نظرة سريعة إلى شوارع المدن السورية بين حدائق ومحال تجارية ومواصلات عامة سيلحظ الناظر الوجود الطاغي للنساء والأطفال وسط غياب واضح للرجال أو الشباب. مشهد يلخص عمق الأزمة التي تعيشها سوريا منذ ما يقارب الـ 5 سنوات أدت إلى ظهور مشاكل تشبه ما أنتجته الحرب العالمية الثانية من خلل في التقسيمة الاجتماعية للمجتمع وتبدل في الأدوار بين رجال ونساء وأطفال. إلا أن للأمر تبعات أخرى باتت أوضح وأكثر تأثيرًا في سوق العمل وتوافر الأيدي العاملة.
وقد لعبت الكثير من الأسباب والظروف في تحول هذا الوضع إلى أزمة حقيقية في البلاد أبرزها موجة الهجرة الكبيرة التي حدثت ما بين عاميّ 2015 و 2016 إذ تقدر أعداد اللاجئين السوريين الذين لجئوا إلى دول الاتحاد الأوروبي بـ 6 مليون شخص في عام 2015 فقط.
إضافًة لانخفاض الأجور والمرتبات الشهرية إلى أكثر من النصف في كل قطاعات العمل وباختلافها بالتزامن مع ارتفاع أسعار الحاجات الأساسية للعيش نتيجة الضعف الاقتصادي الذي تعيشه البلاد والذي يعدّ سببًا مهمًا بالنسبة للكثير من الشباب في التفكير بالهجرة والبحث عن مكان آمن تتوافر فيه فرص للعيش.
بينما يشكل خوف الرجال والشباب ما بين 15- 30 سنة من حملات التجنيد العسكرية التي يشنها النظام تحت مسمى التجنيد الإجباري، السبب الأكبر في التسبب بأزمة ديموغرافية غير مسبوقة انعكست على الكثير من جوانب الحياة الاجتماعية في المجتمع السوري.
تداعيات نقص الأيدي العاملة
يمكن تقسيم الجوانب التي تأثر بها نقص الأيدي العاملة إلى عدة جوانب منها تأثيره على الحالة الاقتصادية للبلاد وتفشي عمالة الأطفال بشكل غير قابل للحدّ أو السيطرة بالتزامن مع غياب الاهتمام المؤسساتي الداعم لحقوق الطفل ودخول المرأة إلى سوق الأعمال أو المهن الشاقة أو حتى فكرة العمل خارج البيت ككل وهو ما لم يكن مقبولًا لدى شريحة كبيرة من المجتمع السوري “المنغلق بشكل خاص”.
القطاع الاقتصادي
بالرغم من أن أهمية قطاع الصناعة أو التجارة “من حيث ثقله” في الناتج المحلي الإجمالي السوري إلى جانب قطاع الزراعة إلا أنه لا يشكل عنصرًا أساسيًا من عناصر استقرار الاقتصاد السوري بل له دور كبير في تحفيز المزيد من الإنتاج في قطاعات أخرى وخلق فرص عمل ووظائف أكبر بداية من المهن اليدوية نهايًة بالاستثمار والابتكار.
إلا أن قيمة الضرر والدمار اللذين لحقا بقطاعي الصناعة والتجارة العام والخاص في سوريا وصلت إلى ما يقارب 3 إلى 4.5 مليارات دولار في أوائل عام 2019 نتيجة لتراجع عدد المنشآت الصناعية التي كانت عرضًة للقصف والتدمير أو حتى الإفلاس نظرًا لارتفاع أسعار المواد الأولية وعزوف الناس عن شراء الكثير من المواد التي تعتبر من المكملات حتى وصلت أعداد المنشآت الموجودة حاليًا إلى 65 ألفًا فقط على عكس ما كانت عليه في السابق 130 ألف شركة قبل اندلاع الثورة عام 2011 مما جعل من وجود فرصة عمل فكرًة أشبه إلى المستحيل.
