مع انتشار ثقافة الشركات الناشئة في الأسواق العالمية كافة، ازدادت عمليات الاندماج والاستحواذ حتى أصبحت جزءًا أساسيًا من المشهد الاقتصادي، وهي مفاهيم ظهرت نتيجة لجميع التطورات التكنولوجية والمعايير التنافسية التجارية التي اختلفت مع ظهور العولمة والحرية الاقتصادية. فعلى مدى السنوات الـ11 الماضية، حدثت أكثر من 500 ألف صفقة اندماج واستحواذ، وشهد العام الماضي وحده نحو 50 ألف عملية بقيمة تتجاوز الـ2.6 تريليون دولار، أما فيما يخص منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تحديدًا، وصلت قيمتها إلى 26.7 مليار دولار مقارنة بـ15.8 مليار دولار في العام 2017، بزيادة كبيرة تُقدر بـ68%.
ولكن مؤخرًا، ذكرت بيانات من شركة “رفينيتيف” بأن عمليات الاندماج والاستحواذ انخفضت في جميع أنحاء العالم بنسبة 16% على أساس سنوي إلى 729 مليار دولار في الربع الثالث من العام الحاليّ، بسبب مخاوف المستثمرين من تبعات الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، وذلك مع وجود الدول الأوروبية كاستثناء، حيث بلغ نشاط الاندماج والاستحواذ 249 مليار دولار، بزيادة أكثر من 45% مقارنة بنفس الفترة من عام 2018، وغالبًا ما تحدث في قطاعات مثل التكنولوجيا والرعاية الصحية والسلع الاستهلاكية.
الفرق بين الاندماج والاستحواذ
يُعرف الاندماج باتحاد شركتين أو أكثر، بحيث تختفي إحدى الشركات من السوق والسجل التجاري بعد أن تستوعبها الأخرى، حيث ينتج بدلًا عنها كيان جديد، وقد يحدث الاندماج إما عن طريق الضم، أي بحل شركة وإزالة كيانها القانوني بشكل تام ونقل أموالها وأصولها إلى الشركة الجديدة، وإما عن طريق المزج وهو حل شركتين قائمتين وتأسيس شركة من الصفر.
وغالبًا ما تتم هذه العملية بين الشركات الصغيرة أو المتوسطة التي تسعى لتوسيع حجمها في السوق وزيادة مزاياها التنافسية، من خلال استغلال الخبرات والتقنيات التكنولوجية ورؤوس الأموال التي تمتلكها كلا المؤسستين، من أجل الصمود بالسوق والتغلب على التحديات والمشاكل التي قد تواجهها.
كما تختلف أنواعها باختلاف أهدافها، ويمكن حصرها بـ3 أنواع: أولها الاندماج الأفقي، يحدث بين شركتين تتنافسان في نفس المجال التجاري وعادةً ما يكون هدفها توسيع حصتها السوقية وزيادة أرباحها المادية. النوع الثاني، يُعرف بالاندماج الرأسي ويعني ضم مؤسستين تعملان في أنشطة اقتصادية مكملة، لخفض مصاريف معينة، مثل اندماج شركة تصنيع البترول مع شركة شحن لتقليل تكاليف النقل. أما النوع الثالث فهو الاندماج المتنوع ويتم بين شركات لها أنشطة اقتصادية مختلفة وتكون بهدف زيادة تنوع المنتجات وتوسيع حجمها في السوق.
عملية الاستحواذ تحدث في الغالب بين الشركات التي تمتلك رؤوس أموال ضخمة وتستخدم تقنيات تكنولوجية متقدمة في نماذج أعمالها، وليست بحاجة للاندماج الودى لحماية وجودها في السوق أو ما يحتويه من مخاطر
أما الاستحواذ أو الاندماج غير الودي كما يطلق عليه، يحدث عندما تحصل شركة واحدة على حصة الأغلبية في الشركة المستهدفة وتسيطر عليها سيطرة مالية وإدارية كاملة، وعادةً ما تحتفظ باسمها وهيكلها القانوني، مثل استحواذ شركة أمازون العالمية للتجارة الإلكترونية، على مجموعة “هول فودز” للأطعمة العضوية، إذ حافظت الأخيرة على اسمها واستمرت في نشاطها التجاري كالسابق.
