أقل من عشرة أيام تفصل تونس عن موعد الدور الثاني للانتخابات الرئاسية المبكرة، ومع ذلك ما زال المرشح الثاني في هذا الدور نبيل القروي في السجن، ما جعل الأصوات تتعالى من داخل البلاد وخارجها لإطلاق سراحه لضمان مبدأ تكافؤ الفرص بين المرشحين حتى لا تنهار العملية الانتخابية بأكملها، ما يضع استقلالية القضاء التونسي في امتحان كبير.
رفض مطلب الإفراج
في آخر فصول هذا الامتحان، رفض قضاة دائرة الاتهام بمحكمة الاستئناف في تونس أمس الثلاثاء مطلبًا جديدًا للإفراج عن رجل الأعمال نبيل القروي الذي تأهل لخوض الدورة الثانية من الانتخابات الرئاسية التي ستعقد في 13 من أكتوبر/تشرين الأول الحاليّ، لعدم الاختصاص، وهي رابع جهة قضائية تلجأ إليها هيئة الدفاع ويرفض طلبها (بعد دائرة الاتهام ومحكمة التعقيب وقاضي التحقيق).
ورفض القضاء كل مطالب الإفراج السابقة، ففي 3 من سبتمبر/أيلول قدم طلب بالإفراج لدى دائرة الاتهام إلا أنها رفضت ذلك بدعوى أنه ليس من اختصاصها، وفي 13 من سبتمبر/أيلول طلب آخر قدم لدى محكمة التعقيب التي رفضت بدورها ذلك بدعوى أنه ليس من اختصاصها كذلك، وفي 17 من سبتمبر/أيلول قدم طلب ثالث لقاضي التحقيق لكنه قوبل بالرفض مجددًا في 18 سبتمبر/أيلول وبنفس المبرر.
وكان يوم الجمعة الفائت قد تم إرجاء النظر في الطلب حتى الأربعاء بسبب إضراب للقضاة، ثم تقرر أن يكون الثلاثاء، وكان القروي قد حل في 15 من سبتمبر/أيلول ثانيًا في الدورة الأولى للانتخابات الرئاسية بحصوله على 15.6% من الأصوات.
جاء إيقاف القروي وإيداعه السجن، على خلفية شكاية رفعتها ضده منظمة “أنا يقظ” منذ سبتمبر/أيلول 2016 بتهمة التهرب الضريبي والتحيل
قبل ذلك بيوم، أكد مصدر مسؤول بوزارة العدل التونسية لوكالة تونس إفريقيا للأنباء (رسمية)، أن التفقدية العامة بوزارة العدل أحالت تقريرها الأولي المتعلق بإجراءات إصدار بطاقتي إيداع في حق كل من نبيل وغازي القروي على أنظار مجلس القضاء العدلي.
ورفض المصدر المذكور التطرق لجزئيات التقرير حفاظًا على المعطيات الشخصية المضمنة به، وفق تعبيره، مكتفيًا بالقول إن التفقدية أقرت إجمالاً بسلامة الإجراءات القانونية المتبعة، وكان وزير العدل التونسي محمد كريم الجموسي قد أذن بتعهيد التفقدية العامة بوزارة العدل للبحث في ملابسات إصدار بطاقتي الإيداع في حق كل من نبيل وغازي القروي والتثبت من سلامة الإجراءات القانونية المتبعة.
يعد نبيل القروي، أحد رجال نظام الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، ثم أحد مؤسسي حزب نداء تونس، وريث التجمع الدستوري الديمقراطي (حزب بن علي)، وأحد رجال الأعمال الذين يتهمون بالفساد والتحيل وتبييض الأموال، كما يتهم باستغلال معاناة المحتاجين والفقراء في تونس.
تطبيق للقانون
قرار دائرة الاستئناف وقبلها قضاة التحقيق عدم الإفراج عن المرشح الرئاسي الشعبوي والمثير للجدل نبيل القروي جاء لعدم الاختصاص كما بينا في بداية التقرير، ما يؤكد وفق العديد من الحقوقيين سلامة الإجراءات القانونية المتبعة في هذه القضية.
وكانت وزارة الداخلية التونسية، قد قامت في نهاية شهر أغسطس/آب الماضي، بتوقيف رجل الإعلام نبيل القروي عند عودته إلى العاصمة تونس قادمًا من مدينة باجة، وإيداعه السجن المدني بمدينة المرناقية، تنفيذًا لأمر قضائي صادر بحقه.
بالتزامن مع ذلك، أوضحت الوكالة العامة بمحكمة الاستئناف بتونس أن قرار إصدار مذكرة الاعتقال بحق كل من رئيس حزب “قلب تونس” نبيل القروي وشقيقه غازي القروي (في حالة فرار)، تأتي في إطار تطبيق الفصل 117 من مجلة الإجراءات الجزائية الذي ينص صراحة على أنه “يجوز دائمًا لدائرة الاتهام أن تصدر بطاقة إيداع ضد المظنون فيه (مذكرة اعتقال للمتهم)”.
جاء إيقاف القروي وإيداعه السجن، على خلفية شكاية رفعتها ضده منظمة “أنا يقظ” منذ سبتمبر/أيلول 2016 بتهمة التهرب الضريبي والتحيل، وقبل ذلك، قرر قاضي التحقيق المتعهد بالقضية بالقطب القضائي الاقتصادي تحجير السفر على المظنون فيه، وتجميد التعامل على الأملاك المنقولة والعقارية التابعة له، وتجميد الأرصدة البنكية الراجعة له.