كان لدي ما يقارب 200 عامل داخل المصنع بينما وصل الأمر بي في النهاية إلى 40 عاملًا فقط ولا يستطع جميعهم الحضور يوميًا لأسباب مختلفة أغلبها تتعلق بالآمن
إذ في تصريح سابق لمدير سياحة حلب، باسم الخطيب لموقع وكالة الشام الإخبارية، تحدث فيه عن نقص الأيدي العاملة في مدينة حلب على وجه الخصوص قائلًا “إن النهضة السريعة في عودة وإقلاع المنشآت السياحية للعمل في حلب، أدت إلى انكشاف واقع سوق العمل والنقص الحاد في الخبرات المحترفة في المجال السياحي الذي يتطلب أيدي ماهرة ومدربة، بينما هناك محاولات من مديرية السياحة للإعلان عن دورات تدريبية لكل التخصصات لسدّ هذه الفجوة”.
وقد حاولنا في “نون بوست” الحديث مع بعض من أصحاب الأعمال التجارية والصناعية في سوريا للحديث عن حقيقة نقص الأيدي العاملة وأسبابها من وجهة نظر أرباب الأعمال فيقول منير (41) عامًا وهو صاحب معمل بلاستيك في ريف مدينة حمص “لقد كنت محظوظًا لعدم تعرض عملي إلى التدمير بشكل كامل خلال الـ 9 سنوات الماضية إلا أن غياب الأيدي العاملة نتيجة لارتفاع أسعار المعيشة ومطالبة العاملين بزيادة الرواتب دفعني لإغلاق المعمل ونقل كافة الماكينات والأجهزة إلى لبنان” فيما يضيف “كان لدي ما يقارب 200 عامل داخل المصنع بينما وصل الأمر بي في النهاية إلى 40 عاملًا فقط ولا يستطع جميعهم الحضور يوميًا لأسباب مختلفة أغلبها تتعلق بالآمن”.
دخول المرأة إلى سوق العمل
فرضت السنوات الـ 9 الماضية على أبناء المجتمع السوري في الداخل والخارج الكثير من التحديات الجديدة وعلى الجنسين من النساء والرجال معًا دون استثناء. ولكن هذه التحديات لم تكن جيدة في معناها الإيجابي دائمًا على كل فئات المجتمع إذ أنها أحضرت معها وللنساء بشكل خاص نوعًا من المعاناة التي لم تكن موجودًة في المجتمع السوري إلا بالأعداد القليلة التي يمكن لها أن توجد في أيّ مجتمع آخر ألا وهي عمالة النساء وعملهن في مهن صعبة أغلب الأحيان. فوفقًا للمركز السوري للأبحاث السياسية، متوسط العمر للذكور في سوريا انخفض من 70 عامًا في عام 2010 إلى 48 عامًا في 2015.
فلا يكاد يخلو رصيف من أرصفة دمشق إلا وسترى به بائعة سجائر أو مؤونة أطعمة أو حتى ملابس وأشياء مستخدمة بهدف إعالة نفسها أو حتى عائلتها فقد أصبحت الكثير من العائلات تعتمد وبشكل رئيسي على المرأة كمعيل وحيد بالأخص تلك التي فقدت عددًا كبيرًا من الذكور إذ أشار أحد مراكز الدراسات إلى أن معدل ريادة الأعمال لدى الإناث ارتفع من 4 في المائة في عام 2009 إلى 22 في المائة في عام 2017.
إمرأة تبيع الطعام في شوارع دمشق 3/6/2019
حتى قد اضطرت بعضهن لمزاولة مهن أزواجهن كقيادة عربات لجمع البلاستيك في الشوارع أو قيادة شاحنات النقل لساعات طويلة قد تجبر أحيانًا على جلب أطفالها معها في حال لم يكن لديها معين أو عائلة تساعدها داخل البلد، أو كلجوء بعضهن للعمل في ورشات الحدادة والنجارة وإدارتها بدل زوجها او ابنها المعتقل وهو ما أثار استهجان البعض إذ تختلف نظرة المجتمع السوري وتعامله مع المرأة العاملة من مكان إلى آخر بين القرية والمدينة فما زال هناك من يرى الأمر شيئًا غير مقبولًا يمكن حلّه بزواج المرأة من رجل _ حتى وإن كان متزوجًا في الأصل _ آخر قادرًا على أن يعيلها وهو ما بات منتشرًا أكثر من ذي قبل.
