ترجمة وتحرير: نون بوست
أجبرت عمليات التطهير العرقي في الصين الأويغور على الهجرة الجماعية إلى إسطنبول، والسعي للحفاظ على ثقافتهم حية.
في صباح يوم الأحد من شهر نيسان/ أبريل، قادت نفيسة كريم البالغة من العمر تسع سنوات شقيقتها الأكبر سنيّة إلى محل لبيع الكتب في حي زيتون بورنو الواقع في إسطنبول. جابت عينا الفتاة رفوف الكتب المليئة بالمجلّدات الملونة التي تصور الكتابة العربية.
أرادت نفيسة كريم القدوم إلى هذا المكان بعد أن شاهدت إعلانًا على موقع فيسبوك عن صدور مجلة جديدة للأطفال. تعتبر هذه المجلة، التي أُطلق عليها اسم “فور ليف كلوفر”، أول مجلة أدبية في الخارج يكتبها أطفال أويغور لفائدة أطفال ينتمون لنفس الأقلية العرقية. أراد محررة هذه المجلة، وهي مدرسة اللغة الأويغورية والشاعرة ميسر عبد الواحد، منح هؤلاء الأطفال فرصة لرؤية انعكاس لأنفسهم في الأماكن العامة وإظهار أن مجتمعهم يملك صوتا يعبر عنهم بلغتهم الأم.
لمعت عينا هذه الطفلة بالحماس والإثارة بعد أن حملت نسختها الخاصة من هذه المجلة بين يديها. رُسم على غلاف هذه المجلة رجل غاضب ممتلئ الجسم يحمل حقيبة من الهدايا، وهي النسخة الأويغورية لسانتا كلوز. وصلت العديد من نسخ هذه المجلة إلى أيدي أطفال من الأويغور الذين يعيشون في العديد من بلدان العالم، ولكن لم تصل إلى مسقط رأسهم، منطقة سنجان الصينية، حيث حظرت الحكومة استخدام لغتهم في المدارس، سعيا منها لمحو ثقافتهم.
المُدرّسة والشاعرة الأويغورية، ميسر عبد الواحد، تحمل نسخة من مجلة “فور ليف كلوفر”، وهي أول مجلة أدبية بالخارج كتبها أطفال أويغور لفائدة أطفال من بني عرقهم ، في 21 نيسان/ أبريل.
خلال السنوات القليلة الماضية، انتقل عدد متزايد من الأويغور، وهم أقلية عرقية تتحدث اللغة التوركيّة وتعتبر منطقة سنجان وطنها، إلى تركيا هربا من حملة الإدماج التي تقودها بكين. ويعيش البعض منهم في “زيتون بورنو”، وهو حي متاخم للبحر ظلّ لعقود طويلة ملاذاً آمنا للمهاجرين من الشرق الأوسط وآسيا الوسطى. في الواقع، كان السفر إلى تركيا أمرا ممكنا بالنسبة للمنتمين لهذه الأقلية، لاسيما وأنها تتسم بطابع ثقافي قريب من الشعب التركي. ولكن حالما استقروا للعيش هناك، واجه الكثير منهم مشاكل قانونية، حيث أنهم لم يتمكنوا من الحصول على تصريح إقامة أو عمل أو تجديد جوازات سفرهم الصينية.
وفقا لتقديرات الخبراء، فإن الحكومة الصينية وضعت حوالي 1.5 مليون من الأويغور والأقليات المسلمة الأخرى في معسكرات إعادة التأهيل السياسي في السنوات القليلة الماضية. ووُضع الكثير من الأطفال في أماكن تطلق عليها الحكومة اسم “المدارس الداخلية” بهدف تعلّم لغة الماندرين الصينية و”عادات الحياة الجيدة”. من جهتها، أكّدت بكين أن حملتها تمثل إجراء ضروري لاجتثاث الإرهاب والانفصالية والتطرف الديني. في المقابل، تشير حملات الاعتقالات التعسفية ومراقبة الجمهور وتضييق الخناق على التعبير الديني إلى أن الهدف هو غرس الخوف وتجريد الأويغور من هويتهم الثقافية والدينية. وحيال هذا الشأن، كتب جيمس ليبولد، وهو أستاذ مشارك في السياسة والدراسات الآسيوية بجامعة لا تروب: “ينبغي أن يُطلق على معاملة الصين للأويغور إبادة ثقافية”.
