تصاعدت هجمات الطليعة ضد النظام، عبر اغتيالات وتفجيرات استهدفت مواقع حساسة، لكن حادث مدرسة المدفعية في حلب عام 1979 شكّل نقطة تحول في مسار الحركة الإسلامية.
إذ ردّ النظام بحملة قمع واسعة شملت اعتقالات وإعدامات طالت الإخوان وأفراد عائلاتهم، حتى وصل الأمر إلى إصدار قرار يقضي بإعدام كل من يثبت انتماؤه للجماعة، على الرغم من ذلك، لم يتبنَّ الإخوان رسميًا خيار المواجهة المسلحة إلا بعد تصاعد الضغوط من القواعد الشبابية داخل الجماعة، يقول حوى:
“من الإنصاف أن نقول إن أكثر العمليات قد نفذها إخوان الشيخ مروان حديد الذين كانوا يطلقون على أنفسهم اسم الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين في سوريا، إلا أنه من الإنصاف كذلك أن هؤلاء ما كانوا ليفعلوا الكثير لولا التِحَاق إخواننا بهم، ولولا دعمنا لهم ولولا تبنينا المواجهة”. صـ33.

ورغم غياب التخطيط الاستراتيجي، فقد حقق التمرد نجاحات ملحوظة حتى أواخر 1980. ووسط احتدام المواجهة، كان هناك تمزق على مستوى قيادة الإخوان، كما تأزم الوضع مرة أخرى مع تنظيم الطليعة وطرحت فكرة الولاء بينهما، كانت هناك دائمًا حالة من عدم الثقة بين الإخوان والطليعة، كما كان التنافس بينهما أكثر من التكامل.
رغم الدعم المالي غير المشروط الذي قدمته جماعة الإخوان للطليعة كما يروي حوى، فقد اندلعت خلافات حادة بينهما حول قيادة العمل العسكري، ومع مرور الوقت، تفاقمت الخلافات بين الطرفين حول القضايا الفكرية المطروحة منذ أوائل الستينات، ونتيجة لذلك، أوقف الإخوان دعمهم المالي للطليعة وأسّسوا جهازًا عسكريًا مستقلًا.
ثم في يناير/كانون الثاني 1982، وقبل أسابيع قليلة من مجزرة حماة، تولى حوى رئاسة ما عُرف بالجهاز العسكري للإخوان، إلى جانب دوره البارز في نشر الدعاية الإخوانية منذ عام 1979، خاصة من خلال مجلة “النذير” التي طبعت في أكثر من لغة وانتقدها أبو مصعب السوري بشكل خاص، معتبرًا أنها قامت على المبالغة والتضليل.
وفي السادس عشر من فبراير/شباط 1982م، دعا حوى الإسلاميين إلى القيام بواجبهم الديني ضد النظام في دمشق: “يا شعبنا يا أهلنا أيها المجاهدون، إن الجهاد في مواجهة الطاغية فرض عين على كل قادر عليه”، هذا ما أعلنه حوى في إذاعة صوت العرب السورية من بغداد.
ولكن رغم تجمع الآلاف من المقاتلين في المعسكرات المحيطة ببغداد، لم يتم تنفيذ الزحف العسكري المنتظر لتحرير سوريا. وفي النهاية، واجهت حماة مصيرها المأساوي، ووقعت المجزرة التي تجاوزت كل التوقعات. وأدى ذلك إلى فقدان قيادة الإخوان مصداقيتها بين أعضائها الذين أصيبوا بخيبة أمل كبيرة بسبب طريقة تعامل القيادة مع الأحداث. يقول حوى:
“لقد حدد أديب الجاجي أمراضنا في القيادة وهي أننا لا ننطلق على ضوء رؤية واحدة، ولا نظرية متكاملة، ولا نحسن التعامل مع بعضنا، وأن آلية العمل في القيادة والأجهزة ليست صحيحة”. صـ51.
بعد مذبحة حماة مباشرة، سعى حوى لتهدئة مشاعر شباب الإخوان الملتهبة، وألغى “خطة النفير” في مارس/آذار 1982، بعدما أدرك أن تنفيذها سيؤدي إلى مزيد من المجازر، كان هذا القرار منطقيًا في ظل التفوق العسكري الكبير للنظام.
ثم قرر مجلس شورى الإخوان تشكيل لجنة برئاسة “محمد علي الهاشمي” للتحقيق في الأحداث، ولكن لم يتم نشر التقرير علنًا، ولا يزال محتواه سرًا حتى اليوم، ومن الواضح أن كل طرف حمل المسؤولية على الآخر، حتى حوى نفسه ألقي باللوم على “علي البيانوني”، وفي هذه المعضلة مضى يقول:
“كان علي البيانوني دائم التشنج داخل القيادة، وأصبحنا نعاني منه في كل جلسة، وكان بعض كبار الحلبيين وراءه بشكل دائم ومنهم الشيخ عبد الفتاح، لذلك رأيت بعد أحداث حماة واختيار قيادة جديدة أن يعاد الجهاز العسكري له، لأن ذلك وحده هو الذي يمرر المرحلة ويبقي وحدة الجماعة”. صـ67.