جدير بالذكر أن عملية الاستحواذ تحدث في الغالب بين الشركات التي تمتلك رؤوس أموال ضخمة وتستخدم تقنيات تكنولوجية متقدمة في نماذج أعمالها، وليست بحاجة للاندماج الودي لحماية وجودها في السوق أو ما يحتويه من مخاطر وعراقيل، بل تتخذ هذه الخطوة رغبةً في اقتحام أسواق جديدة أو الهيمنة على نماذج الأعمال التي تعمل في نفس مجالها.
بصفة عامة، يمكن تلخيص الفرق بين كلا العمليتين عبر العرض الممنوح، فإذا كان المقابل مالًا وليس حصةً، تعتبر العملية استحواذًا وليس اندماجًا، وإذا كان العكس فهو اندماج، أما الفرق الثاني يكمن في الخطوة التالية من العملية، فإذا تم إنشاء شركة جديدة تعد العملية اندماجًا وإذا لم تحل الشركة تكون استحواذًا.
متى تحدث عمليات الاستحواذ؟
بحسب العرف الاقتصادي، تمر كل الشركات، بصرف النظر عن حجمها ونوعها، بمراحل التطور ذاتها وعلى نفس الترتيب التالي: مرحلة التأسيس (البداية) ومرحلة النمو ومرحلة النضج ومرحلة الانحدار، وما يهمنا في حديثنا هي مرحلة النضج لأنه في كثير من الأحيان تحدث عمليات الاستحواذ في مرحلة النضج من دورة حياة الشركات، فعلى الرغم من استقرار الشركة وقدرتها على الاستمرارية، فإنها لا تملك طريقة للتطور وزيادة نموها إلا بالحصول على حصة سوقية من منافس آخر.
أما فيما يتعلق بالاندماج فيحدث في نفس المرحلة أو بمرحلة الانحدار حين تبدأ مبيعات وأرباح الشركة بالانخفاض والركود، ولا يبقى أمامها إلا خيار الدمج لكي تمدد دورة حياة أعمالها من خلال إعادة اختراع أو خلق نفسها في السوق.
ما الذي تكسبه الشركات من الاستحواذ؟
الاستفادة من المواهب والخبرات القيادية
في بعض الحالات، يريد اللاعبون الكبار امتلاك موهبتك وقدرتك على إدارة سيرورة العمل أكثر من رغبتهم في الاستحواذ على نموذج العمل بحد ذاته، ولذلك نلاحظ أن الكثير من صفقات الاستحواذ انتهت بتوظيف المؤسس في الشركة المستحوِذة، مثلما حدث مع مؤسس شركة “جت كوم” للتجارة الإلكترونية، مارك لور، الذي حاربت كل من شركتي “أمازون” و”وول مارت” للاستحواذ على شركته وتعيينه لديها، طمعًا في كفاءته وموهبته في القيادة والتطوير.
وما يزيد هذا الجانب أهمية التقديرات التي تشير بأن الاستثمار السيء في الأشخاص يكلف الشركة ما بين 50% إلى 60% من الراتب السنوي للموظف، ولذلك يقول 83% من أصحاب الشركات بأن العثور على الموهبة المناسبة على رأس أولوياتهم.
احتكار السوق
عادةً ما ترغب شركات التكنولوجيا العملاقة في تقديم سلع رقمية جديدة أو الوصول إلى شرائح متنوعة من الزبائن والمستخدمين ونظرًا لرغبتهم في التوسع في أسواق مختلفة، يلجأون إلى الاستحواذ على أصول الشركات الأخرى، لكن في نطاق نفوذهم، بحيث يكونون قادة السوق الأنجح من ناحية المبيعات وقيمة العلامة التجارية وعلاقاتهم مع العملاء.
