نهاية يناير/ كانون الماضي، صدَعَ الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، على الهواء مباشرة، في حضور طيف واسع من وسائل الإعلام، بكلمة تاريخيَّة ألهبت مشاعر الجماهير، حيث رفض بوضوح شديد ولغة جسد صارمة وحسن بيان، أيّ مخطط خارجي لهندسة قطاع غزة ديموغرافيًا، بعد اكتمال صفقة تبادل الأسرى بين حماس و”إسرائيل”.
في كلمته، دافع السيسي عن حق الفلسطينيين في إقامة دولة مستقلّة، على حدود 4 يونيو/ حزيران 1967، عاصمتها القدس الشرقيَّة، جنبًا إلى جنب مع “إسرائيل”، مُستَعينًا بمشهد عودة سكان غزة الذين اضطرّوا إلى النزوح جنوبا، فورًا إلى أطلال ديارهم في الشمال بمجرَّد وقف إطلاق النّار؛ للدلالة على الصلة الوثيقة بين الإنسان الفلسطيني وبين أرضه.
ذكَّر السيسي في نفس الخطاب بما أسماه “الظلم التاريخي” الذي تعرَّض له الفلسطينيّون. مؤكدًا رفضه المشاركة في ظلم جديد في حق هذا الشعب، بعد أكثر من 70 عامًا على النكبة الأولى، خاصة أنَّ الرأي العام الشعبي، في مصر والمنطقة، شديد الانحياز للقضيّة الفلسطينيَّة.
تلى ذلك إصدار الخارجيّة المصريّة سلسلة من البيانات البليغة المُعضِّدة لموقف السيسي، أولًا بأول على ضوء المستجّدات المتلاحقة؛ الأمر الذي لاقى استحسان شرائح معتبرة من المصريين، رأت في السيسي، ربما لأول مرّة، معبرًا عن صوتها وقيمها.
ووصلت حالة الانتشاء والسكْر جراء ذلك الموقف، إلى دعوة بعض النخب والمعارضة، لتنحية الخلافات السياسيَّة جانبًا، والاصطفاف مع النظام الحاكم في المعركة ضدّ ما أسموه بـ”التحالف الأمريكي الإسرائيلي” المناهض للمصالح المصرية.
ورغم جاذبيّة تلك الحالة النادرة من ذوبان الرأي العام في السّلطة، دفاعًا عن قضية أخلاقية في وجه عدو خارجي متغطرس؛ فإنّ قراءةً متعقِّلة للمعطيات على أرض الواقع، بعيدًا عن البروباغندا وسحر الكلمة وغواية البطولة، ربما لن تؤدّي بالضرورة إلى نفس النتيجة!
العجز المكتسب
خلال الحملة الوحشيّة الّتي شنّتها “إسرائيل” على غزة، بدعم نوعي من الولايات المتّحدة، ردًا على عمليّة السابع من أكتوبر، فيما عُرِف رسميًا بمعركة “السيوف الحديديّة” وفي بعض الكواليس العبريّة بـ “حرب يوم القيامة”، اتسم الأداء الرسميّ المصريّ بما قد يُفسَّر في علم النفس السياسي بـ”العجز المكتسب”.
يشير هذا المفهوم إلى حالة شديد الغرابة، نظريًا على الأقلّ. حيث تختار الذات السياسيّة طوعًا استظهار العجز، خلافًا لما يقتضيه الحال في تلك اللحظة من ضرورة الاستعلان بالقوّة ورباطة الجأش.
ويتعارض هذا الضعف الظاهري غير المبرّر من جانب الذات السياسيّة التي تبدي العجز، مرَّة مع آفاق الحركة المتاحة أمامها والمقطوع بتوافرها لديها، ومرَّة أخرى مع حقيقة بروز مخاطر جديّة تتطلّب منها وضعًا مغايرًا من الاستنفار والشراسة.
بلغةٍ أخرى أبسط، يحيل المفهوم إلى حالةٍ من التواطؤ على الذات، وهي السمة الرئيسة التي هيمنت على سلوك النظام السياسي المصريّ، وخطابه، منذ اللحظة الأولى لاندلاع معركة “طوفان الأقصى”.
فمع تعرّض تلك البقعة الصغيرة المحاصرة، التي يربطها بمصر تاريخ وجغرافيا ونسب ودين، وتعاني من أعلى معدل كثافة سكانية في العالم، إلى نمط إبادي غرائزيّ مستعار من العصور الوسطى، بأدوات تدمير حديثة، وتكالب عالميّ.
بدلًا من استخدام النظام، في ذلك الوقت، ثقل مصر في الإقليم وأدواتها الحاسمة لكبح “إسرائيل” عن الفتك بغزة وسكانها المضيومين، عبر حزمة متكاملة من الإجراءات، أقلها فتح المعبر الحدودي “رفح” بكامل قوته على مدار الساعة إنفاذًا للاحتياجات الإنسانيّة الحيويّة، انصاعت القاهرة مبكرًا إلى التهديد بقصف الشاحنات الإغاثية، حال عدم التزامها بالتعقيدات اللوجيستيّة الإسرائيلية.
