تواصل حكومة الاحتلال استفزازاتها وتخبطاتها إزاء العديد من الجبهات العربية، فلم تكتف بالوضع في غزة بعدما فشلت في تحقيق أهدافها من الحرب التي شنتها بالقطاع لأكثر من 470 يومًا، لتنتقل بعدها إلى اليمن، ومنها إلى لبنان، محاولة فرض تموضع جديد بالأمر الواقع، وصولا إلى سوريا بعد سقوط نظام الأسد الحليف الفعلي لتل أبيب لأكثر من 5 عقود كاملة.
وفي جولة جديدة من التصعيد على الجبهة السورية، أمر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الأمن يسرائيل كاتس، مساء السبت، جيش الاحتلال بالاستعداد لما أسماه “الدفاع” عن قرية جرمانا الدرزية الواقعة في ريف دمشق بزعم تعرضها لهجوم من قبل القوات السورية، مضيفا في بيان مشترك أنهما لن يسمحا للنظام السوري بإيذاء الدروز، محذرًا “إذا استهدف النظام الدروز فسوف نضربه”.
هذا التهديد يُعد الأول من نوعه من حيث نوعيته والمستهدف منه، فهو بمثابة تصعيد محتمل في السياسة الإسرائيلية تجاه الدولة السورية، والتي كانت مقتصرة بشكل تقليدي على توجيه الضربات والتهديدات ضد أهداف إيرانية أو تابعة لحزب الله في الأراضي السورية، لكنها المرة الأولى التي تلوح فيها دولة الاحتلال بضرب الحكومة السورية الجديدة نفسها.
يأتي هذا التصعيد بعد نحو أسبوع تقريبًا من التصريحات المثيرة للجدل التي حذر فيها نتنياهو الإدارة السورية الجديدة من التواجد المسلح في المناطق الجنوبية السورية، مطالبًا بجعل جنوب سوريا، محافظات القنيطرة ودرعا والسويداء “منطقة منزوعة السلاح بالكامل”، بزعم حماية الطائفة الدرزية من أي تهديد محتمل من النظام الجديد.
ماذا حدث في جرمانا؟
شهدت جرمانا، المدينة التي تقع على أطراف دمشق في الجنوب الشرقي، وتصلها بالعاصمة منطقة الكباس والدويلعة، وتبعد عنها مسافة 5 كلم تقريبا، والتي يقطن غالبيتها الدروز والمسيحين، اشتباكات بين قوات إدارة الأمن العام ومجموعات مسلحة تابعة لما يُسمى “لواء درع جرمانا” و”لواء الكرامة”، أسفرت عن مقتل أحد العناصر الأمنية برصاص مسلحين وإصابة خمسة أخرين، مساء الجمعة.
يرجع سبب الاشتباكات إلى أنه أثناء دخول عناصر تابعة لوزارة الدفاع السورية لجرمانا، كانوا يرتدون زيًا مدنيًا، عبر إحدى الحواجز، بهدف زيارة أقاربهم في تلك المدينة، تم توقيفهم عند الحاجز لتسليم أسلحتهم، وبعد تسليمها تعرضوا للضرب قبل أن يتم استهداف سيارتهم بإطلاق نار مباشر، مما أسفر عن مقتل أحدهم، حسبما نقلت وكالة الأنباء السورية الرسمية “سانا” عن مدير مديرية أمن ريف دمشق المقدم حسام الطحان.
بعد الحادثة مباشرة شهدت المدينة انتشارًا مكثفًا لقوات الأمن العام، حيث نصبت العديد من الحواجز والكمائن لتفتيش المارة بحثا عن المتورطين في تلك الجريمة، وباتت الأمور على صفيح ساخن، خاصة بعد مهاجمة مسلحين مركزا للشرطة في جرمانا، وتم طرد العناصر منه.
وفي محاولة لاحتواء الموقف قبل التصعيد أصدر مشايخ جرمانا بيانا أكدوا فيه رفع الغطاء عن جميع المسيئين والخارجين عن القانون، كما تعهدوا بالتعاون الكامل مع قوات الأمن وتسليم كل من تثبت مسؤوليته إلى الجهة المختصة حتى ينال جزاءه العادل، وهي الخطوة التي هدأت نسبيًا من المشهد لتعود الأمور إلى طبيعتها شيئاً فشيئاً خلال الساعات الماضية.
لم نطلب حماية من أحد
يعلم سوريو جرمانا والسويداء والقنيطرة ودرعا أن نتنياهو أبعد ما يكون عن حجج حمايتهم، وأن رفع مثل تلك الشعارات ليس سوى ذريعة للتدخل العسكري وفرض تموضع جديد يوسع به عمق الكيان الأمني في الداخل السوري، مستغلا حالة الارتباك التي تعاني منها الدولة السورية بعد سقوط نظام الأسد وانهيار معظم أركان الدولة التي كانت تدين بالولاء لرئيسها وليس للوطن.
