ليكرّس تنصل “إسرائيل” من اتفاق وقف إطلاق النار الأصلي، عقب سلسلة من التقييمات والمشاورات الأمنية التي أجراها نتنياهو على مدار اليومين السابقين، بمشاركة كبار وزرائه وقادة الأجهزة الأمنية وأعضاء الفريق المفاوض، عقب عودتهم من جولة مفاوضات استضافتها العاصمة المصرية القاهرة.
وجاء في بيان صادر عن مكتب نتنياهو: “بعد جلسة أمنية ترأسها رئيس الحكومة، وشارك فيها وزير الأمن، وقادة الأجهزة الأمنية، وفريق المفاوضات، تقرر تبني مقترح مبعوث رئيس الولايات المتحدة، ستيف ويتكوف، بشأن وقف إطلاق نار مؤقت خلال شهر رمضان وعيد الفصح (اليهودي)”.
وختم البيان بالتأكيد على أن “إسرائيل وافقت على مقترح ويتكوف بهدف استعادة المختطفين، في حين أن حركة حماس لا تزال متمسكة برفضها لهذا المقترح. وإذا غيرت حماس موقفها، فإن إسرائيل مستعدة للدخول فورًا في مفاوضات حول كافة بنود المقترح”.
التصعيد الإنساني: وقف إدخال المساعدات وتجويع القطاع
وفي أول إجراء عدواني مع صباح اليوم الأول عقب انتهاء المرحلة الأولى من اتفاق التهدئة، أعلنت حكومة الاحتلال قرارها بوقف إدخال المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة وإغلاق المعابر “حتى إشعار آخر”، وفق بيان صادر عن رئاسة الحكومة.
جاء القرار خلال اجتماع عقده رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو مساء السبت، بالتنسيق مع الإدارة الأميركية، في سياق التصعيد الإسرائيلي المتواصل والتنصل من اتفاق وقف إطلاق النار.
وبحسب البيان الرسمي، قرر نتنياهو وقف إدخال “كافة البضائع والإمدادات” إلى قطاع غزة، مبررًا الخطوة بانتهاء المرحلة الأولى من صفقة الأسرى و”رفض حركة حماس لمقترح ويتكوف لاستمرار المحادثات”، والذي زعمت “إسرائيل” موافقتها عليه.
وأكد البيان أن “إسرائيل لن توافق على وقف إطلاق نار دون الإفراج عن الرهائن”، ملوّحًا بتبعات إضافية إذا واصلت “حماس” رفض المقترح الأميركي.
وفي الميدان، أغلقت قوات الاحتلال معبر كرم أبو سالم ومنعت دخول الشاحنات المحملة بالمساعدات، بما فيها شاحنات الوقود، وأعادت جميع القوافل إلى نقطة الانطلاق.
وقال متحدث باسم نتنياهو في منشور عبر منصة “إكس”: “لم تدخل أي شاحنة إلى قطاع غزة هذا الصباح، ولن يُسمح بدخولها في هذه المرحلة”، موضحًا أن الشاحنات التي وصلت إلى المعبر عادت أدراجها بعد اكتشاف إغلاقه الكامل.
وفي موقف داعم للتصعيد، رحب وزير المالية الإسرائيلي، بتسلئيل سموتريتش، بقرار وقف إدخال المساعدات الإنسانية بشكل كامل، واصفًا إياه بأنه “خطوة مهمة في الاتجاه الصحيح”.
وقال في بيان: “القرار الذي اتخذناه الليلة بوقف إدخال المساعدات حتى تدمير حماس أو استسلامها الكامل وإعادة جميع الرهائن هو خطوة نحو فتح أبواب الجحيم”.
وأضاف: “الآن يجب فتح هذه الأبواب بأقصى سرعة وقوة ضد العدو حتى تحقيق النصر الكامل”، مشددًا على أن بقاء حزبه “الصهيونية الدينية” في الحكومة هدفه ضمان تنفيذ هذا المسار التصعيدي.
في المقابل، ندد المكتب الإعلامي الحكومي في غزة بالقرار الإسرائيلي، معتبرًا أنه “تأكيد للوجه القبيح للاحتلال”، وأضاف أن “الاحتلال يثبت مجددًا تجاهله للقوانين الدولية عبر منعه إدخال الدواء والغذاء”.
وحذر المكتب من أن “وقف المساعدات يعني قرارًا إسرائيليًا بتجويع أهالي القطاع”، داعيًا إلى “موقف دولي صارم للضغط على الاحتلال لوقف سياسة التجويع التي تستهدف سكان غزة”.
مقترح ويتكوف: تمديد مشروط وابتزاز متواصل
وفقًا لما جاء في بيان مكتب رئاسة حكومة الاحتلال، ينص مقترح مبعوث الرئيس الأميركي إلى الشرق الأوسط، ستيف ويتكوف، على الإفراج عن نصف الأسرى الإسرائيليين، سواء الأحياء أو الأموات، المحتجزين لدى المقاومة في قطاع غزة، وذلك في اليوم الأول من بدء الاتفاق.
