في منتصف القرن الماضي، بدأ الكاتب الأمريكي إيريك هوفر في كتابة كتابه الأول، الذي ألحقه شهرةً كبيرة وواسعة، “المؤمن الصادق“، كان إيريك في ذلك الوقت يعمل على أرصفة تحميل السفن وتفريغها، في سان فرانسيسكو في الأربعينيات، شاغلًا وقت فراغه في كتابة البحوث الفلسفية وبعض الخواطر التي تأتيه، إلى أن خرج هذا الكتاب الذي نحن بصدد الحديث عنه.
في العام 2009، أقدم الدكتور غازي بن عبد الرحمن القصيبي على ترجمة هذا الكتاب، معتبرًا إياه مُجيبًا عن سؤاله الذي ظل يبحث له عن إجابة، لماذا يصبح الإرهابي إرهابيًا؟ رغم أن ظاهرة الإرهاب في أثناء كتابة هذا الكتاب، لم تكن معروفة.
جاذبية الحركات الجماهيرية
ما أكسب كتاب “إيريك” شهرةً، وجعله يقفز إلى قائمة الكُتُب الأكثر مبيعًا آنذاك، حين استشهد به الرئيس “أيزنهاور” في إحدى ندواته التليفزيونية.
“إن الحركات الثورية، بعبارة أخرى هي أداة واضحة من أدوات التغيير”.
أول سؤال يسأله هوفر في كتابه هذا، الذي أراد مِنهُ التعامل مع خصائص تشترك فيها كل الحركات الجماهيرية بشكلٍ ما، هو ما الذي يجعل الحركات الجماهيرية أكثر جاذبية؟
الحركات الدينية سابقًا كانت وسائل واضحة للتغيير، وما كان يميز دينًا عن آخر، هو تحريك الجمود، بعد الدعوة إلى التغيير الشامل والتجريب
وما يجذب أي شخص الانضمام لأي حركة جماهيرية مهما كان الهدف منها، هو رغبة هذا الشخص القوية في التغيير، بالنسبة لهوفر، كان هذا أول شيء يجذب الناس للحركات الجماهيرية، مؤكدًا أيضًا أن الحركات الدينية والقومية يمكننا اعتبارها هي الأخرى، وسائل للتغيير، فالحركات الدينية سابقًا كانت وسائل واضحة للتغيير، وما كان يميز دينًا عن آخر، هو تحريك الجمود، بعد الدعوة إلى التغيير الشامل والتجريب.
وفي العصور الحديثة، فالحركات الجماهيرية التي تستهدف إحداث تغيير واسع وشامل هي حركات ثورية وقومية، فعلى سبيل المثال: الثورتان الفرنسية والروسية، تحولتا إلى حركتين قوميتين، والقومية كانت سبيلاً لتوليد الحماسة الجماهيرية.
“على الراغبين في التغيير أن يوقدوا الآمال الجامحة، وليس من المهم أن ترتبط هذه الآمال بجنة سماوية أو بجنة على الأرض”
الرغبة في بدائل
“إن الإيمان بقضية مقدّسة هو – إلى درجة كبيرة – محاولة للتعويض عن الإيمان الذي فقدناه بأنفسنا”
ما الذي يجذب الناس للحركات الجماهيرية غير التغيير؟
يري إيريك هوفر هنا أن أهم ما يجذب الناس للحركات الجماهيرية أنها دائمًا تقدم بديلًا للأمل الفردي الخائب، بشكلٍ ما، هي تعويض عما فقده الشخص في نفسه.
على الرغم من أن البعض يقدم نقدًا للحركات الجماهيرية، أن الأمل الذي تقدمه دائمًا يكون عبارة عن مخدر، ووعود لن تُحقق، فإن الحاضر هو في الأساس قاسيًا
حين يؤمن الناس أن هناك أملاً للتغيير، وأنه يمكن إيجاد بديل، بعيدًا عن الحسرة والخيبة، حينها يصبح الغد شيئًا مثيرًا، ويبدأ الإيمان بالمستقبل.