في زيتون بورنو، أعاد الأويغور بناء بعض الجوانب الثقافية التي محيت في سنجان، حيث تقدم المطاعم الأويغورية النودلز في غرف مزخرفة برموز تصوّر ثقافتهم القديمة، على غرار سجاد الجدران الذي يصور مسجد عيد غا الذي لم يعد يصدر منه أصوات الآذان، أو لوحة شهيرة لمجموعة موسيقية من الأويغور. فضلا عن ذلك، تتسوق النسوة مرتديات الحجاب في دكاكين فواكه وخضروات عبقة تقع في زوايا الشوارع، بينما يلعب الأطفال كرة القدم في الشوارع المرصوفة بالحصى.
أسرة من الأويغور تحضر حفلا بمناسبة عيد السيادة الوطنية ويوم الطفل في حي سيفاكوي الأويغوري في إسطنبول في 23 نيسان/ أبريل.
على الرغم من حيوية الحي، فإن السر المُعلن الذي يتشاركه جميع أفراد هذه الجالية يتمثل في وجود أفراد من أقاربهم محتجزين في تلك المخيمات. واعتبر بعضهم أن أفضل رد على القمع الصيني هو خلق مقاومة ثقافية بحكم الأمر الواقع. من خلال الموسيقى والرسم والشعر والتعليم والأزياء، يسعى الأويغور في اسطنبول للحفاظ على ثراء هويتهم ونقل رسالة أقوى إلى العالم.
في هذا السياق، قال يوسف سليمان، الموسيقي الذي أنشئ في نهاية السنة الماضية فرقة شعبية أويغورية في إسطنبول: “بكينا لأكثر من سنتين، وقمنا باحتجاجات لأكثر من سنتين، لكن ذلك لم يغير شيئا. لذلك فكرت في ضرورة تغيير أسلوبنا، ينبغي علينا أن نفعل شيئًا، ونجد طريقة أخرى”.
بالنسبة للبعض، يعتبر الدافع الرئيسي هو خلق بيئة صحية عاطفية للأطفال الذين ينتمون لهذه الأقلية، وإعدادهم لحملة أطول من المقاومة الثقافية. وفي هذا الإطار، أشارت ميسر عبد الواحد، التي تعطي دروسا في اللغة الأويغورية أيام الأحد، إلى إن أطفال الأويغور يحملون داخلهم الكثير من الألم والغضب، وتسعى هي لتوجيه هذه المشاعر إلى الدراسة بجد. قالت عبد الواحد: “على سبيل المثال، حين يخبرونني برغبتهم في أن يصبحوا جنودا في المستقبل، يكون ردي بأنه لا بأس في ذلك، لكن أن تكون جنديًا أميًا ليس أمرا جيدًا لأن الجنود الأميين يخسرون دائمًا في المعارك. لذلك دعونا نكون أقوياء، وذوي معرفة”.
يعمل عبد الخليل حاجي في مكتبة سوتوك بوغراهان في حي زيتون بورنو في إسطنبول في 21 نيسان/ أبريل.
من الصعب نقل مدى الضرر الذي لحق بثقافة الأويغور. فخلال السنوات القليلة الماضية، سجنت بكين أكثر من 300 من النخبة المثقفة الأويغورية، بما في ذلك الشعراء والروائيين وعلماء الأنثروبولوجيا وأساتذة الجامعات والعلماء. يُعتبر المؤلفون الذين تعرضوا للسجن والذين تُعرض كتاباتهم في مكتبات الأويغور في إسطنبول عمالقة الأدب والثقافة الأويغورية.