ويُفترض، وفق المقترح، أن تمتد مدة الاتفاق خلال شهر رمضان وعيد الفصح اليهودي، على أن يُستكمل الإفراج عن بقية الأسرى الأحياء والأموات بعد انتهاء هذه الفترة، بشرط التوصل إلى اتفاق لوقف دائم لإطلاق النار.
وادعت رئاسة الحكومة الإسرائيلية أن ويتكوف تقدم بمقترح التمديد بناءً على تقييمه بأن الفجوات بين الطرفين لا تزال واسعة، ولا توجد فرصة حقيقية، في هذه المرحلة، للوصول إلى تسوية تنهي الحرب، مما يستدعي مزيدًا من الوقت لاستكمال المحادثات حول وقف دائم لإطلاق النار.
وفي محاولة للتنصل من مسؤولية تعطيل الاتفاق، زعمت “إسرائيل” أن حركة حماس خرقت التفاهمات مرارًا، بينما التزمت هي بها، مشيرة إلى أن الاتفاق يمنحها الحق في استئناف القتال بعد اليوم الثاني والأربعين إذا رأت أن المفاوضات باتت غير مجدية. وأكدت أن هذا البند حظي بدعم الإدارة الأميركية السابقة، كما تم تثبيته برسالة جانبية من إدارة ترامب.
وجددت رئاسة الحكومة الإسرائيلية تأكيدها أن موافقتها على مقترح ويتكوف جاءت في إطار مساعيها لاستعادة أسراها، في حين تتهم حركة حماس بالاستمرار في رفض المقترح. وختم البيان بالتأكيد على أن “إسرائيل” مستعدة للدخول الفوري في مفاوضات شاملة حول تفاصيل المقترح بمجرد أن تغيّر حماس موقفها.
تنسيق إسرائيلي–أميركي لتعديل الاتفاق وتقليل الثمن
في الواقع، لم يكن النقاش الجدي حول المرحلة الثانية من الاتفاق يجري بين الاحتلال والمقاومة، بل كان يدور فعليًا بين رئيس الوفد الإسرائيلي الجديد، الوزير المقرب من بنيامين نتنياهو، رون دريمر (وزير الشؤون الاستراتيجية في الحكومة الإسرائيلية)، ومبعوث الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى الشرق الأوسط، ستيف ويتكوف.
إعلان “إسرائيل” استعدادها للخوض في مفاوضات المرحلة الثانية جاء متزامنًا مع مباحثات مكثفة أجراها دريمر مع واشنطن، بدا أنها خلصت إلى تبنّي المبعوث الأميركي للرؤية الإسرائيلية. وهذه الرؤية تقوم أساسًا على تحقيق أكبر مكسب ممكن عبر استعادة أكبر عدد من الأسرى الإسرائيليين مقابل أقل ثمن ممكن، ومن دون تقديم أي التزامات حقيقية بشأن إنهاء الحرب أولًا، أو الانسحاب الكامل من قطاع غزة ثانيًا.
ولا شك أن التصريحات المتكررة للرئيس الأميركي دونالد ترامب، والتي شدد فيها على ضرورة الإفراج الكامل عن الأسرى الإسرائيليين المحتجزين لدى المقاومة، إلى جانب حديثه عن مشاريع تهجير سكان غزة، ومنح دعمه المطلق لقرارات نتنياهو بخصوص القطاع، قد شكلت دفعة سياسية ومعنوية كبيرة لرئيس حكومة الاحتلال، سمحت له بالمضي قدمًا في خيار التنصل من الاتفاق، الذي سبق لترامب نفسه أن أعلن أنه “لا توجد أي ضمانات على استكماله”.
ورغم أن الإفراج عن دفعات الأسرى خلال المرحلة الأولى حرّك عائلات الأسرى الإسرائيليين وعزز ضغوطهم على الحكومة، خاصة مع ورود معلومات لبعض العائلات بشأن حياة أبنائهم الأسرى لدى المقاومة، إلا أن تجربة الحرب أثبتت أن هذا العامل ليس حاسمًا في قرارات نتنياهو. فرئيس حكومة الاحتلال، الذي أثبت قدرته على امتصاص الضغوط الشعبية لأشهر طويلة، يدرك أن الخطر الحقيقي يكمن في انهيار ائتلافه الحكومي، خصوصًا مع تهديدات شريكه المتطرف بتسلئيل سموتريتش، الذي يفرض قيودًا صارمة على أي تنازلات قد تُقدم في هذا الملف.
وفي هذا الإطار، يبدو أن جوهر مقترح ويتكوف، الذي جاء بصياغة مشتركة إسرائيلية–أميركية، يهدف إلى تسريع عملية الإفراج عن أكبر عدد ممكن من الأسرى الإسرائيليين في اليوم الأول من التمديد المقترح، دون مقابل سياسي حقيقي. وبذلك يحقق نتنياهو تقدمًا كبيرًا نحو تقليل عدد الأسرى الأحياء لدى المقاومة، من دون الدخول في التزامات جوهرية تتعلق بإنهاء الحرب، أو الخوض الجدي في المرحلة الثانية من الاتفاق، والتي تتناول الملفات الكبرى المتعلقة بمستقبل قطاع غزة.
