لا يخفى على أحد مقدار التسارع الكبير الذي شهده قطاع التكنولوجيا في عصرنا الحاليّ، إذ شهدت البشرية ولادة تقنيات وأجهزة كانت تعد قبل بضعة عقود من ضروب الخيال العلمي.
ساهمت الدارات الإلكترونية المتطورة وأنظمة الحوسبة فائقة السرعة مع الخوارزميات المتطورة جدًا بهذا النمو الهائل لقطاع التكنولوجيا، وبين فترة وأخرى تظهر أصوات مطالبة للحد من هذا التطور المخيف ووضع سياسة أخلاقيات تحكم هذه الخوارزميات.
كما أن المؤمنين بنظرية المؤامرة والمشجعين لسيناريوهات نهاية العالم لا يفوتوا فرصة مثل هذه دون أن يحذروا منها ويؤلفون تنبؤات وتوقعات عن مستقبل مجهول ينتظر سكان كوكب الأرض.
الذكاء الاصطناعي هو مساحة واسعة من علوم الكمبيوتر التي تجعل الآلات تبدو وكأن لديها ذكاءً بشريًا
لكن السؤال الذي يطرح نفسه، ما مدى التهديدات والمخاوف التي يساهم في خلقها فعلًا الذكاء الاصطناعي؟ وهل يتوجب على البشر إعادة التفكير بما يصنعونه ويطورونه بأيديهم؟ للإجابة عن هذا السؤال يجب أولًا معرفة ما الذكاء الاصطناعي؟ وما أقسامه؟ وفي أي مرحلة نحن؟
ما الذكاء الاصطناعي؟
عندما يقع على مسامع البعض مصطلح الذكاء الاصطناعي، يخطر على بالهم قبل كل شيء الروبوتات أو نظارات الواقع الافتراضي أو الحاسوب المحمول، بينما هذه الأشياء هي بضعة تطبيقات تعمل بخوارزميات هذا العلم.
يمكن تعريف الذكاء الاصطناعي على النحو التالي:
هو مساحة واسعة من علوم الكمبيوتر التي تجعل الآلات تبدو وكأن لديها ذكاءً بشريًا، فإذا تمكنت الآلة من حل المشكلات أو إكمال المهمة الموكلة إليها أو إظهار الوظائف المعرفية الأخرى التي يمكن للبشر القيام بها، فإننا نشير إليها على أنها تتمتع بذكاء اصطناعي.
يحتوي الذكاء الاصطناعي على العديد من الفئات الفرعية مثل الشبكات العصبية والتعلم العميق والتعلم الآلي ورؤية الكمبيوتر، ونتعامل معها يوميًا بشكل كبير في الهواتف الذكية وتطبيقات الإنترنت، وهذا المصطلح – الذكاء الاصطناعي – صاغه العالم الأمريكي جون مكارثي عام 1956 الذي افترض تصميم آلات تحاكي الذكاء البشري من خلال أنظمة الكمبيوتر.
تم تقسيم الذكاء الاصطناعي إلى ثلاثة أقسام نسبة لمستوى الذكاء الذي وصلته والمهمة التي تنجزها، وهي: الذكاء الاصطناعي الضيق والذكاء الاصطناعي العام والذكاء الاصطناعي الفائق
تعددت الأهداف والغايات التي وجد لأجلها الذكاء الاصطناعي، لكن جميعًا تنحصر في شيئين، يقول أوليفر تيرل، رئيس قسم الأبحاث في “The AI Corporation”: “الذكاء الاصطناعي وجد لغايتين: حل المشكلات التي تتطلب الكثير من الجهد اليدوي المتكرر والمعقد في كثير من الأحيان، أو لحل المشكلات التي لا يمكن للبشر حلها.
تم تقسيم الذكاء الاصطناعي إلى ثلاثة أقسام نسبة لمستوى الذكاء الذي وصلته والمهمة التي تنجزها، وهي: الذكاء الاصطناعي الضيق والذكاء الاصطناعي العام والذكاء الاصطناعي الفائق، وتتناول هذه المادة شرح مبسط لهذه الأقسام الثلاث.
الذكاء الاصطناعي الضيق (ANI)
هو أكثر أنواع الذكاء الاصطناعي انتشارًا، حيث نجده في كل التكنولوجيا المتوافرة اليوم، من تطبيقات الإنترنت إلى تحليل البيانات الضخمة، ينبع هذا الاسم من حقيقة أن هذا النوع من الذكاء يتم إنشاؤه لأداء مهمة واحدة فقط، لذا انحساره في مهمة واحدة وعدم تعديه لأداء مهام أخرى كانت سببًا في إطلاق هذا الاسم، في بعض الأحيان يطلق عليه اسم “الذكاء الاصطناعي الضعيف”.