توجد كتب هالايد إسرائيل، وهي روائية خيال علمي تعرضت للاعتقال في سن الخامسة وسبعين. كما يوجد أيضا أعمال مرزاهيت كريم، وهو شاعر شاب قُبض عليه في خمسينيات القرن الماضي بسبب كتابته عن طفل رضيع في صندوق، حيث اعتبرتها الحكومة الصينية صورة مجازية انفصالية. وتم إطلاق سراحه في ثمانينيات القرن الماضي، واستمر في كتابة الروايات وأُعيد اعتقاله مؤخرًا عن سن يناهز 82 سنة.
بالنسبة لفنانين الأويغور في إسطنبول، فإن الحملة في سنجان يمكن اعتبارها شاملة وشخصية
فضلا عن ذلك، يوجد كتب عالم الأنثروبولوجيا الرائد رحيل داوود، الذي كان في السابق أستاذاً مشهورا في جامعة سنجان، واختفى في أواخر سنة 2017. بالإضافة إلى ذلك، دعت منظمة العفو الدولية هذا الشهر إلى القيام “بإجراء عاجل” يتعلق بمخاوف إعدام الرئيس السابق للجامعة، تاشبولات طيب، الذي اختفى أيضًا في سنة 2017 . وفي هذا الصدد، قال جيمس ميلوارد، أستاذ التاريخ بجامعة جورج تاون، الذي يعتبر تقنيات الحكومة الصينية مشابهة للأساليب التي أُستُخدمت خلال حقبة ستالين في ثلاثينيات القرن الماضي: “إنهم يمحون الثقافة بأكملها”.
بالنسبة لفنانين الأويغور في إسطنبول، فإن الحملة في سنجان يمكن اعتبارها شاملة وشخصية. في الواقع، فقدت إيلمينور مطلب، وهي رسامة وشاعرة وفنانة في الخط تبلغ من العمر 22 سنة، الاتصال بوالديها بعد سنة من انتقالها إلى أنقرة لدراسة علم الإلهيات في الجامعة في سنة 2016. وبدأت تشاهد كوابيس حول تعرّض والديها للتعذيب، وخلال قالت إنها أضحت تشعر “باختلال عقلي”.
وسعيا منها للبحث عن طرق للتأقلم مع الوضع، آثرت توجيه تركيزها لشغف طفولتها، الرسم، إلى جانب الشعر وفن الخط، الذي كان مهنة والدها. وأضافت مطّلب قائلة: “لم أعبّر عن مشاعري وأفكاري وموقفي تجاه الحياة لأي شخص لأنني شعرت أنّه مهما قلت لهم، لن يكونوا قادرين على التفهّم أو التعاطف. لذلك، نشرت كل هذه الأفكار والمشاعر على الصفحة من خلال كتابتي”.
مسجد شهير يضمّ العديد من الأويغور في اسطنبول في حي زيتون بورنو في نيسان/أبريل.
تحب مطّلب أن ترسم الصحراء الشاسعة المحيطة بمسقط رأسها كومول في سنجان ووجوه شعب الأويغور القدماء. في السنوات القليلة الماضية، شاركت مطّلب في مشاريع فنية مثل رسم أغلفة كتب أطفال الأويغور، كما أنها تدعو بقوّة لتدريس لغة الأويغور للأجيال الجديدة وتريد إطلاق حصّة دراسيّة لتعليم الخط العربي.
يدرك الأويغور المشتّتون أن الاهتمام بثقافتهم أمر متروك لهم، كما يعلمون أن الموجودين داخل سنجان لم يعد بإمكانهم دراسة لغتهم الأم والأدب الأويغوري في المدرسة، ولا يمكنهم أيضا الذهاب إلى المسجد مع عائلاتهم، كما لا يمكنهم الافتخار بأصولهم الأويغوريّة. إلى جانب ذلك، لا يمكنهم حتى قضاء أوقات الفراغ مع عائلاتهم دون القلق بشأن أفراد أسرتهم المحتجزين.