لقد كانت مذبحة حماة لحظة فاصلة للإخوان السوريين، أعقبها سنوات من الفوضى والاستقالات والانقسامات والنفي القسري ورعاية مجتمع الآلاف من المنفيين، وفقدان الجماعة أهميتها، إذ ظلت لعقود بلا قاعدة داخل البلاد، وتشتت أعضاؤها في مختلف أنحاء العالم، وقبع آخرون في السجون. ونتيجة لذلك، تركت هذه المذبحة ندوبًا لا تزال ظاهرة حتى اليوم.
أما حوى فقد استقال من قيادة الجماعة وتم تعيين منظرها الجديد زهير سالم في عام 1985. يقول حوى: “كان أهم سبب في استقالتي أنني أرى القصور والعجز وكنت أشعر أن بقائي هو شهادة زور على أن الأمور سائرة في طريقها الصحيح”. صـ66.
على أي حال، تعرض عدنان سعد الدين وذراعه اليمنى سعيد حوى لانتقادات حادة من الجهادي أبي مصعب المنحدر من حلب، وقد حمل “عشيرة حماة” مسؤولية الأحداث التي أدت إلى المذبحة، وقد رأي أبي مصعب أن القيادة العسكرية للإخوان “ميتة منذ ولادتها” يديرها شيوخ يفتقرون إلى العزيمة وعقليتهم “لا حرب ولا سلام”.
وبشكل خاص انتقد أبي مصعب “الفرع العسكري” للإخوان بقيادة حوى، والذي اعتبره مثل التنظيم الإخواني الدعوي منظمًا في لجان، الأمر الذي دفع أبي مصعب للسخرية من القيادة العسكرية لـ حوى باعتبار أنها “أقرب إلى مجلس إدارة مؤسسة مالية”، إذ يرى أبي مصعب أن قيادة العمل العسكري تختلف عن العمل الدعوي، وجدير بالذكر أن وجهة نظره السلبية متطابقة أيضًا مع جهاديين سوريين آخرين.
كذلك يؤكد أبي مصعب أن حوى كان محبًا للتفرد بالقرار وهو ما ساهم برأيه في حدوث أخطاء كارثية، ويقول السوري: “الشيخ سعيد حوى كان شيخنا وكنا نجلس ونسأله أحيانًا، أنا أعرفه واشتغلت معه، وهو أخطأ أخطاء فاحشة وفظيعة في الجهاد، ولكنه فعلها من باب حسن النية ومن باب الديكتاتورية.. هو في كتاباته يقول أن الشورى مُلزمة وأن الأكثرية تُلزم، ولكن في الواقع كان لا يسمح لأحد أن يتكلم أمامه، لا أن يُلزمه برأي”.
وبعد المذبحة، تغيرت بعض قناعات حوى، حيث أصبح أكثر اهتمامًا بالوعظ والتعليم والفكر بدلًا من السياسة والجهاد، وهو موقف يعكس إلى حد كبير صدمة الحدث. في المقابل، سافر تلميذه وأحد أبرز مساعديه العسكريين، “أبو مصعب السوري” إلى أفغانستان في أواخر الثمانينيات للقتال ضد السوفييت. وقد نال تقدير الأفغان العرب بفضل مهاراته، وأصبح مفكرًا رائدًا في العقد التالي، مستفيدًا من بعض جوانب إرث حوى وأخطاء الإخوان والطليعة.
زمن الهزيمة واليأس: الصحوة الربانية
في الواقع، كانت السنوات الأخيرة من حياة حوى مليئة بخيبة الأمل، ولم يكن تدمير مدينته حماة أقل إيلامًا، فقد تدهورت حالته الصحية وتكاثرت عليه الأمراض. لكن الأهم أن سنوات حوى الأخيرة منذ المذبحة وحتى وفاته في العاصمة الأردنية عام 1988 مثلت فترة انتقالية مهمة في تفكيره.
فقبل مجزرة حماة كان موقف حوى مختلفًا تمامًا من عدة قضايا، فلم يكن يؤيد الديمقراطية تأييدًا كاملًا، وفي خطوة أشبه بالانقلاب على موقفه السابق، دافع عن الديمقراطية وشجع الإسلاميين على تبنيها، فقد كتب في كتابه “جند الله تخطيطًا” والذي أملاه على ولده معاذ في آخر حياته: “نحن نرى أن الديمقراطية في العالم الإسلامي مآلها أن ينتصر الإسلام، ولذلك فإننا نحذر أنفسنا وإخواننا من محاربة الديمقراطية العملية، بل نرى أن المطالبة بمزيد من الديمقراطية هو الطريق العملي لانتصار الإسلام”. صـ83.