كما ورد عن القناة 12 العبريّة، أبلغ الاحتلال عبر قنوات الاتصال الرسميَّة النظامَ المصري، بأنَّ حريّة الحركة التجاريّة والإغاثيَّة من رفح المصريَّة إلى رفح الفلسطينيَّة، مقيَّدة بالتدابير الإسرائيليَّة، محذرًا من استهداف القوافل غير الملتزمة بتلك الضوابط بالطائرات؛ وهو ما حدَّ من الإمدادات النافذة إلى القطاع طوال الحرب.
وفي تجسيد عملي لحالة “العجز المكتسب” والرضا بالضآلة تلك، كان وزير الصحّة المصريّ خالد عبد الغفار قد برّر دون خجل عدم استقبال الجرحى الفلسطينيين على نحو يتناسب مع حجم الفظائع في غزة، بأنّ هذا السلوك يأتي امتثالًا للقيود المفروضة من دولة ما – “إسرائيل” – على مصر في هذا الشأن.
كما لم يجد السيسي حرجًا في التصريح بأنّ قصف “إسرائيل” معبر رفح من الجهة الفلسطينيّة ما لا يقل عن 4 مرَّات، كان سببًا في تقليص عدد الشاحنات الإغاثيَّة المارَّة من مصر إلى غزة لنحو نصف كمياتها قبل الحرب.
معتبرًا أن حالة البؤس والكرب التي ضربت القطاع، بسبب العجز عن إنفاذ المساعدات الحيويّة، يجب أن تكون مدعاة للعِظة والاعتبار من المصريين، عند رفع سقف مطالبهم الاجتماعيَّة. فبدلًا من التطلّع إلى المزيد، على المصريين أن يشكروا اللّه أنهم أفضل حالًا من أهل غزة، وفقًا للسيسي.
ولم تنبس السلطات السياديّة المصريَّة ببنت شفاة احتجاجًا على استخدام “إسرائيل” وعدة دول غربية بينهم إيطاليا الأجواء المصريَّة في مهام الاستطلاع الحربي خلال عملياتها العسكريّة في غزة.
فقد أظهر تحقيق استقصائي مدعوم بالبيانات والأدوات مفتوحة المصدر، أنتجته “عربي بوست” فبراير شباط من العام الماضي، أنّ طائرة التجسس “بوينغ 707” المشغلة بواسطة سلاح الجو الإسرائيلي، اخترقت المجال الجوي المصري حتّى عمق 172 كم لأكثر من 100 مرَّة تقريبًا، خلال 4 أشهر.
ليشجّع هذا الانبطاح، فيما يبدو، الجانبَ الإسرائيلي على التمادي في التجاوزات، لا في حق القانون الدولي الإنساني والشّعب الفلسطينيّ في غزَّة فقط، وإنما في حقّ المصالح السياديَّة المصريَّة أيضاً، وهو ما وصل إلى ذروته مايو/ آيار 2024.
في هذا الشهر، نفَّذت حكومة نتنياهو تهديداتها، وكسرت “الخط الأحمر” الذي تبنّاه النظام المصريّ رسميًا، حينما شرعت في توسيع المناورة البرّيّة لتشمل رفح الفلسطينيَّة، بمحاذاة الحدود المصريَّة، وتدمير معبر رفح من الجانب الفلسطينيِّ بشكل كامل، مما أدّى إلى تعطيله من الجانب المصريّ.
توازيًا مع احتلال محور صلاح الدّين المعروف بـ”فيلادلفيا” بالمخالفة لتفاهمات 2005، وامتداد النيران الإسرائيلية من رفح الفلسطينيّة إلى نظيرتها المصريّة، لتقتل، دون أدنى اعتبار للتبعات، جنودًا من الجانب المصري، وصولًا إلى التقاط نتنياهو الصورة الأيقونيّة، جالسًا في غطرسة، واضعًا إحدى قدميه على الأخرى، برفقة جيشه، على مقربة من الحدود المصريّة.
حينئذ كتب محمود هدهود، الباحث المصريّ المعروف بقلمه الأكاديميّ الرّصين، أنّ “إسرائيل” قد نجحت، بسفور مبهر، في قطع النفوذ التاريخي المصري، وفصل القاهرة عن مصالحها الإستراتيجيَّة، مؤقتًا على الأقلّ، في غزَّة، مما كان يستدعي رداً مصرياً فورياً حازماً، وإعادة نظر في تعاطي النظام السياسي مع الأزمة بقطع العلاقات وتعليق التعاون الاقتصادي؛ وهو ما لم يحدث!
المشاركة في الإبادة؟
“لن ينسى المصريّون من وقف إلى جانبهم، ومن وقف ضدّهم” – عبدالفتّاح السيسي، في ردّ على سؤال عن موقفه من حركة حماس، خلال حملة ترشّحه لرئاسة الجمهوريّة عام 2014.
“يتمنّى السيسي أن تسقط حماس. إذ مصر في عهده، خلافا لمبارك، وبالطبع محمد مرسي، تعمل بيد من حديد ضدّ الإخوان المسلمين في غزة، لقطع إمدادات السلاح، عن طريق تدمير الأنفاق” ، حسب ما قاله يهودا بلنجا، أستاذ دراسات الشرق الأوسط في جامعة “بار إيلان” في نص لجريدة “معاريف” خلال حرب غزة 2014.