يأمل عبد الجليل توران، صاحب مكتبة “تكالمكان أويغور نشريات” ودار النشر في زيتون بورنو، أن يكتب أحد المؤلفين المنفيين تحفة عن الوضع الحالي للأويغور. وأثناء انتظاره، أخذ الشاب البالغ من العمر 61 سنة على عاتقه جمع السير الذاتية لأفراد من النخبة الثقافية الأويغورية المحتجزة. وقال هذا الشاب: “نحن بحاجة إلى إعلام العالم بوجودنا”. يعمل توران بلا كلل للحفاظ على أعماله وتراثه، لكنه يصف نفسه بأنه واقعي، وهو يعتقد أن الخوف والألم اللذان يعيشهما الأويغور خارج البلاد، بالإضافة إلى جذب ثقافات البلدان المضيفة للأجيال الشابة، سيؤدي إلى الاختفاء التدريجي للغة الأويغور على امتداد العقود المقبلة.
كان محمد في ذلك الوقت يدير شركة استيراد وتصدير مع تركيا بعد أن أغلقت حكومة سنجان متجرين كان يملكهما ومصنعًا لملابس الأويغور التقليدية
علاوة على ذلك، أضاف توران أن “بعض الناس يعتقدون أنه بإمكاننا حماية لغتنا إلى نهاية العالم، لكن هذا الأمر ليس واقعيا”. وفي منزله في حي الفاتح بإسطنبول، أصدر رجل الأعمال حبيب الله محمد قاعدة تفرض على الجميع أن يتحدّثوا بلغة الأويغور طوال الوقت. وطبّق أطفاله الأربعة، الذين تتراوح أعمارهم بين 3 و 10 سنوات، هذه القاعدة، حيث كانوا سعداء يوم السبت في نيسان/أبريل بينما كانوا يركضون في المكان بعد تناول وجبة إفطار من لحم البقر والأرز والجزر وسلطة الخيار والخبز محلي الصنع.
بالإضافة إلى ذلك، تناوب الصبية الأكبر سناً على القراءة من كتاب للأطفال بلغة الأويغور إلى محمد وزوجته مهريبان عبد الوالي. وفي آذار/مارس 2017، انتقلت الأسرة من عاصمة سنجان أورومتشي إذ نصحه أحد أصدقائه في الشرطة بمغادرة البلاد قبل نهاية الشهر. كان محمد في ذلك الوقت يدير شركة استيراد وتصدير مع تركيا بعد أن أغلقت حكومة سنجان متجرين كان يملكهما ومصنعًا لملابس الأويغور التقليدية. كان وقع الإغلاقات القسرية مؤلما على محمد، الذي بدأ العمل في سن الثانية عشرة في بيع الجوارب في شوارع أورومتشي.
حبيب الله محمد ومهريبان عبد الوالي يتناولان وجبة الإفطار مع أسرتهما في غرفة المعيشة في شقتهما الصغيرة في حي الفاتح بإسطنبول في 27 نيسان/أبريل.
نقل محمد زوجته وأطفاله إلى إسطنبول، لكنه ترك وراءه أخته الكبرى، حيث كانا يتواصلان لفترة من الوقت عن طريق إرسال رموز تعبيرية في شكل زهرة باستعمال تطبيق المراسلة “وي تشات” ليعلم أحدهما الآخر بأنهما في آمان. ولكن في أيلول/سبتمبر 2018، توقف محمد عن تلقي أخبار من أخته وعلم لاحقا أنها احتجزت، لكنه لا يعلم ما الذي سيحصل لصهره وابنتيه.
يدير محمد الآن متجراً صغيراً في الفاتح لبيع منتجات الأويغور بشكل حصري تقريبًا، على الرغم من أنه يعلم بأنه سيجني على الأغلب مالا أكثر إذا قدّم خدماته لعامة الجمهور التركي أيضًا. وإلى جانب بيع القبعات والأوشحة والأزياء والآلات الموسيقية التقليدية للأويغور، فهو يصمم الملابس الحديثة بأنماط الأويغور التقليدية التي يأمل أن يرتديها الناس لجميع المناسبات.