يرى حوى أن وسائل التغيير العنيفة أثبتت أنها كارثية، ولذا أصر على أن الديمقراطية هي المناخ الأكثر ملاءمة لتحقيق الإصلاح ونجاح الإسلام في المستقبل. كتب حوى: “لقد كان الأستاذ البنا حكيمًا عندما أراد المشاركة في الحياة النيابية، وكان الأستاذ الهضيبي حكيمًا عندما دعا إلى إحياء الحياة النيابية في مصر”. صـ123.
وفي العديد من كتبه الأخيرة فضل المسار السلمي للتغيير ورفض طريق الثورة والجهاد المسلح للوصول إلى الحكم، ودعا إلى حرية الدعوة وتحقيق الإصلاح من خلال العملية الديمقراطية.
كما يرى حوى أن استخدام القوة لابد وأن يكون آخر وسيلة بعد انسداد كل السبل، إذ شدد على أهمية التدرج في العمل السياسي وعدم التسرع في المواجهة مع السلطات، وعند الفحص الدقيق يظهر أن حوى يحد بشكل كبير من التطبيق الفعلي لجهاد الأنظمة الحاكمة، يحدد حوى الخط الفاصل للقتال بمراعاة الصلاة، وحجته أن الصلاة هي التعبير النهائي للاعتراف بحاكمية الله، ومع ذلك، فإن هذا التعريف يشكل بلا شك قيدًا على جهاد الأنظمة بالسلاح.
وفي رأي حوى فإن جماعة الإخوان قد ضعفت من الداخل، ورغم أنه يوجه انتقاده إلى الإخوان بشكل عام، ولكن اهتمامه الرئيسي بفرعها السوري، ولذا اقترح وأصل لطريقة جديدة للعمل ضمن نظام استبدادي، أطلق عليها اسم “الربانية”.
يرى حوى أن التعليم والإعلام هما الأداتان الأكثر أهمية لتشكيل المجتمع، وأن الحركة الإسلامية في العصر الحديث فقدت كلتا الأداتين بسبب احتكار الدولة العلمانية للمؤسسات التعليمية وقبضتها على كل مجالات الحياة.
ومن خلال هذه الرؤية، شدد حوى على ضرورة مواجهة احتكار الدولة للتعليم والإعلام بالعودة إلى المسجد، والاهتمام بالجوانب الأخلاقية والتعليمية والفكرية، وإصلاح الفرد قبل المجتمع.
بالنسبة لحوى فلا فائدة من تكوين المجتمع الإسلامي دون وجود برنامج علمي يسميه “الربانية”، ومن خلاله يقترح إنشاء مدرسة في كل مسجد تعمل كبديل أو مكمل للتعليم الرسمي العلماني. وهنا يستند إلى فكرة الشيخ عبد الكريم الرفاعي الذي التقى به أثناء دراسته في دمشق في الخمسينيات، وكان الرفاعي يريد أن يقدم كل مسجد عددًا من حلقات العلم في مواضيع مختلفة، لكن حوى وسع من النطاق التنظيمي والتعليمي لمخطط الرفاعي، وأضاف إليه بعدًا اجتماعيًا.
فمن خلال المساجد، يتعين على المسلمين في كل حي وكل قرية أن يشكلوا مجموعة تتولى مهمة تنظيم التكافل بين أفراد المجتمع وإيجاد فرص للعاطلين عن العمل، إن نشاط الحركة الربانية سيكون اجتماعيًا ودينيًا في الوقت نفسه، فالربانيين سيتولون أيضًا التدريس في حلقات دراسية في المسجد وتوجيه الناس إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يقول حوى:
“إن إحياء الربانية من فروض العصر.. ولكي يوجد الرباني فلا بد من توافر شروط أربعة: الذكر، العلم، الأجواء المساعدة، العمل الدعوي والتعليمي”.
كذلك يرى حوى أن من واجب قيادة الصحوة الربانية تشجيع الجيل الأصغر سنًا على الالتحاق بالجيش بأعداد كبيرة، وأن يغرسوا في الشباب الرغبة في تعلم المهن التكنولوجية التي يمكن أن تخدم التقدم الصناعي والعسكري، وأن يشجعوهم على القراءة في المجالات العسكرية والاستراتيجية.
ويؤكد حوى أن الحركة الربانية ستكون بمثابة القاسم المشترك لجميع الحركات الإسلامية، وبالتالي فإن الانضمام إليها لا يعني التخلي عن غيرها، وبرأي حوى، فالعمل الموحد لجميع القوى الإسلامية تحت قيادة الربانية هو وحده القادر على تحقيق النهضة واستعادة الحكم الإسلامي في سوريا.
ومع ذلك، لا تمثل آراء حوى الاستراتيجية أو الأيديولوجية رؤية الإخوان السوريين الحالية، كما أن حلم حوى بتحرير سوريا قد أُنجز بالقوة والسلاح، وحققت البلاد استقلالها الثاني في الثامن من ديسمبر/كانون الأول 2024.