أما بوب وودوارد، في كتاب “الحرب”، الذي صدر تزامنًا مع معركة طوفان الأقصى، يقول: “لقد أخبر السيسي بلينكن، أنّ ما يهمه هو الحفاظ على السّلام مع إسرائيل، وعدم استخدام معبر رفح لاستقبال “عناصر إثاريّة” قد تستهدف إسرائيل من الأراضي المصريّة”.
ويبدو أنّ ممّا شجَّع ترامب، الرئيس الأمريكي شديد الانحياز لـ “إسرائيل” على طرح خطته للتهجير، لم يكن الخطّ الانسحابي غير الميّال للصدام مع الاحتلال، الَّذي تبنّته السّلطات المصريّة خلال الحرب على غزة، بصرف النظر عن الخسائر الإستراتيجيَّة والاقتصاديَّة، فقط.
وإنما أيضاً، على التوازي، معاينة دوائر صنع القرار العالميّة، والأمريكيّة بالطبع، إصرار السيسي على مدّ جسور الحياة والانتعاش إلى “إسرائيل” في ذروة الحرب، دون اكتراث بالانتقادات الحقوقيّة الدوليّة، أو تلك الصادرة همسًا على مواقع التّواصل وأزقة الشوارع في مصر.
لم تكتف القاهرة في عهد السيسي بابتلاع التجاوزات الإسرائيليّة وانتهاك الخطوط الحمراء، بل حرصت، للمفارقة أيضا، على الارتقاء بالعلاقات الاقتصاديّة والسياسيّة معها بما يفوق أوضاع فترة ما قبل الحرب، على نحو قد يفسر بكونه انحيازًا للاحتلال في معركته ضد غزة.
هذا ما تقوله الأرقام والإحصاءات والتحليلات الاستقصائيّة الموثقة عن نسق العلاقة بين مصر “وإسرائيل” خلال 15 شهرًا من العدوان.
فازدهرت حركة الشحن التجاري البحري، من موانئ مصر الشمالية، العريش وبورسعيد ودمياط والإسكندرية، إلى موانئ الاحتلال الواقعة على البحر المتوسط، وبالتحديد أشدود وحيفا.
وذلك استغلالًا للفرصة الاقتصاديّة المتاحة بعد تضرّر حركة التجارة في مسارها التقليدي من جنوب أسيا إلى إيلات عبر البحر الأحمر بسبب النشاط العسكري اليمني المساند لغزة عبر البحر؛ وبصرف النظر عن أي اعتبارات وكوابح أخلاقيّة.
تركزت حركة التجارة من الموانئ المصريّة إلى الأرصفة البحريّة الإسرائيليّة على المنتجات الغذائيَّة، حتَّى أنّ شركة “أوبال چوزي المحدودة” ومقرّها الرئيس في جنوب تل أبيب، استوردت 57 منتجًا غذائيًا، عبر الموانئ المصريّة، من 5 علامات تجاريّة مصريّة، خلال الحرب.
قد يقول قائل إن الحكومة المصريّة ليست شريكاً رئيساً في تلك المعاملات التجاريّة، بالنظر إلى كونها تتمّ عبر شركات خاصّة، وعمليّات تمويه ووساطة ووكالات تركز على الربح في المقام الأول، ولو كان من شركات إسرائيليّة، في خصم الحرب على غزة.
فالمصدّر شركة خاصّة، والمستورد من الجانب الآخر شركة خاصّة أيضاً، والدوافع ربحية؛ وذلك إذا غضضنا الطرف عن خروج البضائع من الموانئ الواقعة تحت السيادة المصريّة، بموجب قرار سلطوي باستمرار العلاقات الدبلوماسية والتجارية مع الاحتلال خلال الحرب.
ولكنّ الحكومة المصريّة نفسها بوضوح، دون وسطاء، هي من عملت على تعضيد وارداتها الطاقويّة من “إسرئيل” أثناء الحرب، تحت ذريعة الحدّ من انقطاع الكهرباء محليًا في فصل الصيف، وهو ما عزز دون شك، الخزانة الدولاريّة لحكومة الاحتلال.
أبرم النظام المصري اتفاقًا، في أكتوبر/ تشرين 2024، يهدف إلى زيادة استيراد الغاز الإسرائيلي بنسبة 20% تقريبا، وبحلول نوفمبر من نفس العام، كانت القاهرة قد استوردت ما يزيد على مليار قدم مكعب من الغاز الذي سرقته “إسرائيل” من باطن السواحل المحتلّة على المتوسّط.
ولم يقتصر الأمر على العلاقات التجاريّة، التي قد تكون مبرّرة بالأرباح في عالم طغيان المادّة على القيمة، وإنما امتدّ تعاون الطرفين خلال الحرب إلى المجال العسكريّ، والذي يتقاطع مباشرة مع العمليّات الإسرائيليّة على غزّة.
فبعدَ أن اخترقت طائرات الاستطلاع الإسرائيليّة أجواء سيناء خلال طلعاتها على غزة كما أشرنا سابقًا؛ استقبل الرصيف الخاص بالمجهود العسكري البحري للجيش المصري، رقم 22، في ميناء الإسكندريّة، شحنة أسلحة كانت في طريقها إلى “إسرائيل”.