وبالنظر إلى الملف الذي قدمته منظمة “أنا يقظ” للقضاء الذي يحمل أدلة قوية بخصوص شبهة فساد تتعلق بالتهرب الضريبي لنبيل القروي وعدم تسديده للعديد من الخطايا المتخلدة بذمتها لفائدة الدولة، يؤكد حقوقيون في تونس صحة وسلامة الإجراءات القانونية المتبعة في هذه القضية.
المرة الأولى في تاريخ تونس
بقاء رجل الإعلام والأعمال والمرشح الثاني للرئاسية نبيل القروي في السجن، وضع الهيئة العليا المستقلة للانتخابات في حيرة من أمرها، فهذه المرة الأولى التي تجد فيها هيئة الانتخابات نفسها في هذه الوضعية الدقيقة.
لا ينص القانون الانتخابي ولا الدستور التونسي الجديد الذي تمت صياغته عام 2014 على هذه الحالة غير المسبوقة، فالدستور لم يتطرق إلى مسألة رئيس أو مرشح في السجن، بل ينظر فقط في حال استقال الرئيس أو تنحى أو أصيب بمرض مزمن أو توفي.
ومن الوارد جدًا أن يقدم نبيل القروي في حال خسارته في الانتخابات أمام منافسه رجل القانون قيس سعيد الذي حل أولاً في الدور الأول بـ18.4% من الأصوات، على الطعن في النتائج على أساس اختلال مبدأ تكافؤ الفرص.
أمام ذلك، سيكون التونسيون أمام سيناريوهين: أولها أن ترفض المحكمة الإدارية (محكمة دستورية قضائية مخولة بالنظر في مسألة الطعون بشأن نتائج الانتخابات)، الطعن الذي سيقدمه القروي، وتقر بفوز قيس سعيد برئاسة البلاد، أما ثانيها فهو الحكم لصالحه وذلك بإلغاء النتيجة وبإعادة الانتخابات الرئاسية.
هذا الامتحان الذي وجد القضاء نفسه فيه، ازدادت حدته في ظل تنامي الضغوطات الداخلية والخارجية المسلطة عليه
تقر هيئة الانتخابات بوجود مس واضح وصريح بمبدأ عام في القانون الانتخابي يتعلق بتساوي الفرص بين المرشحين، إلا أنها تؤكد أنها غير مسؤولة عن ذلك، وأن قضية نبيل القروي بيد القضاء، وأنها قامت بما وسعها لضمان حسن سير الانتخابات.
وكان المرشح قيس سعيد قد عبر لدى استضافته في التليفزيون الرسمي التونسي أنه غير مسؤول عن الوضعية التي يوجد عليها خصمه السياسي نبيل القروي، وأنه كان يتمنى إطلاق سراحه من باب تكافؤ الفرص، مؤكدًا أنه رفض طوال الفترة الماضية الظهور إعلاميًا من باب الالتزام الأخلاقي بعدم استغلال المنابر الإعلامية في ظل سجن منافسه.
يرى تونسيون أن مبدأ تكافؤ الفرص لم يتمتع به المرشح المستقل قيس سعيد، ذلك أن القروي وإن كان في السجن فقد خصص قناته الخاصة نسمة للترويج لشخصه وقيادة حملته الانتخابية في تجاوز للقانون، كما استغل عمل جمعيته الخيرية “خليل تونس” لتبيض صورته.
ويحظى قيس سعيد في الجولة الثانية من الانتخابات التي لم يعلن موعد إجرائها لحد الآن، بدعم حركة النهضة الإسلامية وبعض المرشحين بمن فيهم الرئيس السابق منصف المرزوقي إضافة إلى الصافي سعيد ولطفي المرايحي وسيف الدين مخلوف.
وتقف هيئة الانتخابات عاجزة أمام هذا الوضع، فحتى في حالة فوز نبيل القروي بالرئاسة فسيكون هناك إشكال، فالفصل 87 من الدستور يقول “يتمتع رئيس الجمهورية بالحصانة طيلة توليه الرئاسة، وتعلق في حقه كل آجال التقادم والسقوط، ويمكن استئناف الإجراءات بعد انتهاء مهامه. لا يُسأل رئيس الجمهورية عن الأعمال التي قام بها في إطار أدائه لمهامه”.
تسعى عديد من القوى الداخلية والخارجية لإطلاق سراح القروي
هذا النص المتعلق بمنح الحصانة للرئيس لم يقل متى تبدأ هذه الحصانة، هل فور الإعلان النهائي عن الفوز في الانتخابات أو بعد أداء اليمين الدستورية أمام البرلمان، وهو ما يضع هيئة الانتخابات في إحراج جديد، ويضع القضاء في امتحان.
للفصل في هذا المأزق يجب الذهاب إلى المحكمة الدستورية وهي الوحيدة المخول لها مراقبة دستورية القوانين، وفق الفصل 120 من الدستور، إلا أن هذه المحكمة لم تشكل بعد نتيجة وجود تعطيلات من بعض الأحزاب التي تسعى لتعطيل المسار الديمقراطي في تونس.
وينص الدستور التونسي على ضرورة تشكيل المحكمة الدستورية في أجل أقصاه سنة بعد الانتخابات التشريعية التي أجريت في 2014، غير أن الكتل البرلمانية لم تتمكن من انتخاب إلا عضو واحد وهي امرأة، في مارس/آذار 2018 من أصل أربعة أعضاء.
هذا الامتحان الذي وجد القضاء نفسه فيه، ازدادت حدته في ظل تنامي الضغوطات الداخلية والخارجية المسلطة عليه، فالعديد من القوى داخل البلاد وخارجه تضغط لصالح الإفراج عن مالك القناة التليفزيونية الخاصة نبيل القروي، وتسعى لتجاوز القانون حتى يتمكن هذا المرشح من الفوز بالانتخابات الرئاسية، خشية منهم فقدان امتيازاتهم ومصالحهم.