في كثير من الأحيان، يصبح الأويغور جواسيس لصالح شرطة سنجان تحت التهديد بتعذيب عائلاتهم في حال عدم تعاونهم
في هذا الشأن، يعتقد كل من عبد الواحد ومطّلب ومحمد الذين يكّدون في عملهم، أنه ربما يكون هناك العديد من الأويغور الآخرين الذين يخافون من التعبير عن آرائهم علنًا. وانتقل سليمان، وهو الموسيقي الذي أطلق فرقة في نهاية السنة الماضية، إلى إسطنبول سنة 2016 بعد فشله في الحصول على تأشيرات الدخول إلى الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. وقال سليمان إنه لا يشعر بالأمان في المدينة، لأن تركيا تستطيع أن تقرّر في أي وقت ترحيل الأويغور إلى الصين. علاوة على ذلك، يخاف سليمان أيضا من الجواسيس الصينيين لدرجة أنه بالكاد يستطيع النوم ليلًا ولا يأخذ غفوة أثناء النهار.
في الواقع، هناك وثائق تؤكّد على وجود جواسيس صينيين في مجتمعات الأويغور بالخارج. وفي كثير من الأحيان، يصبح الأويغور جواسيس لصالح شرطة سنجان تحت التهديد بتعذيب عائلاتهم في حال عدم تعاونهم. خلال الأيام التي أمضيناها في إعداد التقارير في إسطنبول، شعرنا بأننا مراقبون معظم الوقت سواء في الشوارع أو في الفندق. وبينما كنا نجري مقابلة في أحد مطاعم الأويغور، جلس رجل من الأويغور على طاولة بجانبنا وظلّ يحدق فينا بوجه عابس إلى حين مغادرتنا.
في هذا السياق، صرّح محمد أنه يشعر أحيانًا بالإرهاق من كثرة الألم والغضب، لدرجة أنه يفكر في “القيام بردّة فعل”، لكنه لا يريد تشويه صورة مجتمعه، وعوضا عن ذلك، ينغمس في عمله. وأضاف محمّد قائلا: “أعتقد أنه من مسؤوليتي أن أقوم بما أجيده لحماية ثقافتي. وإن لم أفعل ذلك، فما الذي سأقوله لأطفالي في المستقبل؟ ما الذي يمكنني تعليمهم إياه؟ وما العبرة التي يمكنني أن أتركها لهم؟”
من الممكن رؤية العلم التركي من خلال نافذة شقة يوسف سليمان، وهو موسيقي من الأويغور يعيش الآن في إسطنبول، في 24 نيسان/أبريل.
في سنجان، لا يستطيع الأباء الأويغور طرح مثل هذه الأسئلة. وعلى سبيل المثال، كانت امرأة شابة، على متن حافلة في بلدة كاشغار في تشرين الثاني/ نوفمبر، تحمل بين ذراعيها شيئا ملفوفا في وشاح ملون. وبعد إلقاء نظرة فاحصة، استطعت أن أرى أنه طفل مغطى بالكامل ونائم على الرغم من الضجة المحيطة به. توقفت الحافلة عند نقطة تفتيش تقع بين المدينة ومقاطعة مجاورة. وقد طُلب من جميع الأويغور، بمن فيهم الأم وطفلها بالترجّل من الحافلة، حيث اجبروا على الخضوع لتفتيش أمني مروراً بالماسحات الضوئية للتعرف على الوجه لتطابقهم مع بطاقات الهوية الخاصة بهم. في المقابل، كان المسافرون الصينيون من شعب الهان ينتظرون داخل الحافلة.
من هذا المنطلق، لسائل أن يسأل ما إذا كانت تلك المرأة لا تزال تتمتع بحريتها، وما إذا كانت لا تزال قادرة على تقديم الرعاية لطفلها، أو ماهي اللغة التي سيتحدثها الطفل في المستقبل وما هي الهوية التي ستسند إليه عندما يكبر؟ ويعتبر على نطاق واسع أن المسؤول عن التخطيط لهذه الحملة الحالية، التي تشمل فرض نظم المراقبة في كل مكان، ومعسكرات الاعتقال وعمليات الفصل الأسري المنهجي هو رئيس حزب سنجان، تشن قانغو، الذي نُقل سنة 2016 من منصبه السابق في التبت.