ففي صباح 28 أكتوبر/ تشرين من العام الماضي، حطت السفينة “كاترين إم ڤي” المحمَّلة بـ 150 طنا من المتفجرات، والقادمة من ميناء هاي فونغ في فيتنام، رافعة علم ألمانيا، في ميناء الإسكندريّة.
وهي نفس السفينة التي رفضت دول أفريقيّة وأوروبيّة مثل أنجولا وناميبيا وسلوفينيا والبرتغال ومالطا استقبالها، نظرًا لعلاقتها بالحرب على غزة، في تأكيد قاطع جديد لهوية الطرف الذي انحاز له النظام المصري في تلك المعركة.
تداعي المقدّس أمام المال!
“واللَّه العظيم، أنا لو ينفع أتباع.. أتباع” هذا ما قاله عبدالفتّاح السيسي، مشيرًا إلى قابليَّة كلّ شيء للبيع، ولو كان ذلك ذاتَ الرئيس، من أجل تدبير متطلبات الحياة للمصريين، في ظلّ الأزمة الاقتصاديّة، على هامش منتدى الشباب 2016.
يقول السيسي: “من يريد التدخل في مصر من دول الخارج، لا بدّ أن يكون بمقدوره تحمل فاتورة إنفاق الدولة، والتي قد تصل 100 مليار دولار سنويًا. مصر دولة كبيرة، وإذا لم تكن تستطع تحمل تلك الفاتورة، فلتظلّ بعيدًا عنها”، موجهًا كلامه للخارج، في حضور محمد بن زايد، على هامش افتتاح قاعدة عسكرية، غرب البلاد.
تؤرّخ تلك المقولات إلى سمة رئيسة في عهد السيسي، وهي إمكان التنازل عن أيّ شيء، مقابل المال. فلا مقدّس ولا محرّم أمام بريق الدولار.
وبناءً على تلك القاعدة، تنازلت الدولة في مصر، خلال العقد الأخير، عن كثير ممّا كان يصنَّف “سياديًا” في الماضي القريب؛ لأنّ “الفلوس هي كلّ شيء” كما يعتقد السيسي ويشاطر تلك القناعات مع الرأي العام.
في عام 2016، فرّط النظام السياسي المصريّ، رسمياً، في سيادته على جزيرتي تيران وصنافير، الإستراتيجيتين على البحر الأحمر، تحت وطأة الحاجة وإغراء المال، لصالح السعوديّة، الّتي كانت قد توصلت لهذا الاتفاق، بعد عقود من المحاولات غير الناجحة مع مبارك.
وفي 2023، منحت الحكومة المصريّة دولة الإمارات لسانًا إستراتيجيًا ساحليًا يطلّ على البحر المتوسّط “رأس الحكمة” بمساحة تفوق 40 ألف فدان (185 مليون متر مربّع)، ضمن خطة عاجلة لإنقاذ الاقتصاد المصري من الانهيار، مقابل 30 مليار دولار.
وفيما يبدو أنّه تطبيق مبتذل لمفاهيم نعومي كلاين عن “عقيدة الصدمة” ورأسماليّة الكوارث، فقد غلبت النظرة الريعيَّة المجرَّدة من القيمة على تعاطي النظام المصريّ مع نكبة غزَّة بوضوح، ولو كان المقابل هو إطالة أمد الإبادة.
ليس فقط في ازدهار حركة التجارة البحريّة والشحن بين مصر “وإسرائيل” في خضم العدوان، أو في ترسيخ “چيوبولوتيك” الغاز، وإنما أيضاً في التربّح من عذابات أهل غزَّة الحالمين بالنجاة من الموت.
فشركة “هلا” التابعة لإبراهيم العرجاني، رئيس اتحاد قبائل سيناء والرجل المعروف بقربه المباشر من السيسي، قد وضعت نظامًا صارمًا يؤول إلى تعظيم الأرباح مقابل السماح للميسورين من سكان غزَّة بالنفاذ إلى مصر سريعًا، حيث قدرَت الشركة قيمة عبور الفرد البالغ بـ 5 آلاف دولار، تُدفَع مقدَّمًا، دون أوراق رسميَّة، يدًا بيد، ممن يرنو النجاة من الإبادة.
ووفقًا لتحقيق أجرته “سكاي نيوز” البريطانيَّة عن طبيعة عمل الشركة، فإنَّ العوائد التي حققتها “هلا” في يوم واحد، جرّاء عبور 246 شخصًا بين طفل وبالغ، تصل إلى قرابة 2 مليون دولار أمريكي، وهو معدّل ثراء مذهل حاول العرجاني تبريره، في حوار صحافيّ مع “نيويورك تايمز” بكونه ناتجًا عن رغبة الشركة في تقديمات خدمات VIP لعملائها.
وتقدَّر أعداد الفلسطينيين المنتفعين من خدمات الشركة، بحسب تصريحات سابقة أدلى بها السفير الفلسطيني في القاهرة دياب اللوح بنحو 200 ألف غزي، استخدم معظمهم خدمات شركة “هلا” لمغادرة القطاع خلال الحرب.