هل انهارت التهدئة؟
بقدر ما كانت التطورات الأخيرة متوقعة في بعض جوانبها، إلا أنها تمثل فعليًا انقلابًا كاملًا على اتفاق التهدئة في قطاع غزة، وهو ما عبّرت عنه حركة “حماس” بوضوح في بيانها الرسمي، الذي اتهمت فيه رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو بمحاولة “التنصل من اتفاق وقف إطلاق النار والتهرب من مفاوضات المرحلة الثانية”.
وأشارت الحركة إلى أن إعلان مكتب نتنياهو تبني مقترحات أميركية لتمديد الاتفاق ليس سوى “محاولة مفضوحة للالتفاف على التفاهمات الموقعة”، معتبرة أن ما يجري هو مسعى لتغيير قواعد الاتفاق دون الالتزام باستحقاقاته.
ومع ذلك، تدرك “حماس” جيدًا محدودية خياراتها في هذه المرحلة، وحاجتها المُلحة للحفاظ على حالة الهدوء في قطاع غزة، مع الأمل بأن تتحول هذه التهدئة المؤقتة إلى حالة دائمة عبر مراكمة الوقت والضمانات، والحصول على دعم إقليمي يضغط باتجاه كبح جماح المخططات الإسرائيلية، ويدفع نحو إعادة صياغة الموقف الأميركي تجاه ملف غزة.
في هذا السياق، يحمل تأكيد “حماس” على خرق الاحتلال للبند (14) من الاتفاق — الذي ينص على استمرار إجراءات المرحلة الأولى خلال المرحلة الثانية، مع التزام الضامنين ببذل جهودهم لضمان استمرار المباحثات — رسالة ضمنية بانفتاح الحركة على نقاش معقول يضمن استمرار الهدوء، حتى لو جاء ذلك ضمن تمديد المرحلة الأولى، شريطة أن يكون مقابل ثمن سياسي وإنساني مقبول.
وبالنسبة لـ”حماس”، فإن العبرة ليست في العناوين الشكلية للمراحل أو تسمياتها، بل في مضمون النصوص والضمانات التي تفضي إلى استمرار التهدئة، خاصة إذا رافق ذلك تحقيق مكاسب جوهرية في ملف الأسرى. فالثمن المطلوب للإفراج عن الأسرى من فئة الجنود والشباب، من وجهة نظر الحركة، يجب أن يكون أعلى بكثير من ذلك الذي قُدم في مقابل الإفراج عن المدنيين والمجندات وكبار السن، ما يعني الدخول في مفاوضات دقيقة ومعقدة لضبط معايير التبادل، نوعًا وكمًا.
أما على المستوى الاستراتيجي، فالنقاش الأكبر يرتبط بما يُسمى “اليوم التالي في غزة”، وبمستقبل سلاح المقاومة هو النقاش الأكثر حساسية. ووفقًا للمصلحة الفلسطينية، فإن هذا النقاش يتطلب أولًا توافقًا إقليميًا على رؤية موحدة تُعرض على الولايات المتحدة، والتي يمكنها — إن توفرت الإرادة السياسية — الضغط على حكومة الاحتلال لقبولها كصيغة تُحدد مستقبل الحكم في القطاع، وتغلق الباب أمام ذرائع الاحتلال للعودة إلى الحرب بذريعة “غياب البديل”.
لكن، في المقابل، فإن ملف سلاح المقاومة لا يبدو مطروحًا فعلًا على طاولة البحث من جهة المقاومة نفسها. فهذا السلاح الذي صمد في وجه آلة الحرب والدمار الإسرائيلية، وظل مصدر القوة الوحيد في ظل الحصار والعدوان، لن يكون ورقة مقايضة في مسارات التفاوض أو مشاريع التسوية، ولن تسلّمه المقاومة لأي طرف، سواء عبر السياسة أو الاتفاقات.
وبالمحصلة، ما يجري حاليًا هو محاولة أميركية–إسرائيلية لفرض مسار جديد يتجاوز بنود اتفاق التهدئة الأصلي، ويرتكز إلى تعظيم المكاسب الإسرائيلية بأقل التزامات ممكنة. وفي سبيل تمرير هذا المسار، لن تتردد “إسرائيل” في استخدام مختلف أدوات الضغط والإكراه، بدءًا من وقف إدخال المساعدات وإغلاق المعابر وفرض سياسة التجويع، وصولًا إلى التصعيد العسكري التدريجي، عبر رفع وتيرة القصف والاستهدافات، بهدف إعادة فرض معادلة “النار مقابل الإذعان”، والتأكيد على جدية التهديد بالعودة إلى القتل والتدمير إذا لم تنخرط المقاومة في المسار المفروض.