واستنادا لهذا الفهم توجه مجموعة من وجهاء ومشايخ الدروز في السويداء إلى جرمانا، للعمل على احتواء الموقف قبل أن يتجاوز التصعيد خطوطه الحمراء، ويمنح جيش الاحتلال الفرصة للتدخل، حيث قال قائد حركة “رجال الكرامة”، الشيخ ليث البلعوس إن “الاشتباكات في جرمانا لم تكن مع قوى الأمن العام وبدأت بشجار شخصي”، مضيفًا في تصريحات متلفزة له إن “الأوضاع تتجه إلى الحل في جرمانا بريف دمشق، لسنا بحاجة إلى وصاية خارجية ونسعى لأن تكون سوريا موحدة”.
بعد 3 ساعات فقط من تصريح نتنياهو ووزير دفاعه عقد وجهاء ومشايخ جرمانا اجتماعًا طارئًا، أسفر عن بيان مشترك عبروا فيه عن رفضهم لأي فتنة طائفية، مؤكدين أنهم “كانوا وسيظلون جزءًا أصيلًا من ريف دمشق وسوريا”.
وجاء في البيان “نتشارك وإياكم المصاب الجلل الذي وقع ليلة أمس في مدينة جرمانا، والذي أودى بحياة أحمد ديب الخطيب وإصابة شخصين آخرين على يد مجموعة غوغائية غير منضبطة، لا تنتمي إلى عرفنا ولا إلى عاداتنا أو تقاليدنا المعروفية”.
وفي ذات السياق أكد عضو مجموعة العمل الأهلي بمدينة جرمانا، ربيع منذر، أنهم عرب سوريون، وأنهم “متمسكون بأرضنا ولم نطلب حماية من أحد”، محذرًا من استخدام نتنياهو لهم كورقة في مواجهة الإدارة السورية، وشدد في تصريحاته لـ “الجزيرة” : “نحن شركاء في الوطن وسقوط النظام كان بجهود كل السوريين، ونحتاج إلى إجراء حوار مباشر وفعال مع السلطات الجديدة”.
جدير بالذكر أن جرمانا ورغم احتضانها للعديد من عناصر ميليشات نظام الأسد المُنهار، لكنها كانت من أوائل المدن التي أٌسقط فيها تمثالا نصفيا لوالده حافظ الأسد، كان موضوعا في ساحة رئيسية تحمل اسمه، وذلك في السابع من ديسمبر/ كانون الأول الماضي، عشية إطاحة حكم بشار الأسد وهروبه خارج البلاد.
ماذا يريد الاحتلال من هذا التصعيد؟
يسعى الاحتلال منذ اليوم الأول لسقوط نظام الأسد فرض واقع جديد يخدم أجنداته التوسعية ويؤمن به عمقه الأمني في محاولة لضبط المشهد على ذات المقاس الذي كان عليه خلال حكم بشار ووالده، حين كانت الجبهة الحدودية بين سوريا والكيان المحتل الأكثر هدوءً، إذ لم تُطلق رصاصة واحدة باتجاه الداخل الإسرائيلي على مدار عقود طويلة، رغم شعارات المقاومة والممانعة التي كان يرفعها حافظ وولده من بعده.
ويحاول نتنياهو وحكومته من خلال التصعيد الأخير على الجبهة السورية تحقيق أهداف ثلاثة:
أولا: الضغط على السلطة الجديدة.. يمارس الكيان المحتل ضغوطا أقرب للابتزاز على السلطة السورية الجديدة، مستغلا حالة الفوضى التي خلفها السقوط المفاجئ للنظام البائد، وذلك عبر عدة أوراق على رأسها ورقة الأقليات والعرقيات والطائفية، فهي الورقة التي يعتبرها المحتل الحصان الرابح القادر على حسم المعركة كلما كانت هناك حاجة لذلك.
هذا بخلاف ورقة التغول داخل الأراضي السورية، والتي كان أبرزها احتلال المنطقة العازلة والسيطرة على قمة جبل الشيخ، إضافة إلى توسيع نطاق عملياته العسكرية في القنيطرة وريف دمشق، في انتهاك صارخ لاتفاقية فض الاشتباك الموقعة في جنيف علم 1974، بهدف إحراج الإدارة الجديدة، وممارسة أقصى أنواع الضغط، لاختبار ما لديها من مرونة واستطلاع توجهاتها بشأن سياستها الخارجية المزمعة تجاه الاحتلال الإسرائيلي للجولان والعلاقة مع تل أبيب.
يحاول نتنياهو وجنرالاته عبر هذا الضغط وتلك الخروقات التي لا تتوقف إيصال رسائل تهديد وتحذير للإدارة السورية بقيادة أحمد الشرع، ووضعها أمام خيارين لا ثالث لهما، إما أن تكون نسخة متطابقة مع النظام البائد حيث إبقاء الوضع على ماهو عليه دون أي مناوشات بشأن الجولان وابتلاع أي استفزازات إسرائيلية دون تصعيد قولي أو فعلي، أو أن تكون دوما في مرمى التهديد والخروقات المستمرة التي تضعك في موقف حساس أمام الشارع السوري من جانب وأمام المجتمع الإقليمي والدولي من جانب أخر.