تميل الشركات الكبرى إلى الاستحواذ على المنصات التي يكون لديها فريق إداري ذو خبرة وقدرة على متابعة العمليات اليومية بعد الاستحواذ، تجنبًا لتكاليف عمليات التسريح والتوظيف الجماعية، وتقليلًا للمخاطر المتوقعة من إنتاج منتج رقمي جديد
كما تميل الشركات الكبرى إلى الاستحواذ على المنصات التي يكون لديها فريق إداري ذو خبرة وقدرة على متابعة العمليات اليومية بعد الاستحواذ، تجنبًا لتكاليف عمليات التسريح والتوظيف الجماعية، وتقليلًا للمخاطر المتوقعة من إنتاج منتج رقمي جديد. مثل شركة فيسبوك التي استولت على منصات شهيرة وناجحة مثل “واتساب” و”إنستغرام” وأبقت موظفيها الرئيسيين، آملة أن تصبح منصة التواصل الاجتماعي الأكبر والأهم في السوق.
الاستيلاء على الزبائن
أشرنا سابقًا في تقرير باسم “هل تسابق “علي بابا” شركة “أمازون” على السوق التركي؟”، على “نون بوست”، عن سباق شركتي “علي بابا” الصينية و”أمازون” الأمريكية على التوسع في أسواق مختلفة من بلدان العالم لزيادة رصيد المستخدمين والزبائن لديهم، وتحديدًا داخل السوق التركية، ففي الوقت الذي استحوذت فيه “أمازون” على متجر بيع الزهور والهدايا عبر الإنترنت في تركيا، وتبعه إعلان آخر عن خطتها في فتح فرع لها في تركيا بعد زيارة وفد لها ودراستهم للسوق بشكل معمق ولقاء بعض المختصين، سارعت الشركة الصينية في شراء حصة استثمارية في منصة “ترينديول” التركية للتجارة الإلكترونية، وهي ما اعتبرها الخبراء أكبر صفقة تجارية في تركيا بقطاع الاقتصاد الرقمي.
أن تركيا مثيرة للاهتمام بشكلٍ كبير خاصة فيما يتعلق بأهمية سوقها عند تقييم الاقتصاد الرقمي، لا سيما أن سوقها يشمل نحو 80 مليون نسمة، 50% منهم دون سن الـ30، ما يعني أنها تمتلك قدرة شرائية أو استهلاكية كبيرة
فلقد رأى رئيس مجلس إدارة مجموعة علي بابا مايكل إيفانز أن تركيا مثيرة للاهتمام بشكلٍ كبير خاصة فيما يتعلق بأهمية سوقها عند تقييم الاقتصاد الرقمي، لا سيما أن سوقها يشمل نحو 80 مليون نسمة، 50% منهم دون سن الـ30، ما يعني أنها تمتلك قدرة شرائية أو استهلاكية كبيرة. مع العلم أن “ترينديول” وحدها تضم أكثر من 16 مليون زبون وتبيع نحو 20 مليون قطعة سنويًا.
استنساخ نموذج التوزيع والتوريد
بينما كانت شركة “جيليت” تنافس شركة “يونيلفير” للهيمنة على سوق أدوات التجميل الرجالية وشفرات الحلاقة، اشترت الأخيرة شركة “نادي دولار شايف” مقابل مليار دولار أمريكي عام 2016، وهي شركة ناشئة، متخصصة في صناعة أمواس الحلاقة، متوسطة الجودة، لكن صيتها الواسع انتشر بفضل سرعتها القياسية في إرسال منتجاتها للزبائن وبتكلفة لا تزيد على دولار واحد، ما خلق لديها قاعدة كبيرة من المستخدمين الأوفياء والدائمين منذ تأسيسها عام 2012، وعلى ذلك، رأت “يونيلفير” أن الاستحواذ عليها خيارها الأمثل للفوز في حربها مع “جيليت”.
بالنهاية لا يمكن التأكد بشكل تام من نجاح عمليات الاندماج والاستحواذ، ففي كثير من الحالات، تواجه الشركات صعوبة في الاندماج داخليًا من الناحية العملية أكثر مما يبدو من الناحية النظرية، كما قد تتكبد الشركة المُستحوِذة تكاليف هائلة من أجل تحقيق أهداف معينة عبر عملية الاستحواذ والاندماج ولكنها قد لا تلبي توقعاتها بالشكل المتوقع.