عند تصفحك لتطبيق YOUTUBE أو NETFLIX وتشاهد مقاطع فيديو مقترحة، فأعلم أنها إحدى خوارزميات الذكاء الاصطناعي الضيق، كذلك برامج تصفية البريد الإلكتروني والرسائل المزعجة هي أيضًا من تطبيقاته، يضاف لها قائمة طويلة جدًا من البرمجيات لا يتسع المجال لحصرها.
السبب في أن نعدها من الذكاء الاصطناعي الضيق، أن هذه الآلات رغم تطورها، لم تصل بعد لدرجة تحاكي ذكاء الإنسان
ومن الأجهزة المادية التي نتعامل معها وتعمل بنفس نوع الذكاء، المساعدون الصوتيون أمثال سيري وأليكسا. قد يفترض البعض أن هذه الأدوات ليست “ضعيفة” بسبب قدرتهم على التفاعل معنا ومعالجة اللغة البشرية، ولكن السبب في أننا نعدها من الذكاء الاصطناعي الضيق، أن هذه الآلات رغم تطورها، لم تصل بعد لدرجة تحاكي ذكاء الإنسان، فهي تفتقر إلى الوعي الذاتي والذكاء الحقيقي لمضاهاة الذكاء البشري، بمعنى آخر، لا يمكنهم التفكير بأنفسهم.
فعلى سبيل المثال، عندما نتحدث مع سيري، فإن سيري ليست آلة واعية تستجيب لاستفساراتنا، بدلًا من ذلك، ما تستطيع القيام به – ما تم تصميمها للقيام به – هو معالجة اللغة البشرية، وإدخالها في محرك بحث جوجل، والعودة إلينا بنتائج.
عندما نسأل سيري عن حالة الطقس في الخارج، نحصل على استجابة دقيقة، ذلك لأن الإجابة عن هذا نوع من الأسئلة من صميم ما تم برمجة سيري عليه
هذا ما يفسر لماذا عندما نطرح أسئلة مجردة عن أشياء مثل معنى الحياة أو كيفية التعامل مع مشكلة شخصية مع Siri أو Google Assistant، نحصل على ردود غامضة لا تكون منطقية في كثير من الأحيان، أو نحصل على روابط لمقالات منشورة على الإنترنت تعالج هذه الأسئلة، بينما من ناحية أخرى، عندما نسأل سيري عن حالة الطقس في الخارج، نحصل على استجابة دقيقة، ذلك لأن الإجابة عن هذا نوع من الأسئلة من صميم ما تم برمجة سيري عليه.
فوائد الذكاء الاصطناعي الضيق
يعد هذا النوع من الذكاء بحد ذاته إنجازًا رائعًا في الابتكار البشري، حيث تستطيع أنظمة ANI معالجة كميات هائلة من البيانات وإكمال المهام بوتيرة أسرع بكثير من أي كائن بشري، مما مكننا من تحسين الإنتاجية والكفاءة ونوعية الحياة بشكل عام.
فمثلًا، يمكن لأنظمة مثل Watson من إنتاج شركة IBM الاستفادة من قوة الذكاء الاصطناعي لمساعدة الأطباء على اتخاذ قرارات تعتمد على البيانات، وجعل الرعاية الصحية أفضل وأسرع وأكثر أمانًا.
كذلك قدم لنا الذكاء الاصطناعي الضيق مساعدة كبيرة لتولي الأعمال الروتينية المملة، التي تحتاج لإعادة التكرار مرات عديدة قد يفشل البشر في إتمامها.
الذكاء العام الاصطناعي (AGI)
يشير مصطلح الذكاء الاصطناعي العام أو الذكاء الاصطناعي “القوي” إلى الآلات التي تظهر مستوى ذكاء قريب من الذكاء البشري، بمعنى آخر، يمكن أن تؤدي AGI بنجاح أي مهمة فكرية يمكن للإنسان القيام بها.
هذا النوع من الذكاء يجعلنا متفوقين على الآلات، لكن من الصعب تحديدها لأنها مدفوعة في المقام الأول بقدرتنا على أن نكون مخلوقات عاطفية، لذلك، إنه أمر يصعب تكراره في الأجهزة
هذا هو نوع الذكاء الاصطناعي الذي نراه في أفلام مثل “Her” أو أفلام الخيال العلمي الأخرى التي يتفاعل فيها البشر مع الآلات وأنظمة التشغيل التي تكون واعية وعاطفية وتحركها المشاعر والأحاسيس.