بدأت الحكومة تحكم قبضتها على سنجان منذ أن أسفرت أعمال الشغب العرقية في أورومتشي عن مئات القتلى في سنة 2009، تلتها هجمات إرهابية شنها الأويغور في كلا من مدينتي بكين وكونمينغ الجنوبية. وخلال شهر آذار/مارس 2017، دعا الرئيس الصيني شي جين بينغ إلى إقامة “سور إسمنتي طويل” حول سنجان بهدف احتواء العنف.
تعرض الحكومة ثقافة الأويغور من خلال تنظيم فعاليات ثقافية للزوار، حيث يُطلب من الأيغوريين القيام بشكل علني بالأشياء التي يعاقبون من أجلها إذا قاموا بها بشكل منفرد.
وفقًا لميلوارد، الأستاذ في جامعة جورجتاون، حدث في الوقت نفسه تحول أيديولوجي فيما يتعلق بمعاملة الأقليات في الحزب الشيوعي. فمنذ أوائل التسعينات، اعتبرت الصين الأقليات التي يبلغ عددها 55 والمعترف بها رسميا بمثابة اللبنات الأساسية للهوية الوطنية. لكن ابتداءً من سنة 2014، تغيرت نظرتها وأضحت تعتبر أن الحضارة الصينية هي أصل جميع المجموعات العرقية الأخرى، التي كانت وجهة نظر مشتركة يتبناها جميع القادة الوطنيين في البلاد في ثلاثينيات القرن العشرين.
في هذا السياق، قال ميلوارد: “على مستوى السياسي، أعتقد أن ذلك يدعم النهج الأكثر حزما وإدماجا الذي تتبعه الحكومة الصينية”. وأضافت الخبيرة في ثقافة الأويغور في كلية الدراسات الشرقية والإفريقية بجامعة لندن، راشيل هاريس أن “بكين ترى أن إدماج الأقليات مثل التبت والأويغور ضروري من أجل تأمين البلاد وحدودها”. في حين يناسب هذا النهج الراديكالي سياق الحملة القمعية الواسعة النطاق التي يشنها الرئيس الصيني ضد الحريات المدنية.
في شأن ذي صلة، يقول الخبراء إن الحملة تهدف إلى محو ثقافة الأويغور من خلال استهداف الأركان الثلاثة المتعلقة بهم وهي اللغة وهيكل الأسرة والدين، ناهيك عن حظر اللغة الأويغورية في بعض المدارس، وعمليات الاحتجاز الجماعية، وهدم المساجد، ومواقع ممارسة الطقوس القديمة.
في المقابل، تعرض الحكومة ثقافة الأويغور من خلال تنظيم فعاليات ثقافية للزوار، حيث يُطلب من الأيغوريين القيام بشكل علني بالأشياء التي يعاقبون من أجلها إذا قاموا بها بشكل منفرد. على سبيل المثال، عرض في صورة ساخرة للغاية، رجال من الأويغور يرتدون لحى مزيفة وهم يؤدون مسرحية أمام بلدة كاشغار القديمة في تشرين الثاني/ نوفمبر. مع العلم أن إطلاق اللحية يعتبر غير قانوني في سنجان لأنه يمثل علامة على التطرف الديني.
في سياق متصل، قالت هاريس: “ما نراه داخل سنجان بمثابة تفريغ لجوهر ثقافة الأويغور، لذلك لم تبق سوى قشرتها الخارجية، لكن نواتها قد تبددت”. نتيجة لذلك، ظلت مجتمعات الأويغور المشتتة تكافح من أجل الحفاظ على ثقافتهم والتعبير عنها وتطويرها.
على اليسار: يقف محمد في متجره الصغير للمنسوجات في حي الفاتح في 21 نيسان/أبريل. وهو يبيع بشكل شبه حصري منتجات الأويغور. في الوسط: يوجد العلم الانفصالي شرق تركستان، الذي استخدمه الأويغور في الخارج كرمز لاستقلالهم، ومعلق على باب غرفة نوم عبد الوالي ومحمد في منزلهما الكائن في إسطنبول يوم 27 نيسان/ أبريل. على اليمين: يقف سليمان من دولان، وهي فرقة أويغور شعبية تنشط في إسطنبول، داخل منزله الذي يوجد في اسطنبول في 24 نيسان/ أبريل. وتحدث سليمان عن الوقت الذي قضاه في سنجان قائلا:”لقد بكينا لأكثر من سنتين، وعملنا على الاحتجاج لأكثر من سنتين، ولكن لم يتغير شيء، لذلك اعتقدت أنه يجب أن نغير أسلوبنا، ويجب أن نفعل شيئًا، ونجد طريقة أخرى”.