كما تلقَّى النظام المصري مارس/آذار 2024 حزمة مساعدات عاجلة، تقدَّر بما يزيد عن 7 مليار يورو، من الاتحاد الأوروبي، خلال زيارة تاريخيَّة تضمنَّت تفعيل “الشراكة الإستراتيجيّة” بين الطرفين.
ويعود التوقيت المتزامن مع ذروة الحرب في غزة إلى مكافأة النظام على سياسات كبح الهجرة غير النظاميّة لأوروبّا، عبر استقباله ملايين النازحين من اضطرابات بلادهم، ومنهم آلاف الفارّين من الحرب على غزَّة.
ومن ثم تكون العوائد مزدوجة: سيولة نقديّة دولاريّة من المعبر عبر بيزنس العرجاني المقرّب من الرئيس وجهاز المخابرات العامّة، وتراكميّة مع دول جنوب أوروبا تحت مظلّة الاتحاد الأوروبي والمفوضيّة.
بديهيًا فإنّه يصعب ابتلاع رواية: أنّ من تخلَّى عن سيادة بلاده على مناطق إستراتيجيَّة للخارج مقابل حزم الإنقاذ المالية العاجلة، عدةّ مرّات من قبل، سيكون راسخَ العزم وصادق النيّة في الدفاع عمَّا يُنظَر إليه في النهاية باعتباره “أرضَ الجيران”.
ونظرًا لعلم الإدارة الأمريكية الحالية بتلك المعطيات، فإنَّ شهية دونالد ترامب، المُرابي المشهور باستخدام الوسائل غير النظيفة لتحقيق أهدافه، تبدو مفتوحة للغاية لاستغلال النظام المصري المعروف بإدمان المال الخارجي وقابليّته للابتزاز، لتحقيق اختراق تاريخي في ملف غزة.
وسبق للدولة المصريّة، ذات الصفة الجمهوريّة العسكريّة في عصر ما بعد “كامب ديفيد”، تحت إدارة الرئيس مبارك، أن قبلت الانخراط في حرب التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة لتحرير الكويت من العراق 1991، مقابل تسوية ديونها الخارجيَّة، في ظلّ أزمة اقتصاديَّة كادت تعصف باستقرار الدولة حينها.
ومما يعزز تلك القراءة، أن إدارة ترامب بدأت تلوّح لوسائل الإعلام، باستخدام ورقة المساعدات العسكريّة للضغط على نظام السيسي لتسريع تمرير الصفقة، بالتزامن مع طرح تصوّرات مغرية تنصّ على إمكان تحمل مصر مسؤوليَّة غزة، بدلا عن “إسرائيل” مقابل إنقاذها من الغرق في بحر الديون التي وصلت إلى 155 مليار دولار أمريكي في أكثر التقديرات اعتدالًا. فما أشبه اليوم بالبارحة!
تهجير رفح المصريّة؟
على شاشات الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، تظهر صور ما بعد وقف إطلاق النار دمارًا هائلًا في رفح الفلسطينيّة؛ كما لو أنّ المدينة مُسِحَت من الخرائط، فلم يتبقّ منها إلا أطلال وركام، نتيجة امتداد المناورة البريّة الإسرائيليّة إلى جنوب القطاع بدءًا من مايو/ آيار 2024.
ولكن المفارقة هنا، أنّ رفح الواقعة على الجانب الآخر من الحدود، حيث الجانب المصري، قد تعرّضت إلى عمليّة محو ضارية هي الأخرى، ضمن سياق ما أطلق عليه:”الحرب على الإرهاب” في سيناء خلال الفترة من 2013 إلى 2021.
تهجير بقوّة السّلاح، ونسف للمباني السكنيَّة، وحصار لوجيستي من الخارج، وإحلال لمفردات الهندسة العسكريّة، من متاريس وأسوار وكمائن ومعتقلات وقيود على الحركة؛ وهي الإجراءات التي أدت إلى اختفاء المعالم الأصليّة للمدينة، تحت ذريعة حماية المدنيين من أعمال القتال، وتبسيط الجغرافيا وتسويتها أمام أعمال الاستطلاع والقصف الجوّي للمتمرّدين.
تقول منظمة “سيناء لحقوق الإنسان” إنّ السلطات المصريّة نفَّذت عمليتي هندسة ديموغرافيَّة على نطاق واسع في شمال سيناء خلال الحملة العسكريّة على التمرّد، الأولى عام 2014، وهي الَّتي أدَّت إلى تهجير ما يقارب 100 ألف مواطن من أهالي رفح، على مساحة 80 كم²، وهو ما يعادل ربع مساحة قطاع غزة تقريبًا.
والثانية في نهاية عام 2021، بعد نهاية العمليّات المسلَّحة في سيناء، وذلك لأغراض استثماريّة – أمنيَّة فيما يبدو؛ حيث اتسع نطاق المناطق العازلة ليصل إلى 2655 كيلو مترًا، بموجب القرار الرئاسي رقم 421 من نفس العام.