حاليًّا، الآلات قادرة على معالجة البيانات بشكل أسرع مما نستطيع، ولكن كبشر، لدينا القدرة على التفكير بشكل مجرد، ووضع إستراتيجيات، والاستفادة من أفكارنا وذكرياتنا لاتخاذ قرارات مستنيرة أو الخروج بأفكار خلاقة.
هذا النوع من الذكاء يجعلنا متفوقين على الآلات، لكن من الصعب تحديدها لأنها مدفوعة في المقام الأول بقدرتنا على أن نكون مخلوقات عاطفية، لذلك، إنه أمر يصعب تكراره في الأجهزة.
من المتوقع أن يكون AGI قادرًا على التفكير وحل المشكلات واتخاذ القرارات في ظل اليقين والتخطيط والتعلم ودمج المعرفة السابقة في صنع القرار وأن تكون مبتكرة ومبدعة وخلاقة، ولكن حتى تتمكن الآلات من تحقيق ذكاء حقيقي يشبه الإنسان، ستحتاج إلى أن تكون قادرة على تجربة الوعي.
هذا السيناريو من شأنه أن يؤدي إلى واحدة من العديد من النتائج المحتملة المختلفة، أحدها سيكون ما يطلق عليه ريموند كورزويل، مدير الهندسة في جوجل، “التفرد“، فمن وجهة نظر كورزويل، أنه بحلول عام 2029 سيحقق نظام الذكاء الاصطناعى ذكاءً مقاربًا لمستوى ذكاء الإنسان، وبحلول عام 2045، يتوقع أن يحدث التفرد التكنولوجي، حيث سيكون البشر قادرين على توصيل قشرة المخ الحديثة لديهم مع شكل من أشكال نظام التخزين على الأرجح قائم على السحابة أو ربما مرتبط بالحمض النووي.
مثل أي تقنية أخرى، فإن الذكاء الاصطناعي سيف ذو حدين، وفقًا لما قاله المستقبلي راي كورزويل، إذا حدث التفرد التكنولوجي، فلن يكون هناك سيطرة على الآلات
سنكون قادرين على مضاعفة ذكائنا بمليار ضعف من خلال الربط اللاسلكي من القشرة المخية الحديثة إلى قشرة مخية صناعية في السحابة، هذا سوف يسبب أساسًا خلطًا بين البشر والآلات، لن نتمكن فقط من الاتصال بالآلات عبر السحابة، بل سنكون قادرين على الاتصال بالقشرة المخية لشخص آخر، هذا يمكن أن يعزز التجربة الإنسانية الكلية ويسمح لنا باكتشاف مختلف جوانب الإنسانية غير المستكشفة.
في هذه المرحلة سوف تندمج كيانات الذكاء الاصطناعي مع الوعي الإنساني، مما يحقق فوائد هائلة للقوة المعرفية للجنس البشري.
ولكن مثل أي تقنية أخرى، فإن الذكاء الاصطناعي سيف ذو حدين، وفقًا لما قاله المستقبلي راي كورزويل، إذا حدث التفرد التكنولوجي، فلن يكون هناك سيطرة على الآلات وبدلًا من ذلك سنكون قادرين على التعايش مع الذكاء الاصطناعي في عالم حيث تعزز الآلات قدرات الإنسان.
لكن الحقائق المتوافرة تشير إلى أن هذا لا يزال حقيقة بعيدة المنال، حيث إن الأدوات اللازمة لإنشائها غير متوافرة اليوم.
يجادل الكثيرون بأن الشبكات العصبية وسيلة يمكن الاعتماد عليها لخلق رواد لما يمكن تسميته بالذكاء الاصطناعي العام، لكن واقع الحال أن الذكاء البشري لا يزال صندوقًا أسود، بينما نحن كبشر بدأنا في فك رموز الأعمال الداخلية لعقولنا، لكن ما زلنا بعيدين عن اكتشاف معنى “الذكاء“، بالإضافة إلى هذه العقبة، تعد الحاجة إلى تعريف “الوعي“ جزءًا لا يتجزأ من إنشاء الذكاء الاصطناعى العام.