للتصدي لحملة الإدماج في بكين، يجد بعض الأويغور في تركيا بالفعل الأمل في الجهود التي يبذلونها للحفاظ على تراثهم الثقافي. وفي هذا الصدد، أفاد فرحات كوربان تانريداغلي، وهو عالم لغوي وموسيقي حائز على جائزة في اسطنبول، أن ثقافة الأويغور تتسم بقدرتها على الصمود، نظرا لأن الموسيقى والدين والشعر يعتبرون جزءا لا يتجزأ من حياتهم اليومية. وتطرق تانريداغلي لتجمع “مشراب” التقليدي الذي يشمل عزف الموسيقى والرقص وإلقاء الشعر وتبادل أطراف الحديث ويُعقد خلال مناسبات مهمة، مثل حفلات الولادة والزفاف والختان.
فضلا عن ذلك، يُعلّم الآباء الأويغور أطفالهم الصغار إلقاء القصائد بطريقة مشابهة للعائلات الغربية الذين يقرؤون القصص لأطفالهم قبل النوم. ويتعلم الكثير من الصغار من آبائهم العزف على آلة الدوتار الموسيقية التقليدية ذات الوترين. ولذلك، تُسمع نغمات الدوتار المنخفضة داخل المنازل أثناء فترات المساء، التي لا تثير إزعاج الجيران.
وتجدر الإشارة إلى أن تانريداغلي يرغب في إنشاء فرقة موسيقية باسم “إويغور توالف مقام” في إسطنبول، التي سميت على اسم سلسلة موسيقية تتألف من 12 جزءًا كانت تُغنى على مدى قرون، وعادة ما تعرض على مدار عدة أيام في المهرجانات الموسيقية. بالإضافة إلى ذلك، يريد فتح متحف خاص بالثقافة الأويغورية في تركيا. وعلى الرغم من أنه يقول إنه سيواصل العمل لطالما أن لديه الطاقة اللازمة للقيام بذلك، إلا أنه غير متفائل كثيرا بشأن ما يمكن أن تنجزه مجموعة صغيرة من الأفراد المتفانين.
في الشأن ذاته، أفاد تانريداغلي قائلا: ” إن ثقافة الأويغور في خطر. وإذا استمر حكم النظام الشيوعي الصيني لفترة طويلة، فسيُسبب ذلك مأزقا لهم. لكن لا يمكننا أن نحل هذه المشكلة بأنفسنا، ولذلك ينبغي على كل إنسان أن يتحرك ويدافع عن العدالة”. في الواقع، أعرب العديد من الأويغور القاطنين في اسطنبول عن شعورهم بالعجز والاستياء من تخلي العالم عنهم. وفي هذا السياق، قال محمد، وهو رجل أعمال: “إذا فقدت قطتك أو كلبك، فإنك مسؤول عن العثور عليه. ونحن أطراف في هذا المجتمع العالمي. فلماذا لا ننتمي إلى هذه العائلة؟”.
يعتقد الكثيرون في المقاومة الثقافية الأويغورية أنه بمجرد أن تحظى إنجازاتهم بالاهتمام على الصعيد الدولي، سواء كانوا يقومون بتعليم عالم ناسا القادم أو يصممون خط أزياء ناجح، فسوف يصبحون جديرين باهتمام العالم وحمايته. وفي الإطار ذاته، أشار سليمان قائلا:” لقد سئم المجتمع الدولي من بكائنا، ولكن إذا قررنا التركيز على عملنا ومدى إسهامنا في تنمية البلدان التي نعيش فيها، من المحتمل أنهم سيتساءلون في يوم من الأيام عما حدث لنا في الماضي”.
المصدر: فورين بوليسي