على الرغم من أن البعض يقدم نقدًا للحركات الجماهيرية، أن الأمل الذي تقدمه دائمًا يكون عبارة عن مخدر ووعود لن تُحقق، فإن الحاضر هو في الأساس قاسيًا ولا يمكن معالجته، لذا يكون الأمل السبيل نحو القناعة للأشخاص المحبطين الذين يعتقدون أن حياتهم ميؤوس منها.
“لن نشعر أن لدينا شيئًا نستحق العيش من أجله ما لم نكن مستعدين للموت في سبيله. هذا الاستعداد للتضحية بالنفس هو الذي يثبت لنا وللآخرين أن البديل الذي فضلناه على الحاضر الفاسد الفاشل هو، فعلًا، أفضل بديل يمكن تصوّره”
المنبوذون
“إن مسرحية التاريخ يمثلها عادة طرفان، الصفوة من جانب، والغوغاء من جانب آخر، دون مبالاة بالأغلبية التي تقع في الوسط”
المعروف دائمًا أنه على مدار التاريخ يكون للأشخاص المتفوقين عقليًا دور كبير في قيادة الأمم، سواء إن كان في السياسة أم الأدب أم التجارة والصناعة، وأولئك الذين يقفون في الجانب الآخر، مِن فشله، ومنبوذون، والعاجزون عن التأقلم مع الأوضاع يؤدون أيضًا دورًا كبيرًا.
ما تفعله بعض الأنظمة الديكتاتورية، أنها تعمل على تجويع الناس وإفقارهم بشكل ممنهج، رغم أن بلدهم قادر على جعلهم يحيون حياة كريمة
الذي يجعل الغوغاء يؤدون دورًا مهمًا في مسيرة الأمم، أنهم لا يكنّون أي احترام للأوضاع القائمة، هم فاقدو الأمل في أي شيء، كذلك هم المادة الخام التي يصنع منها مستقبل الأمة، فمنبوذ اليوم من الممكن أن يكون قائد الغد، نظرًا لما عاناه من تهميش.
“إن الصراع اليومي للبقاء على قيد الحياة يحفز على الجمود، لا على التمرد”
الفقراء والثورة والملل
ما تفعله بعض الأنظمة الديكتاتورية، أنها تعمل على تجويع الناس وإفقارهم بشكل ممنهج، رغم أن بلدهم قادر على جعلهم يحيون حياة كريمة، أيضًا جعل الناس تدخل في صراع يومي من أجل البقاء على قيد الحياة، وأن يكون الهم الأول والأخير هو “لُقمة العيش”، وأن يحملوا هم الحصول عليها كُلّ يوم. هؤلاء لن يتمردوا على واقعهم، إلّا حين يصل فقرهم وبؤسهم، ومعاناتهم اليومية لدرجة لا تحتمل الصبر لثانية، حينها يكون الفقر مقدمة حتمية للثورة، أو سببًا لانضمام أصحابه لحركة جماهيرية.
“لا بد أن تكون درجة البؤس والمعاناة مرتفعة جدًا، لتدفع الفقير المنتمي إلى مجموعة إلى الثورة”
الذي يؤكد كلام إيريك هوفر في هذه الجزئية، هو الترابط القوي للأسر الصينية، الذي أخر كثيرًا صعود حركات جماهيرية وانضمام الناس لها.
ما يمكن أن يجمع الحركات الجماهيرية المختلفة والجماعات والأحزاب السياسية والنقابات، للخروج على نظامٍ ما، هو الكراهية الشديدة التي يكنها هؤلاء جميعًا لهذا النظام
الشعور العام باللامبالاة الذي نلاحظه الآن في وجود الأنظمة الديكتاتورية، ووجود عدد كبير من الناس الملولين، هو مؤشر قوي على نضج هذه المجتمعات للحركات الجماهيرية، الناس الذين يعانون من ظلامات اقتصادية أو سياسية لا تطاق، لا يقلون عن أولئك الذين يشعرون بالملل الخانق.