تقول “هيمومن رايتس ووتش” إنها وثقت في الفترة من أواخر عام 2013 إلى منتصف 2020 (أي قبل إقرار المنطقة العازلة الثانية رسميًا) وقائع تدمير القوات النظاميّة المصريّة ما لا يقلّ عن 12,500 مبنى سكني، وتجريف ما لا يقل عن 4,300 فدان من الأرض الزراعيّة.
وتخلل هاتين العمليتين أعمالُ تهجير ذات دوافع اقتصاديّة جنبًا إلى جنب مع الدواعي الأمنية، على غرار ما حدث في ميناء العريش ومطارها من حظر للأنشطة الاقتصاديّة الأهليّة، وتوسّع في بناء السجون، وضمِّ الممتلكات ذات القيمة المادّيّة العالية إلى الأجهزة العسكرية بالقوّة؛ دون السّماح لهم بالعودة إليها مجددًا.
مثلًا، يقع سجن الجفجافة، المقام حديثًا في شمال سيناء بواسطة الهيئة الهندسية للقوات المسلّحة، على مساحة 6 كم²، ويتسع إلى قرابة 20 ألف سجين، وهو رقم يعادل تقريبًا عدد السكان المحليين في مدينة الحسنة المقام عليها السجن، في تجلٍّ واضح لنمط العسكرة بالمدن الحدوديَّة، رغم انتهاء أعمال القتال.
وبعد منع السكان من العودة إلى أراضيهم بالقوَّة، ضمن ما يعرف بمحاكمات “حق العودة” التي تمت أمام القضاء العسكري لشيوخ سيناء ورجالها وأدَّت إلى إصدار أحكام عالية بالسجن ضد من تظاهروا احتجاجًا على تشريدهم؛ انتقلت مُلكية معظم الأصول الاقتصاديّة عالية القيمة من الجهات المدنيّة المحليّة إلى قبضة الأجهزة الربحيّة في القوات المسلّحة المصريّة.
ليس فقط ميناء العريش ومطارها، وإنما حتّى بحيرة البردويل التي آلت إلى جهاز “مستقبل مصر” التابع للقوّات الجويّة المصريّة، وعشرات الآلاف من الأفدنة القابلة للزراعة التي خصصت إلى “جهاز مشروعات الخدمة الوطنيّة” ومنها 87 ألف فدّان، بناء على قرار جمهوريّ عام 2023.
وعليه قد يكون من السذاجة المفرطة، الفصل بين ما حدث في رفح المصريَّة، وما وقع لاحقًا من أعمال هندسة ديموغرافيّة في رفح الفلسطينيَّة، ليس فقط من جهة الإلهام المتبادل، وإنما أيضاً من جهة الشرعنة.
فعندما سيثار السؤال الاستنكاري عن أخلاقيّة التهجير والنظرة الربحيّة للأرض وفقًا للرؤية الأمريكية الإسرائيليّة؛ سيتمّ استدعاء ما وقع في سيناء المصريّة، بذرائع الضرورة الأمنية والحرب على الإرهاب وحماية السكان من الأضرار الجانبيّة، فورًا.
سطوة ترامب على “الديكتاتور المفضّل”
“الرئيس ترامب سيجدني داعم وبشدّة من أجل إيجاد لقضيّة القرن في صفقة القرن” هكذا قال السيسي، في مؤتمر صحافي، بحضور ترامب، خلال ولايته الرئاسيّة الأولى.
ممّا يجدر الإشارة إليه في هذا السّياق، أنّ ترامب يستخدم ما يسمّيه “علاقته الشخصيّة” مع الزعماء لتنفيذ أجندته وأهدافه، وهو ما قد يكون تفسيرًا مقبولًا للثقة الّتي كان يتحدّث بها عن قدرته على إقناع الرئيس المصري وملك الأردن بضرورة إعادة تخطيط قطاع غزة، على أسس اقتصاديّة وأَمنيّة.
في الوقت ذاته، يلاحَظ أيضاً وجود سابقة تاريخيّة قريبة لتعمّد اصطناع حالة من العداء الظاهري على السّطح بين إدارة ترامب وبيت نظام السيسي، ظهر لاحقًا أنها لم تكن إلّا محاولة منسَّقة بين الطرفين لاحتواء الغضب الشعبي المحتمَّل إزاء قضيَّة حسّاسة؛ وهي الاعتراف الأمريكي بالقدس عاصمةً لإسرائيل ونقل سفارة واشنطن إليها رسميًا.
فبعدَ بيانات رسميّة مصريّة شديدة اللهجة ضدّ هذا القرار، كشفت تسريبات صوتيَّة بين ضباط مخابرات مصريين ونخب محليّة مؤثرة، أنّ قرارًا سياديًا رئاسيًا قد اتخذ بالاكتفاء بتلك الزوبعة غير الحقيقيّة، بغرض تفريغ طاقة الجماهير الغاضبة من القرار الأمريكي، بشكل آمن، والوقوف عند تلك النقطة، وعدم تجاوزها، تلافيًا لأيّ احتكاكات مع الإدارة الأمريكيّة.
وهو المضمون الَّذي أكده ترامب ذاته، على هامش أحد المؤتمرات الجماهيريّة، عندما ذكر، ساخرًا، أنّ الدول العربيّة لم تكن جادّة في بياناتها اللاذعة إزاء نقل السفارة الأمريكيّة من تل أبيب إلى القدس، مشيرًا إلى أنّ تلك اللهجة كانت تتهاوى كليًا في المكالمات الهاتفيّة بينه وبين الزعماء العرب.