بدأت فرص الفتيات تتضائل في إيجاد الشريك المناسب أو حتى الدخول في علاقة جدية وهو ما لا توفره لا البيئة ولا الظروف
وللأمر انعكاسات أخرى لا تنتهي هنا فقد سجل انخفاض حادّ في معدلات الزواج وتكوين الأسرة في سوريا بشكل كبير إذ بدأت فرص الفتيات تتضائل في إيجاد الشريك المناسب أو حتى الدخول في علاقة جدية وهو ما لا توفره لا البيئة ولا الظروف حتى وإن كان الشريك متوافرًا.
وقد أدت كل هذه التغيرات الطفيفة والتحديات الفردية مجتمعة إلى ظهور تغيّر واضح في التقسيمة الاجتماعية للبلاد فباتت أعداد النساء تتزايد في المعامل والمحال والشوارع بينما يكاد العنصر الذكري يختفي من الصورة، وقد قالت ريما قادري، سابقًا وهي وزيرة العمل والشؤون الاجتماعية “نعم لدينا الآن اختلال في النوع الاجتماعي في سوق العمل السوري فقد باتت النسبة المئوية للنساء أعلى من نسبة الرجال في كل أنحاء البلاد”.
عمالة الأطفال
أيضًا لم تكن النساء وحدهن ضحية الأعمال الشاقة والتحديات الجديدة التي فرضها واقع الحرب بل كان للأطفال النصيب الآخر في التعرّض لكافة أنواع الفقر والفقد والحرمان من التعليم وحتى العمالة لاحقًا تلك التي لم تعد أرقامها طبيعيًة أبدًا إذ تقدر نسبة الأطفال السوريين العاملين الآن بنحو 20% من إجمالي أعداد العمال في سوريا مما يشير إلى تزايد مهول في أعداد الأطفال غير الملتحقين بصفوف التعليم حسب ما قاله أكرم القش، عميد المعهد العالي للدراسات والبحوث السكانية في سوريا.
ومن بين الأعمال التي يضطر هؤلاء الأطفال لممارستها غالبًا ما تكون من النوع الشاق والمتعب والذي لا يتناسب مع قدرات الطفل. فأكثرهم يعمل في ورشات التصليح اليدوية في الزجاج أو تصليح السيارات أو العمل في أفران الخبز أمام مواقد النار لساعات طويلة، أما الشق الآخر الذي أصبح يتيمًا فغالبًا ما يتم إلحاقه بصفوف التشكيلات العسكرية المختلفة وهذا كله وسط غياب منظمات حقوق الطفل عن أرض الواقع.
عمالة الأطفال في سوريا
وقد حذرت منظمتيّ الأمم المتحدة “يونيسف” ومنظمة “سيف ذي تشيلدرن” غير الحكومية في تقرير قديم عام 2016 من تفاقم عمالة الأطفال السوريين مشيرين إلى زيادتها في السنوات المقبلة، إذ قالت المنظمتان في تقرير بعنوان “أيد صغيرة وعبء ثقيل” إن النزاع والأزمة الإنسانية في سوريا يدفعان بأعداد متزايدة من الأطفال ليقعوا فريسة الاستغلال في سوق العمل”.
وأشار التقرير إلى أن أربعة من كل خمسة أطفال سوريين يعانون من الفقر، كما أن الأطفال في خارج سوريا وداخلها يساهمون في إعالة أسرهم عند غالبية العائلات السورية حتى المقيمين منهم في مخيمات دول اللجوء اللبنانية أو الأردنية.
فيما تختلف أسباب انتشار هذه الظاهرة بين ظروف اقتصادية واجتماعية كالفقر والبطالة والدعارة والطلاق الذين انتشروا بكثرة في السنوات القليلة الماضية مسببين شرخًا كبيرًا داخل المجتمع وحتى العائلة نفسها الأمر الذي يثير مخاوفًا عديدة حول تزايد هذه الأرقام وخسارة أجيال كان من المفترض لها أن تحصل على حياة أفضل.