“يؤمن الثوري إيمانًا مطلقًا بقابلية الطبيعة البشرية للتطور إلى الأفضل”
العمل الجماعي
“تستطيع الكراهية الجماعية أن توحّد العناصر المتنافرة”
ما يمكن أن يجمع الحركات الجماهيرية المختلفة والجماعات والأحزاب السياسية والنقابات، للخروج على نظامٍ ما، هو الكراهية الشديدة التي يكنها هؤلاء جميعًا لهذا النظام، ولن تتوحد كل هذه العناصر المتنافرة، إلَّا بعد أن تتساوى كراهيتهم للنظام، ويكون هدفهم الأول، الثورة عليه والخلاص منه، فالكراهية أكثر العوامل الموحّدة شمولًا ووضوحًا.
بداية أي حركة جماهيرية وانتشارها، معتمد على مدى قوتها، ولا بد أن يكون لهذه الحركات قادة يتولون أمرها ويعرفون مدى تحديدًا تبدأ ومتى تنتهي
لا يمكن لأي حركة جماعية أن تنتشر وينضم إليها الناس، إلَّا ولها عدو واضح، تحاربه وتحاول إسقاطه، وفي الغالب يكون هذا العدو نظام فاسد، يجتمع الكل على كراهيته ووجوب سقوطه.
“من الواضح أن أكثر الطرق فاعلية لتحقيق التحوّل هو أن نجد أكبر عدد من الأشخاص الذين يكرهون كما نكره”
رجال الكلمة
“لا تصعد الحركات الجماهيرية، عادة، إلَّا بعد أن تتم تعرية النظام القائم. وهذه التعرية لا تجيء عفويًا نتيجة أخطاء النظام وسوء استغلال السلطة، بل عن طريق عمل متعمد يقوم به رجال الكلمة الذين يحملون ظلامات ضد النظام”
بداية أي حركة جماهيرية وانتشارها، معتمد على مدى قوتها، ولا بد أن يكون لهذه الحركات قادة يتولون أمرها ويعرفون مدى تحديدًا تبدأ ومتى تنتهي.
بقاء النظام يؤدي أدواره بنحو منتظم، سوف يجعل الناس تتعايش معه أو تتأقلم مع الوضع الذي فرضه عليها
وتعرية النظام وتجريده من شرعيته لدى الجماهير، يكون عن طريق رجال الكلمة، الأشخاص الذين يستطيعون صياغة الكلام، ولا يمكن تعويد الجماهير على تغيير أو طلب التغيير، إلَّا عن طريق بعض الأشخاص هم أولًا وقبل أي شيء، رجال فكر وأدب، يعترف لهم الجميع بهذه الصفة.
“عندما يغيب القادرون على صياغة الكلمات، أو عندما يوجدون ولا يحملون أي ظلامة، فإن النظام القائم، مهما كان فاسدًا وضعيف الإرادة، قد يستمر في الوجود، حتى ينهار ويسقط من تلقاء نفسه”
بقاء النظام يؤدي أدواره بنحو منتظم، سوف يجعل الناس تتعايش معه أو تتأقلم مع الوضع الذي فرضه عليها، ولن تتحرك من تلقاء نفسها، إلَّا حين يخرج أولئك الأشخاص ينادون بالتغيير، فيتبعهم الناس، وتكون حينها حركة جماهيرية.
“يمكن لرجل الكلمة أن يهدّد المؤسسات القائمة، وأن يدين المتربعين على مقاعد السلطة، وأن يُضعف الانتماءات والولاءات القائمة، وأن يهيئ التربة لحركة جماهيرية”
هذا الكتاب بمثابة مقدمة لا غنى عنها لأي دارس أو باحث وقارئ، يود أن يعرف ماهية وطبيعة الحركات الجماهيرية، كيف تبدأ؟ وكيف تتشكل؟
إيريك هوفر بذل مجهودًا كبيرًا في بحثه هذا، دراسة دقيقة وعميقة، وأعتقد أن قراءته حتى الآن دليل على أن ما فيه يصلح لما يحدث حاليًّا، وهو كتاب لا يُقرأ أبدًا في دفعةٍ واحدة، بل يُقرأ على مهل، وسوف تقف كثيرًا في كُلّ صفحةٍ منه، لتناقش نفسك وغيرك فيما جاء فيه.
وأؤيده الرأي حين قال: “لا يمكن أن يطول بقاء عهد ما، رغم عدم كفاءته، إلَّا إذا كان هناك غياب كامل للطبقة المثقفة”.