موَّل السيسي، وفقًا لاستقصاء صحافي قامت به “واشنطن بوست” استنادًا إلى وثائق قانونيّة وتحقيقات رسميَّة جرت عام 2022، الحملة الانتخابيَّة الأولى لترامب بمبلغ 10 مليون دولار، تمّ تسليمهم إلى الرئيس الأمريكي الحالي، يدًا بيد، في حقيبة خلال لقاء ثنائي جمع بين الطرفين، قبل أيّام من إعلانه رئيسًا للولايات المتحدة.
واستنادًا إلى انخراطه في خطة ترامب في تصفية القضية الفلسطينيَّة، كان السيسي قد عرض على الرئيس الفلسطيني أبو مازن، تصوّرًا يفضي إلى حلّ القضيّة الفلسطينيَّة نهائيًا، من خلال توسعة قطاع غزَّة، عبر اقتطاع ما يعادل 1600 كم² من شمال سيناء، لإنشاء دولة فلسطينيَّة منزوعة السلاح، وذلك بحسب ما أدلى به الجنرال الإسرائيلي آرييه إلداد لصحيفة “معاريف” فبراير/ شباط 2017.
تفكيك القوى المجتمعيّة
وبتنحية كل القرائن السابقة، وافتراض حسن النيّة في القرار الرسمي المعلن بعدم الانخراط في أي مشروعات أمريكيَّة تستهدف قطاع غزة؛ فإنّ النظام السياسي المصري يواجه مشكلةً حقيقيَّة، تسببت فيها طريقته في الإدارة خلال العقد الأخير، وهي ضعف المصداقيّة لدى المجتمع، وانطفاء السّحر عن خطابه، وتداعي قدرته على الحشد، مما يقوّض قدرته على المناورة والمقاومة أمام الضغوط الأمريكيّة.
خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة، حاول السيسي حشد المواطنين في مناسبات عدّة، بالطلب المباشر، وبالتعبئة الوطنيّة الحماسيّة، وبالتسهيلات اللوجيستيّة، وبالترهيب من عواقب عدم الاستجابة؛ ولكنَّ النتائج النهائيّة كانت مخزية.
أبرز تلك المناسبات، كانت كواليس الانتخابات الرئاسيّة الأخيرة ديسمبر/ كانون 2023، حيث تحوَّلت حشود مهندَسة بواسطة الأجهزة الأمنيّة لاستعراض دعم السيسي في محافظة مطروح إلى مظاهرات معارضة، وهتافات ضدّ الحكم العسكري، وتمزيق للافتات الدعاية، في مشهد شديد التكثيف والدلالة.
كما عجزت السلطة عن الحشد التعبوي بعد أحداث السابع من أكتوبر مباشرة، حينما طلب السيسي تفويضاً ضمنياً من الجماهير في مواجهة الضغوط الخارجية، عقب لقائه المستشار الألماني أولاف شولتز.
وهو ما تكرر مجدداً عند محاولة الحشد عند معبر رفح البرّي، إسنادًا للموقف الرسمي من اقتراحات ترامب بخصوص غزّة، فظهرت التجمّعات، والتي كان معظمها من رجال الأحزاب التابعة للمخابرات والمنتمين لاتحاد قبائل سيناء، الذراع السياسي لإبراهيم العرجاني، هزيلة عددًا، وبلا فاعليّة ميدانيّة.
وهو ما دعا الإعلامي المؤيِّد للسيسي، إبراهيم عيسى، لانتقاد تلك الدعوات المهندسة للحشد، لأنها فضلًا عن ضعفها الكمِّي، تفتقد إلى التأثير السياسي، نظرًا لاطلاع الدوائر الأمريكيَّة على الطريقة الحقيقيَّة الَّتي تمَّ تحريكها بها. حافلات مهداة من رجال أعمال مقرّبون من النظام، تحشد موظفين حكوميين، ومواطنين بسطاء، مع إغرائهم بحوافز مبتذلة، مثل الوجبات المجانيّة والإجازات الاستثنائيّة.
الاستعداد للتنازلات؟
في العلن، يقول السيسي صراحة إنّ مصر في عهده ترفض تهجير الفلسطينيين عن أراضيهم، وتتحفَّظ على أيّ مخططات لتصفية القضيّة الفلسطينيّة، مؤكدًا تمسُّكَ مصر الرسميّة بالثوابت التاريخيّة الّتي التزمت بها منذ تدشين عالم ما بعد كامب ديفيد.
دولة فلسطينيّة، عاصمتها القدس الشرقيّة، على حدود 4 يونيو/ حزيران 1967، بما في ذلك قطاع غزة، جنبًا إلى جنب مع دولة “إسرائيليّة”. وتعيش الدولتان كلتاهما في سلامٍ واستقرار، وهو ما سبق وأعلنه السيسي أمام الجمعيّة العامّة للأمم المتحدة في خطاب شهير، كرره خلال العقد.