ثانيًا: إضعاف سوريا ما بعد الأسد.. ظل الكيان المحتل داعما قويًا لنظام الأسد طيلة سنوات طويلة، فكان الحليف المقرب لتل أبيب، وتحت ولايته كانت الجبهة السورية هي الأهدأ بين جبهات التوتر الإسرائيلية، وعليه ما كان يمانع المحتل في تسليح هذا النظام بشتى أنواع الأسلحة، وصلت لعدم الممانعة في الاستعانة بأنظمة دفاع جوية متطورة مثل “إس 400” الروسية، يقينا منه بعدم استخدامها ضد الإسرائيليين مطلقًا.
وكانت إسرائيل من أكثر الدول الداعمة للأسد في معركته مع شعبه، ورغم توتر الأجواء في الداخل السوري لسنوات، إلا أن ذلك لم يقلق الكيان المحتل مطلقًا، حتى جاءت اللحظة الحاسمة، حين أطاح السوريون بهذا النظام، لتبدأ تل أبيب ولأول مرة في استشعار القلق الحقيقي، وعليه جاء التحرك سريعًا، فبعد ساعات قليلة من هروب بشار الأسد لموسكو شنت قوات الاحتلال عملياتها العسكرية المكثفة لتدمير معظم القواعد العسكرية وترسانات الأسلحة السورية وذلك بعدما خرجت من الأيدي الأمينة التي كانت تبقيها بمعزل عن الكيان الإسرائيلي، وللحيلولة دون استقرارها في أياد أخرى مجهولة بالنسبة للكيان المحتل.
Israel is lobbying the US to permit Russian bases in a “weak” and “decentralized” Syria as a counterbalance to Turkey’s influence.
Follow: @AFpost pic.twitter.com/Zsih7gMFgH
— AF Post (@AFpost) March 2, 2025
وبعد رحيل الحليف الاسدي، وحتى استشراف ملامح النظام الجديد، يسابق الكيان المحتل الزمن لإضعاف سوريا قدر الإمكان، في محاولة لوأد أي احتمال ولو كان ضعيفًا أمام السلطة القادمة لأن تخرج عن السياق المرسوم، خاصة بعد التصريحات التي بدأت تأخذ منحى أخر خلال الأيام القليلة الماضية، والتي تطلب قوات الاحتلال بالانسحاب من الأراضي السورية وتؤكد أن سوريا بلد غير قابل للتقسيم، وهي الرسائل التي كان لها صداها في الداخل الإسرائيلي.
ثالثًا: تعزيز النفوذ الروسي بدلا من التركي.. ظل الدعم التركي للمعارضة السورية والثورة في مواجهة النظام البائد منذ انطلاقها في 2011 نقطة خلافية مع تل أبيب التي كثيرًا ما أبدت تحفظها على النفوذ التركي المتصاعد في مواجهة حليفها الأسدي، ومع دخول العلاقات التركية الإسرائيلية نفقًا جديدًا من التوتير منذ حرب غزة الحالية، بات هذا النفوذ يمثل صداعا في رأس الكيان المحتل يسعى لتقليصه قدر الإمكان.
وعليه تحاول إسرائيل تقليل هذا النفوذ عبر الاستعاضة عنه بتعظيم النفوذ الروسي، وهو ما كشفته وكالة “رويترز” في تقرير لها، الجمعة 28 فبراير/شباط 2025، حيث نقلت عن أربعة مصادر مطلعة قولهم إن تل أبيب تضغط على الولايات المتحدة الأميركية لإبقاء سوريا ضعيفة وبلا قوة مركزية، مضيفة أنها تخشى من تمدد النفوذ التركي في سوريا، وتسعى للسماح لروسيا بالاحتفاظ بقاعدتيها العسكريتين هناك لمواجهة النفوذ التركي المتزايد في البلاد.
وبحسب المصادر فإن الكيان الإسرائيلي يشعر بالقلق العميق بشأن دور تركيا كحليف وثيق لحكّام سوريا الجدد، وأنهم – أي تلك المصادر- عبرت عن قلقها للمسؤولين الأميركيين من أن السلطة السورية الجديدة قد تشكل تهديدًا خطيرًا، والقوات المسلحة السورية قد تهاجم إسرائيل ذات يوم.
بات واضحا حجم المؤامرة التي تُحاك لسوريا الجديدة على أيدي الكيان المحتل، مستغلا حزمة من أوراق الضغط المختمرة بطبيعة الحال على مدار عقود طويلة مضت، الأمر الذي يتطلب من السوريين جميعًا، بشتى التيارات الفكرية والسياسية والدينية، إدراك تلك التحديات الخطيرة التي تضعهم أمام خيارين لا ثالث لهما، إما الانتصار للدولة السورية وللشعب السوري عبر تنحية الخلافات والنعرات العرقية والطائفية وتوحيد الكلمة ووحدة الصف، أيًا كانت هوية السلطة الجديدة، أو الوقوع في الفخ المنصوب والسقوط في مستنقعات المناطقية والمحاصصة والصراعات الداخلية التي لن يكون فيها منتصرًا على وجه الإطلاق، فيما سيكون الرابح الأكبر منها إسرائيل ومن يتربصون بسوريا.