لعل أبرز تقنيتان يعمل عليها العلماء وقد تفتحا أبواب نحو الذكاء الاصطناعي العام، هما تقنية التعلم الآلي والتعلم العميق
تمكن العلماء إلى الآن من تطوير عمل الخوارزميات لتحاكي عمل دماغ “الدودة المسطحة”، التي تملك 302 خلية، فإذا أرادوا محاكاة الدماغ البشري فيتوجب تطوير عمل الخوارزميات لتحاكي عمل أكثر من 100 مليار خلية!
لعل أبرز تقنيتان يعمل عليهما العلماء وقد تفتحا أبواب نحو الذكاء الاصطناعي العام، هما تقنية التعلم الآلي والتعلم العميق، التي تتيح لأنظمة الحاسوب تعلم مهارات وتطويرها ومن ثم تجربتها مع تصحيح الخطأ، ترتكز هاتان التقنيتان على كمية البيانات الكبيرة المتوافرة اليوم، التي تزداد بشكل مطرد من خلال استخدام البشر للإنترنت بصورة عامة وأجهزة إنترنت الأشياء بشكل خاص، إضافة لتطبيقات التواصل الاجتماعي.
الذكاء الاصطناعي الفائق (ASI)
يعرف الفيلسوف في أكسفورد Nick Bostrom الذكاء الخارق بأنه: أي فكر يتجاوز الأداء المعرفي للبشر في جميع مجالات الاهتمام تقريبًا.
الذكاء الفائق الاصطناعي (ASI) سيتجاوز الذكاء البشري في جميع الجوانب من الإبداع إلى الحكمة إلى حل المشكلات. ستكون الآلات قادرة على إظهار الذكاء الذي لم نره، هذا النوع من الذكاء الاصطناعي يقلق الكثير من الناس، ويعتقد أناس مثل أيلون موسك أنه سيؤدي إلى انقراض الجنس البشري.
وفقًا لقانون مور، يجب أن تتضاعف القوة الحسابية كل عامين على الأقل، مما يشير إلى أنه قد لا يكون هناك حد لقوة التكنولوجيا في نهاية المطاف
وهو خطوة أبعد من AGI، حيث تتجاوز الذكاء الاصطناعي القدرات البشرية، نظرًا لأن ASI لا تزال افتراضية، فلا توجد حدود حقيقية لما يمكن أن تنجزه ASI، من بناء تقنية النانو إلى إنتاج الأشياء إلى منع الشيخوخة.
وفقًا لقانون مور، يجب أن تتضاعف القوة الحسابية كل عامين على الأقل، مما يشير إلى أنه قد لا يكون هناك حد لقوة التكنولوجيا في نهاية المطاف.
ستحتاج ASI إلى كمية استثنائية من البيانات، حيث يعتقد البعض أن استخدام الهندسة الوراثية لإنشاء مجموعة فائقة الذكاء من البشر أفضل رهان للوصول إلى ASI، بينما يفترض آخرون أن ASI ستشمل جيلًا جديدًا من أجهزة الكمبيوتر العملاقة.
في حين أن الذكاء الفائق لا يزال نظرية في هذه المرحلة الزمنية، فقد تم بالفعل تصور الكثير من السيناريوهات التي تنطوي عليها، هناك إجماع مشترك بين العاملين في هذا المجال على أن سوف تأتي من النمو الهائل لخوارزميات الذكاء الاصطناعي والمعروفة باسم انفجار الذكاء.
على الرغم من أننا بعيدون عن ASI، فإن الباحثين يتوقعون أن تكون القفزة من AGI إلى ASI قصيرة، لا أحد يعرف حقًا متى سيصل أول نموذج حياة للكمبيوتر.
مخاوف
مع استمرار الذكاء الاصطناعى في شغل المزيد من الوظائف، هناك نقاشات كبيرة عن أخلاقيات الذكاء الاصطناعي وما إذا كان ينبغي على الحكومات التدخل لمراقبة النمو وتنظيمه، يمكن لأنظمة الذكاء الاصطناعي أن تحول العلاقات الإنسانية وتزيد التمييز وتغزو الخصوصية الشخصية، وتشكل تهديدات أمنية من خلال أسلحة مستقلة.
قال الفيزيائي الراحل ستيفن هوكينج: “نحتاج إلى المضي قدمًا في تطوير الذكاء الاصطناعي، لكننا بحاجة أيضًا إلى إدراك أخطاره الحقيقية للغاية، أخشى أن يحل الذكاء الاصطناعي محل البشر تمامًا، وإذا قام الأشخاص بتصميم فيروسات الكمبيوتر، فسيصمم شخص ما الذكاء الاصطناعي الذي يتفوق على البشر ويسبب مخاطر جمة على البشرية”.