ولكنَّ هذا الخطاب الواضح، الذي يبدي ثباتًا وصلابة ظاهرًا، يضمر في ثناياه جملةً من التنازلات المتتابعة الَّتي ترتبط حصرًا لأول مرَّة في تاريخ القضيَّة باسم السيسي وسنوات حكمه، وتقوِّض هيكليًا إمكان قيام الدولة الفلسطينيّة التي ينادي بها، ومنها:
أولا، ترويجه لدولة فلسطينيّة منزوعة السّلاح؛ وهو الأمر الذي يتعارض أولًا مع مبدأ الدولة، إذ أنّ “السيادة” جزء لا يتجزّأ من مفهوم الدولة الحديثة، فضلًا عن تعارض هذا التصوّر مع حقيقة “إسرائيل النوويّة” ذات الأطماع التوسعيّة، والجذور الاستعماريّة، والتصوّرات العقائديّة الإقصائيّة. ولكنّ السيسي روّج لذلك!
ثانيًا، القبول الصريح بتهجير أهل غزَّة. صحيح أنه اقترح تهجيرهم إلى صحراء النقب، التي تعدّ جزءًا من فلسطين التاريخيّة، والواقعة تحت السيادة الإسرائيليّة حاليًا. إلَّا أن القبول بالتهجير كمبدأ، بل والدعوة إليه أمام وسائل الإعلام الدوليّة على الهواء مباشرة في خضمّ حملة الانتقام العسكري الإسرائيلي من غزة، يعدّ سابقة مثيرة للاهتمام والتفكير: كيف ولمَ خطرت على بال الرئيس المصري هذه الفكرة؟
ثالثًا، ربط حلم الدولة الفلسطينيّة المنشودة بهدف “القضاء على الجماعات المسلَّحة غير النظاميَّة” والإسلام السياسي، واعتبار ذلك إغراءً محفزًا لليمين الإسرائيلي للتفكير في إمكان الدولة الفلسطينيَّة، فالدولة الفلسطينيّة كما يراها السيسي هي فرصة لإحلال السلام في المنطقة، وقطع الطريق على الأيديولوجيا الإسلامية، الأمر الذي يعد هدفًا مشتركًا لدى كل من نظامه ودولة “إسرائيل”.
رابعًا، استسلامه لقرار اليمين الأمريكي والإسرائيلي بالاستئثار بالقدس كلها عاصمة لإسرائيل، وقبوله في الكواليس بذلك، بل ودعوته لتمرير قبول الرأي العام به، كما حدث في ولاية ترامب الأولى.
خامسًا، تصالحه – سابقا على الأقلّ – مع فكرة الاستعانة بأراضٍ من شبه جزيرة سيناء لتوسعة قطاع غزة، بل وعرضه ذلك داخل الغرف المغلقة، ليس فقط في ولاية ترامب الأولى، وإنما أيضاً في نهاية حقبة أوباما، وهو ما ذكره الضابط الرفيع في جهاز الاستخبارات العسكريَّة “أمان” ماتي دافيد عام 2016.
وسبق وأن أشار السيسي إلى استعداد مصر تحت قيادته إلى إرسال قوات من الجيش، لكي تضمن استقرار الأوضاع بين “إسرائيل” والفلسطينيين، خلال فترة انتقاليَّة طويلة، باعتبار الطرف المصري موثوقا لدى الطرفين، حال تم التوصل إلى تسوية مقبولة، وهو التصور المضمَّن في بعض خطط “اليوم التالي” التي تقدمها “إسرائيل” مثل أطروحة يائير لابيد الأخيرة.
ليصبحَ المشهد في الأخير: قطاع منكوب اجتماعيًا على نحو يصعب معه الحياة، وأرض خلاء متاحة في سيناء، ورئيس متصالح مع التنازلات، له سجلّ مخز في التنازل عن المقدسات الوطنيّة، يرأس نظاما هشا منكوبًا في اقتصاده، يتفانى في إظهار التودد لنظيره الأمريكي ذي الطموحات الجذريّة.
هذا الوضع إن لم يؤدِ فعليًا إلى سيناريو ترامب، التهجير والاستيلاء على غزة لأغراض اقتصاديّة وعسكريّة؛ فإنّه قد يؤدّي، على الأقلّ، إلى شرعنة التصوّر الأقلّ تطرّفًا: وهو الإعمار المشروط بنزع سلاح المقاومة وتفكيك بنيتها العسكريّة الَّتي راكمتها على مدار 20 عامًا، منذ قرر شارون الانسحاب من غزة.
وهو ما قد تقبله “إسرائيل” لأنّه سيكفيها مؤونة احتلال غزة عسكريّا وما يترتب عليه من استنزاف غير مرغوب، ويعفيها من فاتورة إعادة الإعمار وتحمل مسؤوليّة السكان، ويضمن لها غزة منزوعة السّلاح، ضمن تصورها عن الأمن المنشود في عالم ما بعد 7 أكتوبر.
وفي الأخير، يمكن اختصار الفجوة بين خطاب السيسي الرسمي عن رفض التهجير، وبين مقتضى السياسات على الأرض، بالمثل المصري الشهير:”أسمع كلامك أصدّقك.. أشوف أمورك أستعجب”.